حول الإرهاب ونهاية التاريخ
ولا نحسب أن القول بنهاية التاريخ تعبير دقيق لتوصيف واقع الحال، حتى إذا كان ذلك الإستخدام مجازيا، لأن التاريخ في مجمله هو وصف لمسيرة الإنسان. ولأنه كذلك، فإن القول بنهايته، يشير، بمعنى آخر، إلى القول بنهاية الإنسان، وهو أمر نجزم أن الكاتب لم يقصده. إن استمرار الحياة الإنسانية، يعنى استمرارية الأحداث التي تشكل في سلاسل متعاقبة ماضي الإنسان. وعلى كل، فأحلام البشرية في قيام مجتمع مثالي ليست بجديدة. فمنذ الفلسفة اليونانية، كتب أفلاطون عن تصور خاص لجمهوريته، واستمر الحلم.. ووجد دائما منظرون عند كل حقبة يبشرون بقيام مجتمع إخاء تلتغي فيه الحروب، ويقضى فيه على الأمراض والمجاعات، ولكن تحقيق ذلك بقي بعيدا عن المنال، لسبب بسيط هو أن التاريخ سيرورة تحكمها قوانين الصراع والمصالح. وما ينتج من أنظمة وقوانين ودساتير وسلوكيات ليس سوى انعكاس لواقع موضوعي، وانتقال في مراكز القوى، وتعبير عن تطور نوعي في مستوى الوعي والإرادة عند الشعوب.
ومن هنا تبرز قيمة الحدث التاريخي، بعد أن يتم ربطه بالحلم والمستقبل، فتصبح العلاقة صميمية بين التاريخ، كمعطى لتجربة إنسانية، وبين الفلسفة التي تستخرج من ذلك الحدث عبرتها، بعد أن تقوم بدراسة وتحليل أسباب وقوعه، وصولا إلى اتخاذ موقف شامل من الكون يمد بقواعد من السلوك. ولذلك قدس كانط وهيجل وفلاسفة آخرون العقل، واعتبروه سيد العالم.
والقول بنهاية التاريخ، قريب الشبه بالقول ببدايته، ذلك لأن ما يدل على الأحوال هو الخبر عنها، وأن كل شيء غير معلوم هو بحكم المعدوم. وهكذا فحين نقول ببداية التاريخ، فإننا نتكلم عن معرفة نسبية بعوارض وحوادث. فالتاريخ العام على هذا الأساس هو مجموع الأحوال التي عرفها الكون حتى اللحظة. وما يعنينا فيه ليس سكونه، بل حركته وصيرورته وإسقاطاتهما على منظومة قيمنا ومعارفنا، نستنبطها من خلال القراءة والتقييم والملاحظة.
ولذلك جعل القدماء من التاريخ مدرسة تابعة للسياسة والأخلاق، منطلقين من أن القدرة على الترجيح والإختيار ملازمة للملاحظة والإستنباط. وما دامت الأمور دائما نسبية، سيبقى الفرق قائما بين الإشارة والمشار إليه، وبين الرمز وما يرمز إليه، وبين الإستنباط وواقع الحال. وتبقى أمامنا معضلة تتعلق بشرح كتابة التاريخ, هل من الجائز أن يكون الباحث جزء من اللحظة التاريخية للحدث، ونحن ندرك أن معايشة الحوادث تعطي دورا، والدور لا يقوم إلا على موقف، والموقف لا يتأتى إلا عن اقتناع، والإقتناع في الغالب يستند على رأي، والرأي بدوره انحياز، وهو ما يناقض الحياد الذي يفترض أن يكون أحد الشروط الموضوعية في إصدار الحكم التاريخي. لكن سؤال يطرح في المقابل ضد هذا الرأي: هل إن المعرفة التاريخية لا تكون إلا بنفي الذات؟
ربما تساعد هذه المقدمة حول مفهوم التاريخ ودوره، في قراءة واقع الحال بعالمنا، كما يبدو الآن. فمنذ صدر كتاب “نهاية التاريخ” الذي أشرنا إليه، في صدر هذه المقالة، بطبعته الأولى، في بداية التسعينيات حتى هذه اللحظة، تدفقت مياه كثيرة، وشهد الكون هزات وعواصف في مختلف القارات، وتغيرت بشكل درامي ومثير الخارطة السياسية العالمية. واتضح أن ما حدث فعلا آنذاك، لم يكن سوى التصديق على شهادة الوفاة للنظام السياسي الكوني الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي دشنته نهاية الحرب ذاتها.
كان النظام العالمي الجديد قد شهد، بعد نهاية الحرب مباشرة، بروز قطبين رئيسيين في السياسة الدولية، هما الولايات المتحدة الأمريكية، وقادة المحور الغربي الرأسمالي، وفي مقابله الإتحاد السوفييتي، وقد قاد المحور الشرقي الإشتراكي.
ولا شك أن غياب أحد القطبين أحدث تغيرات رئيسية وكبيرة في مختلف المجالات. فقد بهتت المقولات الإجتماعية والإقتصادية التي ارتبطت بالفكر الإشتراكي. وأصبح العالم بأسره تحت رحمة القطب الآخر، الذي أخذ يتصرف بالساحة العالمية كشرطي حراسة، معتبرا قوته القدر المقدر. والنتيجة أن غياب القطب الآخر لم ينتج عنه، كما أشيع، قيام نظام دولي جديد، يسود فيه السلام والوئام في العالم. بل إن حالة الإسترخاء في النظام الرأسمالي التي سببها انعدام “الآخر” وانتفاء حالة التنافس أدت إلى انتفاء الحاجة لتعزيز الفكر الرأسمالي وترصينه. وهكذا فتحت الولايات المتحدة الأبواب مشرعة لعصر جديد من سياسة الهيمنة والنهب، لتطلق العنان لمبدأ آدم سميت “دعمه يعمل”، بعنفوانه المشهود، دون حدود، والويل والثبور لمن يعترض، فتهمة الإرهاب حاهزة ومعلبة، والسيف مسلط على رقاب الجميع. وبعد ذلك، ليس مهما حجم ما تسببه تلك الحروب من معاناة وبؤس وكوارث إنسانية. فالمطلوب هو توسيع دائرة الخانعين والمستسلمين، وتحقيق عائدات ربحية أكبر، وبعد ذلك ليكن الطوفان، فليس هناك مكان في عقل السادة الكبار للتفكير في حجم الدمار والخسائر التي يلحقونها، ولا عدد الضحايا من شعوب العالم المقهور.
لكن هذا السلوك غير الإنساني، والذي يفتقر لأبسط المقومات الأخلاقية، تناسى أنه في غمرة الحروب والصراعات المستمرة المحتدمة، يضطر الذين لا مال لهم ولا هوية، في العالم الثاني أو الثالث، لا فرق، للبحث من جديد عن حل للخروج من مأزقهم، بعد أن وجدوا كل الأبواب موصدة أمامهم، فلم يبق أمامهم شيء يخسرونه. ولذلك لم تكن مستغربة لكل ذوي بصيرة، محاولة المظلومين بعث ميتهم من جديد.
وتؤكد قراءة الأحداث في العقدين المنصرمين، أن وجود قطب آخر في السياسة الدولية كان عاملا إيجابيا في الحيلولة دون انتشار ظاهرتي الإرهاب المتبادل. فقد كانت الحركات الثورية، وبضمنها حركات التحرر الوطني، والحركات اليمينية المتطرفة تستند في دعمها على أحد المعسكرين. وكانت تلك الحركات تشكل الوجه الآخر للصراع بين القطبين الدوليين، فهي في الغالب متجانسة في أفكارها وسياساتها مع أحدهما، ولا تستطيع العيش وممارسة دورها دون المساعدات المالية والدعم العسكري والسياسي الذي تلقاه منهما. وكان ذلك عامل ترصين واحتواء لتلك المجموعات. ولذلك لم تشهد تلك المرحلة انفلاتا في السياسة الدولية كالذي يسود الآن. فقد كان يكفي أن يلتقي زعماء القوتين العظميتين، أو من يقوم بتمثيليهما، ليحسما من خلال المفاوضات والمقايضات ما يدور على المسرح العالمي من صراعات، فتتم المساومات بينهما، مستخدمين تلك الحركات لتحسين أوراقهما التفاوضية. وكان اتفاقهما يعني في محصلته النهائية تخفيفا من بؤر التوتر العالمية.
إن غياب الأب الشرعي للحركات السياسية والوطنية والأصولية، وتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة على العالم، خلق حقائق جديدة ساهمت مباشرة في بروز الإرهاب المتبادل واتساع دائرته. فقد أصبح على معظم الحركات التي تشعر بالغبن والجور أن تعتمد على ذاتها ولا تتوقع مساعدة من أحد، مما غيب إمكانية ترصينها وعقلنتها. وتم ذلك في وقت لم تعد فيه الإدارات الأمريكية تشعر بالحاجة إلى خلق نماذج اقتصادية متينة وأنظمة رأسمالية ليبرالية، تنافس من خلالها النموذج الإشتراكي، كتلك التي قامت باليابان، وجنوب شرق آسيا والتي أطلق عليها بالنمور الآسيوية. بل إن هذه الإدارات، بعد أن شعرت بزوال ثقل وجود القطب الآخر، أخذت تضرب يمنة ويسرة دون حساب أو وضع اعتبار لأي كان. وهكذا شنت بالسنوات الأخيرة حروبا، تعادل ما شنته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى سقوط الإتحاد السوفييتي. وتواجدت عسكريا في معظم مناطق العالم، بما في ذلك دول حلف وارسو الذي كان يضم الأنظمة الشيوعية، وخاضت حروبا في أفغانستان وكوسوفو والعراق وأمريكا اللاتينية، وعدد من الأقطار الأفريقية. ووضعت العالم بأسره في سابقة ليس لها مثيل في السياسة الدولية أمام خيارين: إما أن يكون فربما يكون قادرا على النفاذ بجلده، أو ضد سياساتها فيكون مصيره الجلد والقهر والتنكيل والحرمان، ويصبح خارجا على القانون، وغير جدير بتطبيق اتفاقيات جنيف المتعلقة بحالات الحرب بحقه.
وهكذا يبدو بوضوح أن التاريخ لازال في بدايته، وأن تعددية الأقطاب في السياسة الدولية، ورفض هيمنة القطب الواحد ربما تكون الملجأ الأخير للقضاء على الإرهاب، بكل مستوياته، سواء العمليات التي يشنها البيت الأبيض والكيان الصهيوني، أو أولئك المنفيون الباحثون لهم عن ملجأ في الأقبية والجبال والوهاد. وحتى يتحقق ذلك يبقى الطريق طويلا ووعرا، ويبقى التاريخ بعيدا عن نهايته التي بشر بها فوكوياما، وقال بها الفلاسفة من قبل. وحتى يتحقق ذلك، فليس لنا إلا أن نأمل… فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.