حوار أجرته الصحفية التونسية رشيده لصالح صحيفة الشروق
الأول: نجحت الثورة الشعبية في كل من تونس ومصر واستطاعت إسقاط أنماط حكم تعد من أعتى الأنظمة دكتاتورية في الوطن العربي، على أن المخاض الذي تعيشه مرحلة الإنتقال الديمقراطي تتعرض لخطرين داهمين: خطر الإجهاض من قبل الأنظمة الرجعية العميلة وخطر الهيمنة الدينية. ما هي برأيك أسباب هذه الأزمة، وكيف يمكن الخروج من هذا المأزق الملتبس؟
في البداية أشكر لك تفضلك باقتراح فكرة الحوار، ولعله أول فرصة تتاح لي لتجسير علاقة مع أهلنا في تونس، علاقة كان من المفترض أن تكون حاضرة بقوة مع شعب عربي أصيل، قدم إسهامات تاريخية رائدة على صعيد النضال وفي مجالات الأدب والفكر، بما عضد الحراك القومي ومشروع النهضة العربية.
فيما يتعلق بالإجابة على سؤالك، تواجهنا أولا معضلة ابستمولوجية حول تحديد مفهوم الثورة. فقد أسرف الكل في استخدام تعبير “الثورة”، دونما تحديد للقصد. استخدمت الثورة في أدبيات الفكر العربي، بمعان مختلفة، ارتبطت في الغالب بالكفاح الملحمي ضد الاستعمار، بمعنى ارتباط المفهوم بالتحرر الوطني. وليس في ذلك ضير، طالما أصبح المفهوم واضحا للمتلقي. الثورة استخدمت أيضا، بمفهوم التحول في موازين القوى الاجتماعية. وتلك صفة طبعت الثورات الاجتماعية الكبرى في التاريخ الإنساني.
وإذا ما انتقلنا إلى الثورات الشعبية، التي ارتبطت بـ “الربيع العربي”، فإننا نقبل بالتوصيف بمعنى كسر حواجز الخوف، وعبور برزخ القنوط واليأس، وذلك ما لا جدال حوله. أما أنها تعنى كنس الترسبات الراكدة، فذلك ما لا يزال في خانة التمنيات. ولا يوجد لدينا ما يشي بوجود برامج عملية لتحقيقه.
المخاطر التي تتعرض لها التحولات في تونس ومصر، يمكن تلخيصها في غياب البرنامج السياسي، للانتفاضتين في البلدين الشقيقين. وتلك طبيعة أي حراك عفوي. فكما تعلمين، ارتبط الحراك الملحمي في تونس بحادثة الشهيد بوعزيزي، بعد تجريف منهجي للحركة السياسية الوطنية, وقد تزامن هذا التجريف بإلغاء متعمد للطبقة المتوسطة، مبدعة الفكر وصانعة التغيير في المجتمعات الإنسانية. وقد جاء الإلغاء في صيغ عدة، تركزت في إلحاق كتلة منها بالنظام البائد، وبصفقاته الاحتيالية، وربطها بشبكة الفساد. وكان إفقار هذه الطبقة وإخراجها من موقعها الاقتصادي هو الوسيلة الأخرى في الإلغاء.
أما البقية الباقية من هذه الطبقة، فقد وجدت في الإسلام السياسي ضالتها. وبسبب تقاطع الطروحات والمصالح بينها وبين شييوخ النفط، فإنها لم تتعرض لشحة المال، بل على النقيض من ذلك تماما. وقد ساعدها ذلك، على بناء هياكلها، وهيأ لها شروط الانتشار، بكل مقوماتها. وقد مكنها الطابع العفوي للثورات الشعبية، من اقتناص لحظة التحول، والتقدم إلى الأمام، وقطف ثمرة تضحيات الجماهير.
الثاني: منذ مرحلة السبعينات طرحت مشاريع غربية تهدف لتفتيت المنطقة العربية، وتدمير كياناتها الوطنية، وتفتيتها وإفراغها من محتواها السياسي والإقتصادي. ماهي برأيك العلاقة الوظيفية المحتملة بين التحولات العربية الراهنة وبين مشروع إسرائيل الكبرى؟
قلنا إن تدهور الأوضاع الداخلية في الوطن العربي، على كل المستويات من شأنها تسهيل عملية الاختراق. فيما يتعلق بالخارج، هناك مشاريع وخرائط جديدة معدة للمنطقة، تستهدف إعادة تشكيلها جيوسياسيا، والطريق لتحقيق ذلك هو تسعير الصراعات الطائفية، وبعث الهويات الاثنية. وقد بدأ التلميح عنها منذ منتصف السبعينيات من القرن المنصرم. وخلال مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط أعاد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جيمس بيكر التأكيد عليها، من خلال الحديث عن شرق أوسط كبير، يكون بديلا عن النظام العربي، الذي انبثق مع تأسيس جامعة الدول العربية في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي.
لقد أشار بيكر، في حينه إلى أن الخارطة السياسية لما أطلق عليه بالشرق الأوسط، سيجري ترتيبها مجددا، وأن هذا الترتيب سيكون أكثر دراماتيكية من الذي حدث بعد نهاية الحرب الكونية الأولى، ووضع اتفاقية سايكس- بيكو قيد التنفيذ.
وأثناء ذلك بدأت تسريبات أمريكية، لخرائط واستراتيجيات لشكل الشرق الأوسط المرتقب. كما أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز كتابا أوضح فيه تصوراته للشرق الأوسط الذي سيكون بديلا عن النظام العربي الرسمي. وجاءت محتويات الكتاب متماهية مع المشروع الكوني الذي تحدث عنه وزير الخارجية الأمريكي، بيكر في مؤتمر مدريد.
وقد كان هجوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومبنى البنتاجون في واشنطون، وإعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش، الحرب على الإرهاب، فرصة ملائمة لنقل المشروع من مرحلة التنظير إلى التنفيذ. وكانت بوابة ذلك هي ذريعة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وعلاقة مفترضة لنظام الرئيس صدام حسين بتنظيم القاعدة. وجاء احتلال العراق، عام 2003م، والعملية السياسية التي هندس لها السفير الأمريكي، بول برايمرز والقائمة على المحاصصة والقسمة بين الإثنيات والطوائف، والصراعات الطائفية التي عاشتها أرض السواد، وإعادة تركيب المحافظات والمدن بالتهجير المتبادل، لتؤكد دخول المشروع الكوني الأمريكي، مرحلة جديدة، باعتماد مصادرة الكيانات القطرية، وتدمير مكوناتها الوطنية، وفي المقدمة من ذلك هوياتها، التي تستمد منها حضورها التاريخي، ومقاوماتها للتغريب.
ولأن التاريخ سيرورة وحركة، لا يمكن استعادة حوادثه بذات الطريقة. فإن تكرار السيناريو العراقي، أمر لم يعد بالإمكان، خاصة وقد شهد العالم بأسره المقاومة الضارية لشعب العراق، للاحتلال الأمريكي، وللقوى السياسية التي ارتبطت به. فكان لا بد من إيجاد سيناريوهات بديلة، قادرة بوسائل أخرى على المضي قدما بالمشروع الكوني الأمريكي. وهنا يحضر “الربيع العربي” كنمط بديل عن الاحتلال المباشر.
نحن هنا لا نجرم الذين اندفعوا وراء تياره، فالعوامل الموضوعية التي أدت إلى اشتعال الانتفاضات كامنة في رحم الأوضاع البائسة. وما نريد تأكيده هو أن هناك اقتناص غربي وتماه واستثمار، وأيضا توجيه للأحداث. وذلك ما يفسر كيف برز الإسلام السياسي في معظم البلدان العربية، التي طالها هذا “الربيع” في مجتمعات فسيفسائية، تضم طوائف وأديان مختلفة. يتزامن ذلك مع فوضى المطالبات بالفيدراليات واستقلال المناطق وحقوق الأقليات الدينية والإثنية، وأنواع أخرى من الفوضى، تعيد إلى الذاكرة تعابير الفوضى الخلاقة. والحديث في ذلك يطول ويطول، وهو بالتأكيد حديث شجون.
الثالث: الفوضى “الخلاقة” مشروع إمبريالي عالمي، ماهي المقدمات النظرية والعملية لتنفيذ هذا المشروع ومن أين يستمد مشروعيته برأيك؟
الفوضى الخلاقة، تعبير استخدم بمدلول سياسي، لأول مرة في العقود الأخيرة، في الأيام الأولى لاحتلال العراق، في معرض رد وزير الدفاع الأمريكي، دونالد رامسفيلد على حالة الفوضى التي شملت بغداد. وقد شملت تلك الفوضى سرقة محتويات المتحف الوطني للآثار، الذي ضم أهم الكنوز الإنسانية المعبرة عن تاريخ أرض السواد. كما شملت حالة الفوضى حرق مباني جامعة بغداد، وعدد كبير من الوزارات والمقرات الحكومية. حينها دافع رامسفيلد عن هذه الفوضى، وأشار إلى أن العراقيين لم يعتادوا ممارسة حريتهم من قبل، وأنهم الآن يمارسونها على طريقتهم الخاصة، وأن هذه الفوضى هي من النوع الخلاق.
كررت مستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي، ووزيرة الخارجية الأمريكية، كونداليزا رايس، استخدام هذا التعبير أثناء حرب تموز/ يوليو عام 2006 التي شنها الكيان الصهيوني على لبنان. فقد أشارت أن ما يجري هو جزء من الفوضى الخلاقة التي يخرج من رحمها شرق أوسط جديد.
هذا المشروع، يستمد قوته من قانون القوة، ولا يخضع لأي معايير أخلاقية. وهو بالطريقة التي جرى تنفيذه فيها، منذ عام 1990م، حين جرى تدمير العراق، انعكاس للخلل في ميزان القوة العالمي، وهيمنة الأحادية القطبية. ولذلك فإن مؤشرات المستقبل، تشير إلى تضعضع الركائز التي استند عليها، وبالتالي إلى أفول المشروع برمته. ولعل الصمود السوري، والموقف الروسي والصيني المعضد بمواقف الهند والبرازيل وعدد آخر من دول أمريكا اللاتينية، يمثل نقطة التحول، باتجاه ترصين السياسة الدولة، وانبثاق عالم جديد متعدد الأقطاب
الرابع: بين عقدتي التشرذم والإنعزال استنقعت العقيدة اليهودية الصهيونية في بؤرة باطنية ماسونية من العمل السري لهدم النظم القائمة وادعاء التغيير الجذري في منحى عنصري. ماهي برأيك العلاقة المنطقية والإفتراضية بين الماسونية وباقي الأصوليات في العالم وهي متعددة ومتنوعة على حد تعبير روجيه غارودي. ماهي برأيك الأزمة الحقيقية المعبرة عن ذلك النسيج الغريب في تاريخ البشرية؟
العلاقة بين الماسونية وبين الحركات الأصولية، لا ترتبط بجوانب التنظير، بقدر ما هي علاقة عملياتية. بمعنى أنها علاقة براجماتية، تقوم على المنفعة. فالتبشير الماسوني بالإخاء الإنساني، بالطريقة التي يبشر بها يعنى، إذا ما تم وضعه في سياقه التاريخي، تذويب الهويات، وترويض الشعوب المقهورة، وتأهيلها للقبول بالاحتلال الأجنبي. وقد تزامن استعار الحركة الماسونية، مع اندفاع الغرب الاستعماري للهيمنة على دول العالم الثالث. وقد جاء الطرح الماسوني، بهدف تذويب مختلف العناصر والمواريث التي يستمد منها الشعب حيله الدفاعه لمقاومة الاحتلال والتغريب. ولأن التوجهات الأصولية، بالطريقة التي برزت فها، سواء الأصولية الصهيونية، أو أصولية المحافظين الجدد، أو حتى الحركات الأصولية الإسلامية المتطرفة تقف موقفا معاديا تجاه التطلعات الوطنية والأماني القومية، فإنها بالنتيجة، تقف جميعا في خندق واحد، هو الخندق المعادي لنهضة الأمم وتقدمها.
الخامس: ماهو دور سيد قطب وأبو الأعلى المودودي في تشكل ورفد العقيدة الجهادية لدى الجماعات التكفيرية؟
يلتقي سيد قطب وأبو الأعلى المودودي في تشجيع المسلمين على العزلة. فسيد قطب يتحدث عن حاكمية الله. ويقسم العالم إلى دارين: دار الإسلام ودار الشرك، الذي هو بالتالى، من وجهة نظره جاهلية. والصراع بين القوتين، مستمر لا ينتهي إلا بانتصار الإسلام على الجاهية.
ويأخذ سيد قطب من المودودي موضوع الهجرة. فالشعوب الإسلامية كما يراها قطب، ومن قبله المودودي تعيش في الظروف التي عاشها المسلمون في الجاهلية. لقد هاجر الرسول إلى يثرب، وأقام بها دار الإسلام، ومنها حشد المؤمنين وحرضهم على القتال. فكانت الغزوات المتتالية من بدر إلى أحد والخندق هي الطريق إلى فتح مكه.
إن دعوة المودودي إذا ما تم وضعها في سياقها التاريخي، تبدو مفهومة. فبالنسبة لسلفي متشدد يعيش في وسط هندوسي، يمثل المسلمين أقلية فيه، قبيل انفصال باكستان عن الهند تبدو دعوة المودودي مفهومة، في سياق القراءة للفكر السلفي. فالهندوس وبقية الأديان غير الإسلامية في الهند، تمثل دار الشرك، وانفصال باكستان عن الهند وإقامة دولة إسلامية بها، هو تمثل لهجرة الرسول من مكة إلى المدينة.
لكن غير المفهوم، وغير المنطقي هو حماسة سيد قطب لتبني هذا التنظير، الذي لا نجد له تفسيرا معقولا، سوى اختلال التوازن والشعور بالمرارة والإحباط جراء الملاحقات والمطاردات التي تعرضت لها حركة الإخوان المسلمين، في مصر، وقد كان من نتائجها مصرع مؤسس الحركة الشيخ حسن البنا. وأيضا المصادمات التي حدثت بين الإخوان المسلمين والرئيس جمال عبدالناصر، بعد حادثة المنشية في الاسكندرية، والتي انتهت بصدور أحكام بالاعدام، والسجن لأعوام طويلة لعدد من قادة الحركة. وقد تسببت في هروب العشرات من قادة الحركة إلى الجزيرة العربية والخليج، ليبدأوا من المنفى حراكهم الجديد، مع أكثر القوى والأنظمة تخلفا ورجعية.
وقد بقيت مفاهيم حاكمية الله ودار الإسلام ودار الشرك والهجرة، مفاهيم محركة ومحرضة حتى يومنا هذا، لمختلف الحركات الجهادية، وبشكل خاص تنظيم القاعدة وطالبان.
السادس: الثورات العربية تحولت من فعل داخلي ثوري ضد أنظمة إستبدادية إلى تدخل أجنبي لتدمير البنى التحتية واحتلال الدول العربية واستنزافها. حدث ذلك في العراق وفي ليبيا والمسعى اليوم حثيثا لإعادة السيناريو في سورية وهي آخر حصون الممانعة العربية هل نحن إزاء مرحلة جديدة لضرب أي أمل قريب في النهوض القومي العربي؟
بعض التصحيح في السؤال، فالعراق لم يشهد ثورة وإنما شهد احتلالا أمريكيا مباشرا، تحت ذريعة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وعلاقة مفترضة مع تنظيم القاعدة. وتكشف أن هذا الاحتلال، كان بداية تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية للقرن الواحد والعشرين. تنفيذ العملية السياسية التي هندس لها المندوب السامي الأمريكي، بول برايمرز اقتضت الاعتماد على ميليشيات موالية لإيران: حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والتيار الصدري. وقد شاركت هذه الميليشيات مجتمعة في تدمير العراق، ومصادرته كيانا وهوية. وكان لها الدور الأساس في تنفيذ العملية السياسية القائمة على أساس القسمة والمحاصصة بين الطوائف والاثنيات.
في الحالة الليبية، نحن أمام وضع معقد ومرتبك وبحاجة إلى المزيد من التقصى. وإذا أخذنا الأمور بنتائجها، فنحن أمام وضع كارثي لا تحمد عقباه. لقد تدخل الناتو في ليبيا وقتل عشرات الآلاف، ودمر الدولة الليبية المعاصرة، وأعادها إلى عهود سحيقة. وفي مناخ ما دعي بالثورة، نشطت النزعات القبلية وانفلتت من عقالها. وتفكك النسيج الليبي الاجتماعي. ولا يبدو في الأفق نهاية قريبة للأزمة المستعصية التي يعيشها شعبنا في هذا البلد العزيز.
الأوضاع في سورية، لن تكون مشابهة لما حدث في العراق أو ليبيا. فالعراق كان ضحية لسقوط الثنائية القطبية وانهيار الاتحاد السوفييتي. أما ليبيا فقد استثمرت قرارات جامعة الدول العربية، ودعوتها لمجلس الأمن الدولي للتدخل تحت ذريعة حماية المدنيين، واستغل الناتو هذه الدعوة ليعيد سياسة التنافس على مناطق النفوذ، التي تراجعت بهيمنة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على صناعة القرار الدولي.
في حالة سوريا، لن يكون ممكنا استعادة تطبيق السيناريو الليبي، لعدة أسباب أهمها أن روسيا الاتحادية تعتبرها جزءا من المناطق الحيوية لأمنها القومي. وينبغي أن لا نغفل تماسك الجبهة الداخلية السورية, فبعد أكثر من تسعة أشهر على الأحداث في سوريا، لم يحدث انشقاق رئيسي في بنية الدولة، ولم ينسحب أي من الوزراء أو السفراء أو الضباط الكبار عن منصبه، بعكس ما جرى في ليبيا، منذ الأسابيع الأولى لانطلاق الحركة الاحتجاجية.
وفي كل الأحوال، فإن التاريخ لا يعيد نفسه، بذات التراتبية. وأوضاع الأمة رغم كل ما يعتريها من ضعف وفوضى، تحمل في رحمها بداية انبعاث جديد، يمكن أن نلحظ معالمه في مواصلة شعبنا في تونس ومصر، لثورتهم واستمرار الحراك الشعبي، بما يؤكد استحالة إيقاف عقارب الساعة. والأمل كبير في أن تستعيد القوى القومية عافيتها، وأن تقوم بمراجعة نقدية لاستراتيجياتها ومساراتها، وأن يبزع من ركام التداعي والمعاناة عروبة جديدة، تحافظ على الهوية، وتتماهى مع التحولات الكونية التي تجري من حولها، ويكون فعلها خلقا وإبداعا وعلما.
السابع: يعاود الحلم الإمبراطوري ليغري الأتراك الشبان من حزب العدالة والتنمية لاقتسام تركة الجسم العربي الهزيل، ما هي قراءتك للتدخل التركي الجديد في المنطقة العربية وما هي آفاقه في ظل تململ الدب الروسي أخيرا؟
القراءة السياسة التركية في المنطقة العربية، لن تكون دقيقة إذا لم تأخذ بعين الاعتبار، حالة الانفصام التي يعيشها الساسة، وبشكل خاص حزب العدالة والتنمية، بين رغبة جامحة للالتحاق بالاتحاد الأوروبي، يقابله رفض مستمر، من قبل أوروبا لهذه الرغبة، وبين نستولجيا، تدفع بهذا الحزب إلى استحضار الماضي العثماني، في محاولة لتمثله من جديد، عبر استثمار ما يعرف بـ “الربيع العربي”، وهو كما اتضح للجميع “ربيع الإخوان المسلمين”، للتقدم جنوبا إلى سوريا، وغربا إلى مصر وليبيا وتونس، لعل في ذلك تعويض عن الالتحاق بأوروبا.
هذا التحرك، يخدم جملة من الأهداف بالنسبة للقادة الأتراك. فهو أولا يأتي في سياق استراتيجية كونية تهدف إلى تفتيت الوطن العربي، وتدمير الكيانات الوطنية. وهو ثانيا، ينفذ، كما أثبتت الأحداث الليبية، تحت مظلة حلف الناتو التي تعتبر تركيا أحد أركانه. وهو ثالثا، يضع تركيا على قدم المساواة مع إيران، التي قطفت ثمار الاحتلال الأمريكي للعراق. إن تركيا تطمح إلى لعب دور مماثل لإيران، لكن في سوريا. وبذلك تتساوى الكفتين. وهو رابعا، يأتي في سياق تعاضد مع “الإخوة في الحركة الإسلامية”. وكانت مقدمات هذا التعاضد قد سهلت تحقيق بعض الاختراقات التركية، التي لقيت قبولا شعبيا واسعا، تحت نصرة حماس، أو القضيية الفلسطينية، لا فرق. وتمثلت في تمثيلية قوافل كسر الحصار عن قطاع غزة، التي رغم الصخب العالي الذي صاحبها، لم تؤثر على طبيعة العلاقة الاستراتيجية بين تركيا والكيان الصهيوني الغاصب. وأخيرا، وليس آخرا، فإن تركيا بسياستها هذه تقدم دليلا جديدا لأوروبا “القديمة”، على جدارتها في الالتحاق بالقارة.
لكن الذي غيبته القراءة التركية، هو أن الزمن الذي كانت فيه الولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها في أوروبا الغربية يتحكمون بصناعة القرارات الأممية قد ولي. وأن مرحلة جديدة في التاريخ الإنساني قد بدأت. وأهم قوانين هذه المرحلة، هي بروز عالم متعدد الأقطاب تمارس فيه روسيا والصين دورا معادلا لأدوار اليانكي وحلفائه. وأن قوى جديدة، في مقدمتها الهند والبرازيل في طريقها للصعود. وأن دمشق قلب العالم قلعة عصية على مشاريع التفتيت. وذلك يعنى في نتيجته خيبة مرة، لمشروع أوردوغان في استعادة المرحلة العثمانية.