حوار أجرته تغريد سعاده ل “جريدة الكرمل”

0 142

تغريد سعاده

د. يوسف مكي اسم معروف في عالم الفكر والابحاث والدراسات. صب جل تركيزه على العروبة والقومية العربية. معروف عنه ولعه بقضية فلسطين، حيث كانت موضوع اطروحة الدكتوراه في جامعة دنفر الامريكية، وكان الراحلين د. ادوارد سعيد و د. نصير عاروري في لجنة الاشراف عليها. نشر عشرات المقالات حول القومية العربية وفلسطين. عضو الامانة العامة لمركز دراسات الوحدة العربية. وهو ابن منطقة القطيف بالمملكة العربية السعودية. لم يكن اللقاء معه بالامر الهين، فهو صاحب فكر رفيع، ومعرفة واسعة بالسياسة والادب والفن قل نظيره. بخبرته الطويلة ومثابرته وبالبحث العلمي، تشكلت عنده نظره خاصة لما يجري في العالم والمنطقة العربية. ”الكرمل“  التقته وحاورته حول عدد من القضايا، وكان اللقاء التالي :

بصفتك كاتب ومتعمق بموضوع القومية العربية، ولديك العشرات من الأبحاث والمقالات بهذا الخصوص، وعلى ضوء ما كتبت، هل ثمة أمل بأن تحقق مشروع القومية العربية، وبعيدا عن كل الشعارات، وما هي برأيكم المعيقات؟

يجدر التمييز أولا بين القومية العربية، وبين مشروعها. القومية هي عقيدة، وأداة تحريض للعرب، لكي يحققوا وحدتهم، استندت على إيمان بأن الأرض الممتدة من الخليج العربي شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا، تجمعها لغة واحدة وجغرافيا وتاريخ مشتركان، وأن قدره هذه الأقطار، هو الإنضواء في وحدة عربية. ومهمة هذه العقيدة تنتهي بعد تحقيق الهدف من بروزها. والهدف الذي هو تحقيق الوحدة العربية، وقيام الدولة القومية، على غرار ما حدث في القارة الأوروبية، حيث تشكلت دولها القومية، استنادا على وحدة اللغة. وقامت حركة القومية العربية في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر، وكانت موجهة في حينه ضد الاحتلال العثماني. وبسقوط السلطنة، تكون حركة القومية العربية، قد حققت جزءا من أهدافها، الذي هو التحرر من نير الهيمنة العثمانية. 

مرة أخرى، واجهت الحركة القومية، الاستعمار الغربي، واختلفت أشكال المواجهة وأنماطها بين مشرق الوطن العربي ومغربه. في المشرق، لم تتدخل العوامل الدينية في النضال القومي، لأن الذين شاركوا في قيادة العمل القومي، لم يكونوا مسلمين فقط. أما في المغرب العربي، في تونس وليبيا والجزائر ومراكش، فقد تداخلت المعاني القومية والوطنية والدينية، لكن الحراك ذاته، كان تماهيا مع مطالبة الحركة القومية، في حينه، بتحقيق الاستقلال السياسي لجميع الأقطار العربية، كمقدمة لازمة لتحقيق الوحدة.

الوحدة العربية، كما نفهمها ليست استعادة لماض سلف، بل ضرورة حضارية إذا ما أراد العرب أن يأخذوا مكانهم بجدارة في المسيرة الإنسانية، المتجهة إلى أمام، والتي لا تعترف إلا بالتكتلات الاقتصادية الكبري. وهي على هذا الأساس، نضال مستمر، يخضع لجدل التاريخ، من حيث تقدمه وانكفاؤه. لكن ذلك لا يعني بأي شكل من الأشكال، نهاية الحركة القومية، قبل تمكنها من تحقيق أهدافها السامية، لأن وجود هذه الحركة، مرتبط بقانون الضرورة. انتهاء دورها، يعني أن العرب، قرروا الخنوع، وأن يكونوا على هامش التاريخ، وذلك غير دقيق، ويدحضة استمرار المقاومة والممانعة العربية، بمختلف أشكالها، وبشكل خاص نشير في هذا السياق، إلى الصمود الأسطوري الفلسطيني، وإلى الهزائم المتكررة التي واجهها الكيان الصهيوني في قطاع غزة والجنوب اللبناني، وأيضا إلى صمود شعبنا في الضفة الغربية والقدس، أمام غطرسة الاحتلال.

المعوقات التي تعاني تواجه الحركة القومية، عديدة، أهمها بنية المجتمعات العربية الهشة، وهو ما أطلقته عليه في عدد من الدراسات بضعف التشكيلات الاجتماعية. يضاف إلى ذلك، التجريف الذي تتعرض له الحركة السياسية، في جميع الأقطار، بسبب هيمنة أنظمة الاستبداد، وعجز الحركة القومية، عن تقديم استراتيجيات جديدة، تأخذ بعين الاعتبار التحولات الكونية، التي تجري من حولها. لكن هذا الواقع، لا يشكل وضعا ثابتا لا يمكن تغييره. فهناك كما في كل تجربة تاريخية، لحظات نهوض، ولحظات انكفاء. وما يجعل من وجود الحركة القومية، ضرورة تاريحية وحضارية، هو أن الدولة القطرية بعد قرابة سبعين عاما، انجاز الاستقلال لبعضها، أكدت التجربة عجزها عن الإيفاء بمتطلبات النهوض، ومقابلة الاستحقاقات الأساسية للناس. وليس من مخرج للأزمة الراهنة، التي تعيشها معظم الأقطار العربية، سوى تحقيق نوع من التكامل الاقتصادي، والتنسيق في سياساتها، كمداخل هامة لتحقيق الوحدة.  

لا حظنا خلال متابعاتنا لموقف الأحزاب والحركات القومية العربية في المنطقة العربية، أنها وصلت إلى حد التناقض، وتباينت أراؤها علما أن الفكر واحد والهدف واحد، كيف تفسرون ذلك؟

نميز في الإجابة على هذا السؤال، بين نمطين من الأحزاب والحركات القومية. نمط مارس النضال الشعبي، ولم يكن في السلطة، وعاش خلافا مع نظرائه في الأحزاب والحركات القومية الأخرى. ونمط آخر، تمكن من الوثوب إلى السلطة، وعاش صراعا مع نظرائه ممن وصلوا إلى السلطة في أقطار عربية أخرى. والتمييز هذا ليس اعتباطيا، لأنه في الحالة الأولى ليس صراعا على السلطة. أما في الحالة الثانية، فلا يختزل في صراع الأفكار، وإنما يتعداه إلى الصراع على السلطة. 

الفكر القومي، كما أشرنا، نشأ منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن التأطير التنظيمي في بداياته كان محدودا، وتمثل في جمعيات سياسية نشأت في تركيا وبلاد الشام، تراوحت مطالبها بين مطالبة بعضها، بالحكم الذاتي، ضمن السلطنة العثمانية، وبين اعتبار بعضها الأخر، الحكم العثماني احتلالا أجنبيا، والمطالبة بالاستقلال التام عن سلطانه. 

هذا الواقع، تغير كثيرا، بعد الحرب العالمية الأولى، وهزيمة السلطنة العثمانية. فقد تكشف أثناؤها لرواد حركة النهضة الخديعة البريطانية، والنكث بالعهود والمواثيق التي أجرتها مع الشريف حسين بن على، والتي نصت على استقلال المشرق العربي، وبقائه موحدا تحت قيادة الشريف. لقد غدرت بريطانيا بالعرب، حين اتفقت سرا مع الحكومة الفرنسية على تقاسم المشرق العربي بينهما، وفق ما عرف باتفاقية سايكس- بيكو. ومن جهة أخرى، وعدت بريطانيا المؤتمر الصهيوني، بقيادة هرتزل، بأن تكون فلسطين وطنا قوميا لليهود. وليكون الوطن الموعود خنجرا مسموما في القلب من الأمة العربية، يعزل مشرق الوطن العربي عن مغربه، ويحول دون نهضة الأمة وتقدمها. 

صدمة رواد الفكر القومي، بنتائج الحرب، أدت إلى انكفاء أفكارهم مرحليا، وأفسحت المجال لتيار الإسلام السياسي، ليملأ الفراغ، منذ نهاية العشرينات من القرن المنصرم، حيث برز الإخوان المسلمون، وبشكل خاص في مصر. لقد اعتبر الحداثيون العرب، وفكرهم القومي، وتنسيقهم مع البريطانيين، أسبابا لما آلت له الأوضاع، منذ انتهاء الحرب الكونية الأولى. 

عاود القوميون حراكم مجددا، منذ منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، أثناء المقارعة البطولية للشعب العربي، في سوريا وفلسطين ولبنان والعراق للاستتعمار. ولم تعد الحركة القومية، مجرد تيارات شعبية، بل انتقلت إلى واقع جديد، اتسم بالتنظيم وقيام الأحزاب السياسية. وكان الأبرز بين هذه الأحزاب، ما تأسس في سوريا. فقد تأسس في مدينة حماه الحزب العربي الاشتراكي، بقيادة أكرم الحوراني، حمل الحزب مبادئ قومية واجتماعية. وأسس ميشيل عفلق وصلاح البيطار في دمشق حزب البعث العربي. وفي الشمال السوري، أسس زكي الأرسوزي حزب الإحياء العربي. وقد توحد الحزب العربي الإشتراكي وحزب البعث، ليحمل الحزب الجديد مسمى حزب البعث العربي الإشراكي، بشعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وأهداف الوحدة والحرية والإشتراكية. أما حزب الإحياء العربي، فقد التحق معظم أعضائه بحزب البعث، وبات مؤسسه، يحظى باحترام وتقدير واسع ضمن الحركة القومية، لكن بدون انتشار حزبي كبير. 

السؤال الذي تفضلت بطرحه، والذي تصدر هذا الحوار، تحتاج الإجابة عليه إلى دراسة واسعة ومكثفة، بما لا يسمح هذا الحوار به، أمام الكم الكبير من الأسئلة التي يحتاج الواحد منها إلى دراسة مستقلة.

تأسيس حزب البعث العربي الإشتراكي، بالطريقة التي أشرنا لها، كان في جانب منه تجميع لآراء مختلفة، فرض الوحدة بينها تطور الأحداث السياسية داخل القطر العربي السوري، والصراع بين القوى القومية التقدمية، وبين القوى التي وصفت بالرجعية على مقاعد البرلمان، والحيلولة دون تمكين تلك القوى بالهيمنة الكاملة على السلطة. لكن ما كان كامنا في النفس من خلافات بعضها شخصي والآخر، فكري بقي على حاله، متربصا أي فرصة للتعبير الصريح عن ذاته.

في مطالع الخسمينيات من القرن الماضي، أسس جورج حبش من فلسطين، وهاني الهندي من الأردن، وأحمد الخطيب من الكويت، وآخرون لم يتعدوا ثمانية أشخاص، حركة القوميين العرب. كان أغلب المؤسسين، يتلقون دراستهم في الجامعة الأمريكية ببيروت. وقيل في حينه، أن تأسيس الحركة هو الرد الطبيعي على هزيمة الجيوش العربية، في الحرب التي أدت إلى نكبة فلسطين. وكانت شعارات الحركة: وحدة، تحرر، ثأر تشي بذلك. 

ولما كانت الحركة قد تأسست ببنية قومية، فإن من الطبيعي أن تمثل تشكيلاتها ذات التوجه. وقد كان من ضمن الرعيل الأول في الحركة وديع حداد، وصالح شبل وحامد الجبوري. وقد سبق لحبش والهندي أن شاركا في تأسيس كتائب الفداء العربي، التي انتهى دورها عمليا بمحاولة الاغتيال الفاشلة لرئيس الحكومة السورية، أديب الشيشكلي. وقد تأثرت حركة القوميين العرب بأفكار جمعية العروة الوثقى، وفكر قسطنطين زريق، وبشكل خاص كتابيه، “في معنى النكبة” و”الوعي القومي”. 

لماذا تأسست حركة القومين العرب، في مطالع الخميسينيات، مع أن هناك حزب سياسي قومي ينادي بالوحدة والحرية والإشتراكية، ويطرح ضمن برامجه تحرير فلسطين. يجيب زعيم حركة القوميين العرب، الراحل جورج حبش، غداة تأسيس حركته، بأنه كان ضد تأسيس أي حزب سياسي لأن القضية الفلسطينية، لا يمكن حصرها في حزب واحد أيا تكن أهدافه ومبادئه. إن الحزب مفهوم ضيق، لا يتسق دوره مع قضية كبرى كتحرير فلسطين. إن حزب البعث، يطرح الاشتراكية، وذلك ما يسعر العداء الاجتماعي، في حين أن قضية التحرير بحاجة إلى جهود كل العرب، من غير تأجيج للصراع الاجتماعي. ويرد على أطروحته، المفكر الأردني البعثي منيف الرزاز، في محاضرة ألقاها بجامعة الاسكندرية عنوانها “لماذا الاشتراكية الآن”، بشير فيها لأهمية الفرز الاجتماعي في موضوع التحرر العربي، لأن قوى الاقطاع والرجعية هي التي تسببت في نكبة فلسطين، وأن فلسطين لن تحررها سوى الجماهير العربية. 

وهكذا كانت المناكفات بين البعث وحركة القوميين العرب، في البداية أيديولوجية، ويمكن القول أيضا أن من أسبابها التنافس على استقطاب أكبر عدد من المؤيدين والأتباع.

لم تكن هناك خلافات بين البعث وعبدالناصر، إلى ما بعد قيام الوحدة المصرية السورية عام 1958م. بل إن الكثير من المتابعين لم يتمكنوا من الفصل بينهما، خاصة وأن أدبيات البعث، ظلت حتى قيام الإنفصال عام 1961 تكيل المديح للتجربة الناصرية. وكان حضور شاعر البعث سليمان العيسي، بارزا بقوة في إذاعة صوت العرب القاهرية، حيث ألف الكثير من الأغاني الوطنية، والأكثر حضورا بينها كانت قصيدة 

من المحيط الهادر   إلى الخليج الثاثر

لبيك عبد الناصر

لكن هذا الواقع، تغير كثيرا بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا، حيث بدأت الخلافات بين عبدالناصر والبعث تبرز إلى السطح، خاصة بعد استقالة أكرم الحوراني من منصبه، كنائب للرئيس، وصلاح البيطار من منصبه كوزير للخارجية. وانسحاب البعثيين الآخرين من حكومة الوحدة. 

وحين قامت حركة الانفصال، عام 1961، التي أنهت وحدة القطرين، أيدها أكرم الحوراني، وصلاح البيطار وإن كان الأخير، ربط تأييده للانفصال، بقيام وحدة مدروسة بين البلدين، لكن ذلك لم يغير كثيرا من في طبيعة اتهامه بتأييد للإنفصال. 

منذ بداية الخميسينات، وإثر طرد مؤسس حركة القوميين العرب جورج حبش من لبنان، واستقباله لاجئا سياسيا بالقاهرة، انصهرت الحركة بشكل يكاد يكون تاما بالتجربة الناصرية، وباتت جزءا من حراكهاـ واستمر ذلك حتى نكسة الخامس من حزيران/ يونيو 1967م. 

تصاعدت حدة الخلافات، بين عبد الناصر والبعث، خاصة بعد وصول البعث إلى الحكم في العراق وسوريا، عام 1963م، رغم أن المبادئ التي طرحها عبد الناصر، بعد الانفصال، والمتمثلة في الحرية والاشتراكية والوحدة أصبحت أقرب كثيرا لفكر البعث ومبادئه. ومنذ ذلك الحين باتت خلافات حركة القوميين العرب والبعث، وجه آخر للخلاف الناصري البعثي، واستمرارا له. 

المستوى الثاني من الخلافات،  بين الأحزاب القومية، هو الخلاف بين نظامي البعث في العراق وسوريا، وبين عبد الناصر. والخلاف في جوهره، رغم تغليفه بجوانب فكرية وعقائدية، هو خلاف على الزعامة. وهو بحسب رأي الراحل الدكتور سمير أمين، من الأسباب الرئيسية لعدم تحقق الوحدة العربية. 

هذا الخلاف، صار أكثر شراسة، بين تنظيمي البعث ذاته، في العراق وسوريا، والذي اتخذ في مراحل معينة، وبشكل خاص في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، أشكالا دموية، وحال دون وحدة قطرين عربيين يحكمهما حزب واحد، يعلن أن تحقيق الوحدة العربية هو مبرر وجوده. 

يلجأ بعض الكتاب والمفكرين، وأنا ضمنهم، إلى التحليل الاجتماعي لقراءة واقع الخلافات السياسية بين الأحزاب. إنها البنية البطركية الهشة، المتصفة بالتسلط، وعدم اليقين، والحوصان، والمراوحة من اليمين واليسار، هي التي حكمت العلاقة بين الأحزاب القومية، وحالت دون نشوء الوحدة. ولذلك، يصعب توجيه الاتهام، لأشخاص بعينهم بأنهم السبب وراء ما حدث، لأن المعضلة هي بالأساس بنيوية. وما لم تتغير هذه البنية، بتغير المعطيات الاجتماعية، فإن الواقع العربي، يظل يراوح مكانه. 

س: ماذا تقرأ من أحداث الان والحاصل في المنطقة العربية، وإلى أين نحن ذاهبون؟

العالم بأسره يمر بمرحلة انفلات، السبب الرئيس فيها أن النظام الدولي الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى مطالع هذا القرن، غدا منتهي الصلاحية، ولم يبرز بعد نظام دولي جديد بديلا عنه، نظام يعكس حقائق القوة الجديدة، التي عبر عنها الصعود الاقتصادي الكاسح للصين الشسعبية، وعودة روسيا بقوة للمسرح الدولي، وأيضا تأسيس منظومات اقتصادية وسياسية جديدة كمنظومة شنهغاي والبريكس. ويبدو أن مرحلة انبثاق نظام عالمي جديد ستستغرق وقتا أطول، من النظامين اللذان سادا بعد الحرب العالمية الأولى، وما بعد الحرب العالمية الثانية.

النظام الدولي تعبير أوروبي، عرفته البشرية أول مرة، عام 1648 بتوقيع اتفاقية ويستفاليا، بعد حروب طويلة عاشتها القارة الأوروبية. ولما لم يكن من سبيل بين تلك الدول لاحتواء بعضها، أو إلغائها، اتفق المتحاربون، على الاعتراف بما يمكن وصفه بالأمر الواقع. لقد جرى الاعتراف بالحدود القائمة بين الدول الأوروبية، وبحق السيادة، وعدم جواز تدخل من قبل أي دولة في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

أثناء اندلاع الحرب العالمية الأولى، أعلن الرئيس ويدرو ويلسون ما عرف بالوثيقة العالمية لحقوق الإنسان، التي تضمنت أربعة عشر بندا، أكدت على حق الأمم في تقرير المصير، واحترام سيادة الدول، واعتبار الاستعمار عملا مقيتا وغير أخلاقي. كما أكدت على حرية الشعوب، واحترام حرية الرأي والاعتقاد.

وانتهت الحرب، بنشوء عصبة الأمم التي تبنت وثيقة ويلسون، لكنها في ذات الوقت قسمت المشرق العربي، بين الفرنسيين والبريطانيين، تحت مسميات الحماية والوصاية والانتداب، بدلا عن كلمة الاستعمار التي أدانتها مبادئ عصبة الأمم. وقد هيئت تلك المرحلة، لوضع وعد بلفور، بقيام وطن قومي لليهود في فلسطين، قيد التنفيذ. ولم يكن تشكيل عصبة الأمم سوى مرحلة قصيرة، بسبب ترنح الاستعمار التقليدي، وثقل أزماته الاقتصادية والسياسية.

فيما بين الحربين، تمدد النفوذ الاقتصادي الأمريكي، ليشمل جميع قارات الكرة الأرضية، في شكل شركات احتكارية، ومؤسسات متعدية الجنسية. وبالمثل كان الاتحاد السوفييتي يشق بقوة طريقه السياسي والعسكري، ويضم أراض لم تكن ضمن الأرأضي الروسية أثناء الحقبة القيصرية.

ولم يكن غريبا، أن تبدأ نذر الحرب العالمية الثانية، قبل أقل من عقدين على انتهاء الحرب الكونية الأولى. لقد كان هناك ما يشبه الإجماع الدولي على أن الحرب العالمية الأولى، هي حرب لم تكتمل، لأنها لم تعكس بقوة، حقائق القوة العالمية آنذاك، والتي مثلها خروج اليانكي بقوة، من خلف المحيط، والدور الرئيسي لرئيسها ولسون في صياغة ميثاق عصبة الأمم. 

في كلا الحربين، كان هناك مهزومين ومنتصرين، وكان المنتصرون وحدهم يحددون شكل النظام الدولي الجديد، المنبثق عن نتتائج الهزيمة. بمعنى أخر، تأسس النظامان اللذان تشكلا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، ليس بالتراكم السياسي، ولكن بالضربة القاضية. 

وهنا تكمن الإجابة على السؤال المطروح، إلى أين نحن ذاهبون؟

العرب للأسف ليسوا في وضع يسمح لهم، بشكل مستقل، أن يقرروا مواضع أقدامهم. وكل ما يمكنهم فعله هو اقتناص الفرص التي تتيحها التحولات الكونية، وتحسين مواقعهم في الخارطة السياسية الدولية. وذلك يتطلب وجود الحد الأدنى من التنسيق فيما بينهم. وأمامهم فرص كبرى، في الراهن والمستقبل، إن هم أحسنوا استخدامها. 

نحن نعيش فوضى كونية، لا مناص منها. إنها وسيلة القوى التقليدية والصاعدة، على السواء لتحسين أوراقها، قبل القسمة التي ينبثق من رحمها النظام الدولي الجديد. روسيا تعزز حضورها العسكري، في الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي، في جورجيا وبلاروسيا والقرم وأوكرانيا وكازاخستان، وتعمق تحالفها مع الصين الشعبية. وأمريكا وأوروبا الغربية، تعمل جهارا على محاصرة الاتحاد الروسي. وفي المنطقة العربية، يجري تنفيذ أجندات تفتيت مؤجلة منذ الحرب العالمية الأولى، على إخضاع الجغرافيا للبنى الإثنية والطائفية. وتواجه تلك المحاولات برفض وممانعة هنا وهناك… 

الواقع الراهن، والذي هو باستثناء استمرار روح المقاومة في عدد من أركان الوطن العربي، يبدو قاتما. لكنه يحمل الكثير من المفاجئات. والتقرير هذا ليس رجما بالغيب، بل هو وعي بأن عوامل الغضب على حالة التردي قد بدأت نذرها. يضاف إلى ذلك، أن منطقتنا العربية، هي قلب العالم، ونقطة وصل بين قاراته القديمة، وكانت دائما ميدانا رئيسيا للصراع بين القوى الكبرى. 

في مرحلة الانفلات الدولي، غابت عن واجهة اهتمام الأنظمة العربية قضية فلسطين، وتسارعت خطوات التطبيع، وتأسست القاعدة وداعش، وميليشيات الطوائف، لتشن حروب الوكالة، التي بات شنها بشكل مباشر بين القوى الكبرى في قائمة المستحيلات، بسبب وجود سلاح الردع، أو الرعب النووي.

ليس أمام العرب، بديلا عن قراءة واقع الصراع الدولي الدائرة رحاه الآن. واستثماره لتحسين مواقعنا، من أجل النهوض وتحقيق التنمية والتقدم والأزدهار، وبما يتسق مع مصالحنا القومية. وما لم نستثمر ذلك، فإننا سنضيف خيبة أخرى، إلى خيباتنا الأخرى، وفرصنا الضائعة. 

أعرف عنك أنك فلسطيني الهوى، وكتبت الكثير من الأبحاث والمقالات عن فلسطين، حدثنا كيف بدأ هذا الاهتمام؟

الاهتمام بالقضية الفلسطينية، جاء أولا من باب قناعة شكلت يقينا راسخا، برفض الاستعمار، بكافة أشكاله، وأعلى مراحل الاستعمار هو الاستيطان، كما هو الحال مع المشروع الصهيوني، الذي لم يكن له التحقق سوى بتشريد شعب من أرضه، وإحلال غرباء مكان السكان الذين نسجوا هويتهم الفلسطينية، عبر مراحل تاريخية استمرت من غير انقطاع لآلاف السنين. 

وثاني أسباب الاهتمام بالقضية الفلسطينية، هو ترابطها الوثيق مع مشروع النهضة والتقدم العربيين، وبالتالي مع موضوع الوحدة. وقد سكن في اليقين الترابط الوثيق بين المشروعين: مشروع النهضة العربية وتحرير فلسطين. ولم يكن هذا اليقين مجرد مماحكة فكرية أو تصور ذهني، بل هو أمر واقع، عبر عنه السلوك الصهيوني ليس فقط تجاه الفلسطينيين، بل تجاه العرب والقوى المؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية.

العقيدة الصهيونية، هي مشروع حرب، وليس هناك حدود واضحة ومعترف بها للكيان المسخ، فجميع حدوده مع الأقطار العربية المحاذية مفتوحة للتمدد والتوسع. ومقولة “أرضكم يا بني صهيون، من النيل إلى الفرات”، لا تزال تحكم سلوك الكيان الصهيوني حتى يومنا هذا، سواء كانت البرتوكولات الصهيونية صحيحة، أم غير ذلك. فما يهم هو السلوك، والصهاينة، لم يخفوا يوما أطماعهم في مياه نهر النيل في مصر، ونهر العاصي في لبنان، ونهر اليرموك بالأردن، وبجيرة طبرية في سوريا. وعلى ذلك فإن التهديد ماثل ومستمر، للأمن القومي العربي، طالما استمرت الصهيونية، عقيدة ملزمة للعصابات الحاكمة في “تل أبيب”.

وفي هذا السياق أيضا، يجدر التنبه، إلى أن ما يجري من تسارع في عمليات التطبيع بين البلدان العربية، والكيان الغاصب لن يغير من سلوك هذا الكيان. فالنظرة المتفحصة لسلوك هذا الكيان، تجاه الفلسطينيين، بعد توقيع اتفاقيات السلام العربية: كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو تؤكد تضاعف السلوك العنصري الوحشي للصهاينة، بالأرض الفلسطينية. لقد توضح أن هناك علاقة طردية بين توقيع اتفاقيات السلام، وبين العدوان على الشعب الفلسطيني، بحيث بدت اتفاقيات السلام، بمثابة الضوء الأخضر للصهاينة ليواصلوا اعتداءاتهم على الحقوق الفلسطينية والعربية. 

إن على الذين وقعوا اتقاقات السلام، ومارسوا الركض نحو التطبيع، أن لا يقعوا في وهم أنهم بذلك، يحمون ظهورهم، فالعدو سيستمر في سياساته، والمثال الأقرب على ذلك هو سد النهضة، ومخاطره على الأمن الفومي المصري، والدور الصهيوني في تأسيسه، وأيضا ما طرح مؤخرا، عن نوايا “إسرائيلية” بتأسيس قناة بحرية من إيلات إلى البحر الأبيض المتوسط، تكون بديلا، أو على الأقل منافسة لقناة السويس. 

الكيان الصهيوني، لن يقبل بوجود دولة عربية قوية، حتى تلك التي وقعت معه اتفاقيات سلام، وسلمت بمشروعية اغتصابه للأرض الفلسطينية. ولن يتورع حتى عن استخدام التخريب والمواجهة العسكرية، متى ما تأكد له أن البلدان العربية، التي طبعت معه تسعى لبناء قوتها الذاتية على الصعيد العسكري والاقتصادي.

أعرف أن لك بنتا اسمها جنين، ما سبب اختيار هذا الإسم، وهو غير مألوف في السعودية؟

جنين تمت ولادتها أثناء الصمود الأسطوري لمخيم جنين أمام الاجتياح قوات الاحتلال. وطبيعي جدا أن يكون صمود الشعب الأعزل أمام القوة العسكرية للعدو مثار إعجاب وافتخار وتقدير. وكان اختيار إسم جنين، تيمنا بذلك الصمود.

موضوع أطروحتك للدكتوراه كانت أيضا عن قضية فلسطين. وكان ذلك بجامعة أمريكية، لخص لنا نتائج البحث؟ من خلال قرءاتي للأطروحة تطرقت لأهم أسباب المأزق الفلسطيني؟

بحثت الأطروحة في سؤال فلسفي هام: لماذا تنتقل حركات التحرر الوطني في أهدافها واستراتيجياتها، أحيانا من موقف سلمي إلى استراتيجية الكفاح المسلح، ومن مبادئ الديمقراطية بنمطها الغربي، إلى تبني أيديولوجيا ثورية، ويسارية، كما في حالة الثورة الكوبية. والعكس صحيح، بالنسبة للثورة التي قادها نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، حيث انتقلت من استراتيجية الكفاح المسلح، إلى العمل السياسي السلمي، ومن اعتبار المستوطين غرباء ينبغي بعد التحرير أن يعودوا إلى أوطانهم الأصلية، إلى القبول بالشراكة معهم في وطن واحد، تحكمه الأغلبية السوداء، ويتمتع البيض فيه بحقوق المواطنة الكاملة.

قاد السؤال، إلى حالة منظمة التحرير الفلسطينية، التي انطلقت في مطلع عام 1964م، بعد أن دعى مؤتمر القمة العربي الذي عقد بالقاهرة بدعوة من الرئيس جمال عبد الناصر، لمناقشة كيفية التصدي للمشاريع “الإسرائيلية، الهادفة لتحويل مياه الأردن لصحراء النقب. وقد اتخذ المؤتمر مجموعة من القرارات، أهمها تشكيل قيادة دفاع عربية مشتركة، للتصدي العسكري المباشر لعملية تحويل مياه النهر لصحراء النقب. كما تبنى المؤتمر أيضا تشكيل جيش تحرير فلسطيني، يتبع الجيوش العربية، ويكون جزءا منها. بحيث يكون فرع جيش التحرير في سوريا، تابعا للجيش السوري، والفرع في الأردن، تابعا للجيش الأردني. والأمر ذلك ينطبق على فرع جيش التحرير في مصر. أما القرار الثالث والأهم، فهو تشكيل كيان يمثل الفلسطينيين، في المخيمات الفلسطينية، وبالأقطار العربية والمهجر. وقد أوكل لمؤتمر القمة تعيين رئيس منظمة التحرير، وقائد جيش التحرير الفلسطيني. 

ووقع الاختيار على أحمد الشقيري، الشخصية الوطنية الفلسطينية المعروفة. والذي شغل لما يقرب من العقد، وظيفة مندوب السعودية في الأمم المتحدة. واشتهر بخطاباته الجريئة، من على منبر الأمم المتحدة التي فضح فيها الممارسات الصهيونية، صدرت لاحقا في كتاب حمل عنوان “دفاعا عن فلسطين”. بات الشقيري منذ ذلك  الحين، حتى ما بعد نكسة يونيو/ حزيران 1967م، رئيسا لمنظمة التحرير، بقرار من القادة العرب.

قبل الإعلان عن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، نشأت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، بمنطلقات سياسية مختلفة، خلاصتها أن فلسطين هي قضية الفلسطينيين أولا. وأنه لا ينبغي التعويل، بشكل مطلق على الأنظمة العربية لتحرير فلسطين. لقد ثبت تخاذل الأنظمة العربية، عام 1948م. وفي عام 1956م، بعد هزيمة العدوان الثلاثي على مصر، ألقى الرئيس عبدالناصر، في قطاع غزة، خطابا، فاجأ فيه الفلسطينيين والجماهير العربية، بأن مصر ليس لديها خطة لمواجهة الكيان الصهيوني، من أجل تحرير فلسطين. وكان ذلك من ضمن العوامل المحرضة لقادة فتح لصياغة استراتيجيتهم الكفاحية، والتي اعتبرت الدور العربي، في أحسن أحواله مساندا للفلسطينيين وليس بديلا عنهم. 

انطلقت الأطروحة، من أن القضية الفلسطينية، لم تكن يوما مستقلة بذاتها، وأنها محكومة بالمواقف العربية الرسمية. وذلك لعدة أسباب: أهمها أن الثورة الفلسطينية انطلقت من المخيمات، في سوريا ولبنان والأردن، خارج حدود الجغرافيا التي يتواجد فيها العدو. إن هذا الواقع المرير، فرض على الفلسطينيين أن يسايروا الأنظمة العربية في سياساتها، وأن تكون سياسة المقاومة الفلسطينية متقاربة، إن لم تكن متجانسة مع سياسة هذه الأنظمة.

ومن هنا انبثقت الفرضية الأولى في البحث، والتي تشير إلى أن الفلسطينيين غيروا من استراتيجية التحرير الشامل للأرض الفلسطينية، عبر الكفاح المسلح، إلى القبول بقيام دولة، على الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها في حرب النكسة، وتحديدا بالضفة الغربية والقدس، وقطاع غزة. 

يلاحط أن هذا الانتقال بدأت مؤشراته، بعد مؤتمر الخرطوم في 29 أب/ أغسطس عام 1967م، حين فوض القادة العرب، الرئيس عبد الناصر والملك حسين للتفاوض السلمي، من أجل استرجاع أراضيهما. ومنذ ذلك الحين، كان على رأس الأولويات العربية، إزالة آثار العدوان، وليس تحرير فلسطين، ليبدأ الخط البياني، يتجه نحو القبول بالتسوية السياسية، وليس بالعمل المسلح. لقد وجد الفلسطينيون أنفسهم محاصرين، بين احتلال صلف ومتغطرس وتخاذل عربي. فكانت تلك المقدمة هي التوجه نحو الحلول السياسية وتبني قيام دولة فلسطينية، على الأراضي التي احتلت حديثا. 

فرضية أخرى، هي أن الوجود الصهيوني في فلسطين، ليس احتلالا عسكريا، بل هو وجود استيطاني، يستمد قوته، من أساطير توراتية، ودعم قوى، غير محدود من القوى الكبرى. 

لقد ناقشت الأطروحة الفرضيتين التي أشرنا لهما. وفرضية أخرى، ناقشت التركيبة الاجتماعية، الطبقية “لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية” وحركة فتح، التي تتصف بالمراوحة، والانتقال السريع في اتخاذ القرارات. لكن العنصر الأهم في هذه الفرضيات، هو فرضية تأثير النظام العربي الرسمي، على القضية الفلسطينية، ومواقف المقاومة.

مع اصدقاء في مدينة دنفر بولاية كلورادو الامريكية

في دردشة بيننا سابقا، حدثتني عن بعض المشاكل التي واجهتها حول موضوع اطروحة الدكتوراه بجامعة دنفر الامريكية والتي تتحدث عن موضوع حساس – الموضوع الفلسطيني –  بذلك الوقت في بداية التسعينيات، كيف حدث ذلك؟

الموضوع كله، جرى أثناء إعداد خطة البحث Proposal. كان من المفترض أن تتحدد اللجنة المشرفة على الأطروحة قبل كتابة الخطة. ومن المفترض أن تتضمن المسؤول في المدرسة عن قسم دراسات الشرق الأوسط، باعتبار الموضوع يخص قضية هي محور الصراع بالشرق الأوسط. ومن سوء طالعي، أن المسؤول عن ذلك القسم هو الدكتور جوزيف شالويز، الذي يفاخر بصداقته الحميمة مع أبا إيبان، وزير الخارجية “الإسرائيلي” آنذاك. وكان يعلق في غرفة مكتبه صورة تضمه معه. 

كانت حجة الجامعة، أنه من غير المعقول، أن لاتضم لجنة الأطروحة مسؤول قسم دراسات الشرق الأوسط، وموضوع الأطروحة يرتبط بقسمه ارتباطا وثيقا. وحين أوضحت أنني والدكتور نختلف جوهريا في رؤيتنا للصراع العربي- الصهيوني، كان الجواب أن العلم يتصف بالحياد. وأن اختلاف رؤيتي عن رؤية الدكتور شالويز، لن يغير في واقع البحث شيئا. وحينها عبرت عن خشيتي بأن يتسبب ذلك في تأخير إنجاز الأطروحة. وأبلغت العميد، أنني لن أسمح لرئيس قسم الشرق الأوسط، أن يؤثر على أدبيات ومنهج وتحليل الأطروحة. ووافقت بمضض، على مشاركته.

أشار شلويز أنه طالما أنني بصدد مناقشة عوامل التغيير في سياسات واستراتيجيات منظمة التحرير الفلسطينية، فعلى أن اهتم بأدبيات صنع القرار. لأن الانتقال في سياسة واستراتيجية منظمة التحرير تم بقرارات صادرة عن اللجنة التنفيذية والمجلس الوطني الفلسطيني. وكان ذلك بداية الاختلاف بيننا. 

والنقطة الثانية، التي أصر عليها، هو أن تكون الفرضية الرئيسية للبحث، هي أن “إسرائيل” أدارت الصراع مع الفلسطينيين بطريقة أجبرتهم على التنازل عن التحرير الكامل لفلسطين، والتخلي عن الكفاح المسلح، إلى الحلول السلمية. وذلك أيضا ما رفضت بشكل قاطع إدراجه كفرضية للبحث في الأطروحة.

استمر السجال بيني وبين الدكتور قرابة عامين كاملين، في رسائل بدت مناظرة بين رؤيتين: رؤية عربية تؤمن بحق الفلسطينيين في تحرير أرضهم، ولاتخرج في قراءتها عن المعايير العلمية. ورؤية أخرى، تجير للعلم للدفاع عن اغتصاب الصهاينة لفلسطين.

رفضت نظريات صنع القرار، لأنها صيغت لتتعامل مع أطراف متكافئة في وزنها وقوتها، ومع أزمات دولية، كادت أن تؤدي إلى اشتعال حرب عالمية، كالأزمة الكورية وأزمة الصواريخ الكوبية وقرارات مجلس الأمن الدولي تجاه المناطق الساخنة، ولم تتعامل مع حروب التحرير الوطنية. 

الدكتور شالويز يعرف بذلك بالتأكيد، ولكنه لا يريد إدراج منظمة التحرير ضمن حركات التحرر الوطني. وكنت من جانبي متمسك بذلك، ومصر على أن تكون أدبيات الثورة الجزائرية ومذكرات ماو وهوشي منه وغيفارا، عناصر مرشدة في البحث، باعتبار ذلك نتاج فكري لسنوات طويلة من النضال. 

ومن جهة أخرى، رفضت وضع فرضية القوة “الإسرائيلية” ضمن فرضيات التحليل، لأن جميع حركات التحرر الوطني في العالم، واجهت عدوا يفوقها عددا وعدة. وكانت هزائم الاستعمار أمام المقاومة المسلحة، في الأساس سياسية، كون المستعمر ليس بمقدوره تحمل الخسائر التي بمقدور حركات التحرر الوطني تحملها. إن قوى المقاومة، كما هو معروف في حروب العصابات، هي أقل عددا، وعدة لكنها تملك من التكتيكات والتجربة والتصميم، ما يمكنها من إلحاق الهزيمة بغريمها، الذي تفوق قوته قوتها، وطرد المستعمر. 

في نهاية المطاف، تغلب إصراري على إصراره، وجرى خلعه، من لجنة الأطروحة، وحل محله الدكتور إدوارد سعيد والدكتور نصير عاروري. وبعدها جرت الأمور بسلاسة. وهنا لا بد من كلمة شكر للصديق العزيز الدكتور زاهي كمال، الذي وقف معي منذ البداية، وقبل هو الآخر، أن يكون ضمن اللجنة التي أشرفت على الأطروحة، فله منى خالص تقديري ومودتي. 

برز في العقدين الماضين، عدة كتب، كان من بينها كتاب “فلسطين المتخيلة” لفاضل الربيعي ذكرت أن فلسطين ليست هي المعروفة الآن، وإنما قامت على أرض اليمن. ودولة بني إسرائيل تأسست هناك. فما رأيك في هذه الآراء؟

أي قراءة تاريخية، لا يمكن الأخذ بها ما لم تستند على بحث علمي، وشواهد تاريخية. والمؤرخون في العصر الحديث يستندون على جملة من الشواهد، أهمها وجود آثار ومنحوتات كتابية، ووثائق تاريخية، وسرديات جمعية. وفي الكتاب الذي تفضلت بالإشارة إليه، تنعدم كل هذه المواصفات، ولا يتوفر واحد منها.

المقاربة التي استند إليها الربيعي، تأسست على قراءة وثيقتين: الأولى العهد القديم، أو التوراة، والثانية كتاب الهمداني. والمراجع التي أشار لها في آخر الكتاب الذي تجاوزت صفحاته ألف وثلاثمائة صفحة لم تتجاوز العشرة مصادر، جميعها ذات علاقة إما بكتاب الهمداني أو التوراة. والأول لا يوجد لدينا ما يؤكد صحته، نظرا لفقدانه جزءه الأكبر، أما التوراة، فكتب بعد أكثر من ثمانية قرون، على نزول التوراة، ولا يمكن الاعتماد على نصوصه، في كتابة التاريخ. 

لم يكلف كاتب فلسطين “المتخيلة” نفسه، بقراء حتى النزر اليسير من تاريخ فلسطين القديم. ولسوء حظ المؤلف، فإن المكتبة العربية، والمكاتب العالمية عامرة، بالكتابات القديمة عن فلسطين، عمرانا وحضارة وتاريخا. 

في الصفحات الأخيرة من المجلد الأول، قام المؤلف برسم خرائط يمنية، فصل فيها موقع المدن الفلسطينية، بما يتفق مع رغباته. بل إنه لفرط جهله بجغرافيا فلسطين، قديما وحديثا، أشار إلى أن التوراة تشير إلى فلسطين “المتخيلة” باعتبارها أرضا جبلية، بينما أرض فلسطين أرض مستوية، وذلك ما يمنح أرجحية لرأيه في وجودها باليمن. ولو كلف نفسه، بإلإطلاع على الخريطة الطبيعية لفلسطين، لعلم أن جزءا كبيرا منها جبلية، تمتد وسط البلاد كعمود فقري، تشغل ثلثي عرض فلسطين، وتضم جبال الجليل ونابلس والقدس، التي تضم معظم الأماكن المقدسة، لدى المسلمين والمسيحين واليهود: القدس والخليل وبيت لهم والناصرة ونابلس وصفد. فمن أين وردت حكاية الأرض المستوية التي ابتدعها من خياله. 

تحدث في فلسطينه المتخيلة، عن عدم وجود المياه بكثرة في فلسطين، على نقيض اليمن. ولم يدر بخلده أن منطقة الغور تاريخيا، هي الجزء الشرقي من فلسطين، ويخترقها نهر الأردن مع بحيراته المعرفة، وأهمها بحيرة طبريا التي تقع في شمال فلسطين.

ثم إن التعلل بوجوود أسماء قريبة في قصيدة التوراة، موجودة باليمن، بعد تحريف واضح لها، لكي تتسق مع رأيه، يتناسى أن المدن العربية القديمة تحمل أسماء مشابهة لبعضها، بسبب التفاعل الحضاري بين أبناء الجزيرة العربية، وشمالها. وأن هناك مدنا قديمة تتواجد في قلسطين، توجد أسماؤها في جزيرة العرب. في المنطقة التي أعيش فيها، يوجد لدينا مدينة الجبيل وتاروب، وكلتاهما من المدن القديمة. وفي لبنان بنت جبيل وعش تاروت. وهناك مدينة الجوف “القديمة” في شمال السعودية، قريبا من الحدود الأردنية، ومدينة أخرى في قلب اليمن. فهل يمكن أن نصيغ أطروحة نستخلص منها تبعية أي منها للآخر، أو ننفي وجود أحدها كي تستقيم سرديتنا للتاريخ.

فلسطين أيضا، ليست واد ذي زرع، وعسلها ولبنها موجود منذ القدم، وليس شرطا أن يكون العسل واللبن يمني، كما هو رأي الربيعي.

فلسطين كانت المدينة الثانية، بعد دمشق للعهد الأموي. وقد اتخذها هشام بن عبدالملك عاصمة صيفية له. فهل تجشم الربيعي مهمة البحث عن المجتمعات التي قامت فيها والإدارة وهياكل الدولة والتاريخ، وأماكن العبادة كي يستنتج وجود فلسطين بأرض اليمن. 

الثقافة اليهودية، كما ثقافة المسلمين والمسيحيين، قائمة منذ آلاف السنين، تتغير وتتحور لكن أصولها باقية، وهو أصول لم تكن غريبة على أهلها كونها مستقاة من حضارات قديمة قامت فيما بين النهرين، كالحضارة الأكدية والسومرية والكنعانية. ومنذ القدم تشبعت الثقافة اليهودية بالنظرة القداسية لفلسطين الحقيقية، وليس فلسطين الربيعي. وعند كل صلاة، وكل مناسبة، يردد اليهود أمنياتهم بالحج إلى أورشليم، بمقولة أن شاء الله أورشليم في العام القادم. وذلك ليس ابتداعا صهيونا.

لقد جرت مناقشة بيني وبين الربيعي، في دمشق بعد صدور كتابه مباشرة، عن المصادر التي اعتمدها، وهل قرأ الكتب التاريخية، القديمة، كالبداية والنهاية لابن كثير، والكامل لابن الأثير، وتاريخ المسعودي، والطبري، وفي العصر الحديث، قصة الحضارة لديورات، وقصية البشرية لتوينبي، وتاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي فكان جوابه بالنفي. وتحدثت معه عن أصول الكتابة التاريخية، وأن لا يجوز له أن يصدر كتابا يقطع فيه في قضية مهمة، ذات علاقة بوجدان العرب ومشاعرهم، من غير الاستناد إلى بحث علمي دقيق وشامل. وفي حينها قال لي أنني أول شخص ينبهه لذلك. وتوقعت منه أن يراجع موقفه، لكنه وجد في الضجيج الذي أشاره كتابه، مغنما يضعه في مصاف المؤرخين، فلم يقم بتقديم أي مراجعة نقدية لعمله، بل واصل تكرار استنتاجاته، غير التاريخية، حتى يومنا هذا.

أنصح من يرغب في التعرف على تاريخ فلسطين، أن يقرأ كتاب العرب واليهود في التاريخ، للمؤرخ الدكتور أحمد سوسه. والكتاب استغرق أربعين عاما من البحث والتنقيب والتدقيق، وحاز على أعلى جائرة عراقية أدبية، في عهد الرئيس أحمد حسن البكر. والباحث أحمد سوسه، هو من يهود العراق، الذين قادهم البحث في علم الآثار، إلى اعتناق الإسلام. فكانت النتيجة أسفارا خالدة وبحوث مهمة، أعدها، وتوجها بهذا الكتاب. وفيه اعتمد الباحث، على النقوش والكتابات، والمعابد والآثار، ونقد السرديات التاريخية، كما يعمل أي مؤرخ جاد، يحمل الأمانة العلمية على عاتقه. كما أتوجه إلى الربيعي ذاته، بضمير صادق أن يقرأ هذا الكتاب.

الكتاب الآخر، تاريخ فلسطين الحديث، للدكتور عبد الوهاب الكيالي. وهو كتاب يهتم بالصراع العربي الصهيوني، لكنه يحمل في مدخله التاريخي معلومات هامة، عن تاريخ فلسطين القديم. 

وأعكف حاليا على كتابة بحث شامل حول هذا الموضوع، أرجو أن أتمكن من إنجازه في أقرب وقت، وأزودك بنسخة منه.

خلال متابعاتي عن حضرتكم، أعرف أنه جمعتك صداقة طويلة ومتينة مع مسؤول الدائرة الثقافية في منظمة التحرير الفلسطينة، عبدالله الحوراني، المعروف عنه قوميته ووطنيته ونشاطه البحثي، هل لك أن تحدثنا عن هذه الصداقة، وماذا جمعكما؟

الأستاذ الراحل أبومنيف، أخ وصديق وحبيب وتوأم روح. تعرفت عليه في وقت مبكر في حياتي. وتقطعت بنا السبل، وذهب كل منا حيث شاءت أقداره. والتقيت به مرة أخرى، عام 2003م، في صنعاء باليمن، أثناء انعقاد المؤتمر القومي العربي. وكانت تلك هي المرة الثانية، التي أحضر فيها هذا المؤتمر. تقدمت له وعرفته بنفسي. وذلك أمر طبيعي، بسبب حفريات الزمن على وجوهنا، بعد مرور قرابة سبعة وثلاثين عاما على لقائنا. فتذكر الراحل ذلك. وكانت بداية حقيقية لعلاقة متينة، جمعتني معه. ورسختها همومنا العامة المشتركة، وحلمنا في وطن عربي حر موحد، متقدم ومزدهر.

لكن ما شدنا لبعضنا، هو اهتماماتنا الأدبية والفكرية المشتركة. هو يحفظ الكثير من الشعر، وأنا أيضا أحمل نزعة حفظ الشعر القديم والحديث. وهو مولع بالرواية وأنا كذلك. 

استمرت لقاءاتنا بشكل منتظم، مرة واحدة على الأقل في العام، أثناء انعقاد المؤتمر القومي، في بيروت والخرطوم والدار البيضاء والقاهرة. وكانت لنا لقاءات في دمشق على هامش مؤتمر المستقبل العربي، الذي رعته الحكومة السورية. واعتدنا قبل رحيله بسنوات عديدة، أن نلتقي بالقاهرة، خارج ضجيج المؤتمرات، نتحاور ونتذاكر في الشأن العربي تارة، ونسوح في عالم الفكر والأدب أحيان أخر. 

برحيل أبو منيف، فقدت أخا عزيزا وصديقا وفيا، ورفيق درب، جمعتنا الأحلام والأمال المشتركة. رحل عن هذا العالم وبقي نبله وسيرته العطرة، تعيش في خلجاتي، حتى النفس الأخير. 

مع صديقه عبدالله الحوراني بزيارة لليمن

اهتمامك ليس أكاديمي وفكري فحسب، بل إعلامي أيضا، انت تكتب مقال اسبوعي. ألا تجد اللغتين مختلفتين فطابع الأكاديمي جامد، أما كتابة المقال فتحتاج إلى مرونة وسهولة في اللغة. كيف توفق بينهما؟

لا أجد فصلا قاطعا بين الكتابة الأكاديمية والفكرية، وبين لغة الإعلام، إلا من حيث توجه الأخيرة، إلى عامة الناس، في حين يبدو على الكتابة الأكاديمية والفكرية الصرامة العلمية. واقع الحال، الصورة النمطية للإعلام، تبدو مضللة، وغالبا ما ترتبط بالدعاية للنظم السياسية، خاصة في بلدان العالم الثالث، حيث تصادر حرية الرأي، ويكون النقد في خانة التجريم والتحريم. 

بالنسبة لي، أركز على القضايا الفكرية والتحليل السياسي، سواء كان ذلك بصيغة البحث، أو بصيغة  المقالة الصحفية الأسبوعية. الفارق بينهما أن المقالة القصيرة لا تتطلب شكل البحث العلمي من توثيق للمعلومة، وصياغة الإطار النظري. والكثير من الصحفيين يفتقرون إلى الأسلوب العلمي في الكتابة الصحفية، حيث ينبغي أن يكون للفقرة معنى مستقل، ولكنه مرتبط بالمقالة. وكذا الحال بالنسبة للجملة، وللفاصلة والنقطة، كل ينبغي أن يكون جزءا من التعبير، وأن يأخذ مكانه بدقة، وإلا اختلفت المضمون والمعنى. 

أمارس روح الكتابة الأكادديمية والفكرية، في البحوث والدراسات والمقالات القصيرة على السواء، مع تقدير فارق المساحة، ونوعية القاريء. وفي اعتقادي أن هذا النوع من الكتابة صعب، على من لا يملكون القدرة على البحث والتحليل. وغياب القدرة العلمية في الكتابة، هو سبب رئيسي في إغراق المكتبات العربية، بمنتج غث وهزيل.

صدرت لك العشرات من الدراسات والأبحاث، ماذا عن مشروعك الجديد الذي تعمل عليه؟

أعكف حاليا على استكمال دراسة عن جدلية الجغرافيا والتاريخ: المشرق العربي نموذجا. ناقشت فيه جدل العلاقة بينهما قديما وحديثا، في ثلاثة مناطق هي وادي النيل وما بين النهرين، والجزيرة العربية. أنهيت العصر القديم، وأعكف حاليا على دراسة العصر الحديث.

كما أعكف على استكمال دراسة عن نقد الفكر القومي العربي، بدأت طرحها في شكل مقالات قصيرة نشرت في صحف عربية. وقد حان الوقت، لانجازها في مشروع فكري متكامل. وهناك رغبة ملحة لدي في التصدي للأطروحات الجديدة، حول المسألة الفلسطينية، وبشكل خاص موضوع “فلسطين المتخيلة”. 

لديك مكتبة كبيرة، حدثنا دكتور عما تتضمه مكتبتك من الكتب، وأهم مواضيعها. كم تقدر عدد الكتب والمجلدات؟

المكتبة ليست كبيرة، وإنا هي تلبي بعض احتياجاتي البحثية. ففي المدينة التي أعيش فيها، لا يوجد مكتبة عامة، يمكن أن نستعير كبتها. ولذلك نلجأ إلى شراء الكتب. المواضيع التي تتوفر في المكتبة، هي في تقديري، المواضيع التي يحتاجها كل مثقف. فهي تضم كتب تاريخ وفلسفة وأدب واجتماع وسياسة واقتصاد. أهتم بجمع المصادر الكلاسيكية للفكر السياسي والفلسفي. كما احتفظ بعدد ليس بالقليل من الروايات التي ألفت  منذ المرحلة الرومانسية الأوروبية. وبروايات عربية لحنا مينه ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف. كما احتفظ بدواوين الشعر القديم، في ما يعرف بالعصر الجاهلي، والعهدين الأموي والعباسي، وأيضا الشعر المعاصر، للجواهري والنجفي والرصافي وشوقي وحافظ ابراهيم. ومن شعر التفعيلة، لنازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، ونزار قباني ومحمود درويش وغيرهم…

عدد الكتب التي بحوزتي ينوف على السبعة ألاف كتاب، لكنك ستصطدمين، حين تعلمين أنني في كثير من الأحيان أكتشف أن حاجتي من المصادر والمعلومات غير متوفرة فيها. 

وهل لديك كتبا الكترونية، وهل تفضلها على الكتاب الورقي؟

لدي عدد محدود جدا من الكتب الالكترونية، لكني في الواقع، أفضل الكتاب الورقي، ربما لأنني أمضيت الجزء الأكبر من عمري، قبل بروز الكتاب الالكتروني. وربما هو انتمائي لزمن غير هذا الزمن. لكنني لا أمانع في قراءة الكتاب الألكتروني، إذا ما تعسر علي وجوده ورقيا.

هل لك أن تحدثنا عن طقوسك في الكتابة، أنت دائم الحضور، على الأقل بشكل أسبوعي بمقال ينشر لك في صحيفة الخليج. كيف تكون الفكرة، وما هي أليات الكتابة عندك؟ وهل تختلف الطقوس بين المقال والبحث؟

الكتابة من وجهة نظري، حضور دائم. ولست من الذين يتبعون فيها طقوسا دقيقة. واهتم كثيرا بالقراءة، أكثر من اهتمامي بالكتابة. القراءة بالنسبة لي متعة وزاد معرفة، والكتابة خلق وإبداع. والفرق بينهما كبير. المقالة الصحفية، أسهل بكثير من البحث. اكتبها دون عناء، لأنها لا تستدعي دائما حضور مصادر، بل يكفي أن يكون للمرأ من التراكم العلمي والمعرفي ما يستدعيه حين الكتابة. وبالنسبة لي، أميز بين نوعين من الكتابة الصحفية. نوع يتعلق بحدث سياسي كبير، يستدعي المناقشة والتحليل، وتحديد موقف منه. ويمكن أن يتضمن هذا النوع من المقالات قراءات استشرافية. على سبيل المثال، كيف سيكون مستقبل الصراع على أوكرانيا. وإلى أين تتجه الازمات التي تحيق بعدد من الأقطار العربية: سوريا، لبنان، العراق، ليبيا، اليمن، تونس…

بالتأكيد الكتابة التحليلية عن القضايا الراهنة، تتطلب متابعة إعلامية، تتضمن جذور الأزمة، ومواقف القوى المحلية منها، ودور القوى المحلية والإقليمية والدولية، في اشتعالها.

أما النوع الآخر، من الكتابة الصحفية، التي أمارسها، فهي الكتابة الفكرية. وهي بالنسبة لي هي الأهم، لأن أثرها لا يرتبط بمرحلة قصيرة، بل هو ممتد إلى ما لانهاية، طالما استمرت الحياة. أسعى لأن أقدم منتجا فكريا جديدا، يسهم في تحقيق التراكم الفكري، ويمارس نقد ما هو سائد من الأفكار أو يضيف إليها. ورغم قصر هذه المواضيع، فإنها بالنسبة لي يمكن أن تكون مفاتيح، لأبحاث علمية مستقبلية، تلتزم بالمعايير الأكاديمية. 

في القضايا الفكرية، يعيش معي الموضوع، عدة أيام قبل كتابته. والمعاناة ليست في الكتابة، وإنما فيما قبلها. وحين تكون الأفكار جاهزة ومتسقة، يتم وضعها بسهولة على الورق. واعترف أنني قبل أن أصل إلى ما يدعوة هيجل بالطريحة، أكون في حالة توتر وغير صالح للصحبة، إلى أن تتبلور الأفكار بشكل كامل. حينها يتغير المزاج. ولك أن تعرفي أي نوع من المعاناة هذه، معاناة لا تنقطع، خاصة وأنني كما قلت أكتب مرة على الأقل كل أسبوع. هذا عدا الدراسات الأكاديمية التي أنفذها مختارا، أو بتكليف من أحد المراكز البحثية العربية.

بالنسبة للبحوث الفكرية، الوضع مختلف تماما. فغاليا ما يكون هناك وقت كاف، للكتابة. على سبيل المثال، مؤسسة الفكر العربي، تعطي المشارك في بحوثها السنوية، فرصة تزيد على الأربعة أشهر، وكذلك مركز دراسات الوحدة العربية، يمنح وقتا مقبولا للباحث، كي ينجز بحثه. بمعنى أن مطرقة الوقت غير موجودة، إلا في حالة الاسترخاء وتأجيل الموضوع، للأيام الأخيرة.

هناك جهد كبير مطلوب، في كتابة البحوث. فالكاتب يعتمد على المصادر، وعليه أن يقرأ الكثير، لكي يكون بحثه ثريا، بالمعلومات والمقاربات والتحليل. واعترف أن رهاب الكتابة البحثية ظل يلازمنى باستمرار، خشية التقصير، وأن يكون ما أقدمه أقل مما هو متوقع مني. 

كيف تقيم الحالة الفكرية، في المنطقة، أعلم أنك متابع للأدب والفن، أحب معرفة رأيك فيهما، وأنت الذي كتب عديدا من المقالات حول هذا الموضوع؟

الفن والأدب هما انعكاس للواقع الاجتماعي، وإن كانا في حالات النهوض يتقدمان عليه. والمشرق العربي، كان له شرف السبق، في قيادة الإبداع في المجالين الفني، والأدبي. وأفكار النهوض العربي، هي بالأساس مشرقية. النهوض الأدبي والفني استمر في الوطن العربي، بخط بياني صاعد لأكثر من خمسة عقود، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، حتى مطالع السبيعينات من القرن الماضي. وتزامن مع تصاعد حركات التحرر الوطني. كان التدافع النضالي يعبر عن توق نحو التنمية والتقدم وتحقيق الرخاء، وبناء مجتمع سعيد. وكان الفن بكافة تشعباته، يأتي متناغيا مع هذه الأماني، ومعبرا عنها. 

منذ السبعينيات، وبعد الطفرة النفطية الأولى، بدأ المجتمع العربي، ينتقل بشكل حاد من الاقتصاد المنتج إلى الاقتصاد الريعي. وسادت ثقافة الاستهلاك، التي غيبت كل ما هو جميل في إبداعاتنا الفكرية والأدبية. وتعمت ثقافة ما يطلق عليه إخوتنا المصريون بثقافة “سلامتها أم حسن”، و”السح اندح أمبو”. وجاءت الثورة الرقمية، ومواقع التواصل لتقضي على البقية الباقية من اهتمامات الشباب الأدبية والفنية. 

منذ ذلك الحين، أعني منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، برز عدد من أخوتنا في المغرب العربي، بالقيام بدور أساسي في الصعود بالفكر العربي، وكان الأكثر حضورا بين هؤلاء محمد عابد الجابري وعبدالله العروي، وعلى أمليل وعبدالإله بلقزيز، ومحمد أركون، ومحمد سبيلا، وهشام جعيط، وغيرهم..  

لقد سهلت الثورة الرقمية، نشر الكثير من الغث، وغاب العمل الجاد، بغياب المعايير، وعدم القدرة على التقييم، في المجالين الفني والأدبي. باتت مراكز النشر، تتردد في نشر الكتب الضخمة، لعدم وجود سوق جيدة لها. وساد مزاج عام بين الشباب يرفض قراءة المقالات المطولة، ويهتم بالجملة وليس بالفقرة. وأصبح التويتر والفيس بوك، وغيرهما من مواقع التواصل مصادر للمعرفة. وسوف يستمر ذلك، إلى أن يتغير واقع الحال، فننتقل من المجتع الريعي إلى المجتمع المنتج، ونضع حدا لثقافة الاستهلاك، وهو أمر  ينبغي أن تضطلع به الحكومات، ويكون إلى جانبهم المثقفين والمبدعين والمهتمين بالشأن العام.

ما أعرفه أنلك ميول في كتابة الشعر، حدثنا عن هذه التجربة، ولماذا لم نرى ديوان لك؟

أنا في الحقيقة لا أصنف نفسي شاعرا، وإن كنت قد كتبت شيئا منه. لم أخطط مطلقا لكتابة قصيدة، ولكن في بعض الأحيان أتفاعل مع حدث ما، وتنساب الكلمات وأكون محظوطا حين يكون لدي قلم وورقة. وكثير منه ضاع مع الريح، لأنه لم يكتب في حينه. معظم القصائد التي كتبتها، صيغت في أماكن خارج المنزل، إما في مقهى عام، أةو في حديقة، أو على ساحل البحر. 

والغريب، أنني مع قوة ذاكرتي، في حفظ الشعر، يصعب على حفظ ما أنتجه، إلا القليل القليل، ربما لأنني في لاشعوري، لا أرغب تصنيفي ضمن قائمة من يكتبون الشعر. قصائدي في الغالب رومانسية، والقليل منها سياسي. ومن حسن الحظ أننى احتفظ بملف يضم ما لم يذهب مع الريح. 

ولعل مرد ترددي في مجالي الشعر والرواية، هو أنني خطوت خطوات كبيرة، في مجال الكتابة الفكرية والتحليلية، وبت معروفا في الأوساط الثقافية العربية، وأخشى أن أركب مركبا آخر، لا يكون بالمستوى الذي بلغته في محال الكتابة الأكاديمية, ولعله جزء من الرهاب الذي يلازمنى عند محاولة التطفل على الفكر والأدب بشكل عام. ولدي محاولتين في كتابة الرواية، الأولى بعنوان “السقوط” وهي سياسية بامتياز، والأخر “ردين” وتحمل بعضا من سيرتي الذاتية. لا أفكر حاليا بنشرهما. وربما يأتي وقت ذلك لاحقا. 

ما لم تحققه من أحلام؟

لم يكن لدي أحلام خاصة بي، أثناء شبابي، سوى الأحلام التي حملها الجيل الذي انتمي إليه، حلم الوحدة والحرية والكرامة. وللأسف فقد تكسرت المجاديف، وواجهت هذه المشاريع عواصيف عاتية، لعل الأقسى بينها نكسة حزيران، والتراجع المريع عن مشروع تحرير فلسطين وبناء النهضة العربية. وعلى الصعيد الشخصي، حققت الكثير مما لم يحققه أقراني بالمجتمع الذي انتمي له. لكن المرارات والخيبات السياسية التي شهدتها، لم تتمكن من التعرض لينبوع الحب، الكامن في ذاتي. وسأظل متمسكا بأهدابه ما حييت. 

ما هي نصيحتك للشباب بعد كل هذه التجربة الناجحة والمثابرة؟

أن يكون لدي الشباب حلم باستمرار يرنون لتحقيقه. لا تتوقفوا عن الحلم حين يصدمكم اليأس. وأوصي بالقراءة المكثفة الجادة، فهي العلاج الحقيقي لكثير من المشكلات. وهي السبيل لتحقيق المصالحة مع الذات.

مكي وهو طالب مدرسة بالصف السادس- ثاني متوسط

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

عشرة − 1 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي