حوار أجراه الأستاذ على الرباعي ونشر في صحيفة عكاظ
في البداية أشكر الصديق العزيز الأستاذ على الرباعي، وجريدة عكاظ على إتاحة الفرصة لي للتواصل مع قراء هذه الجريدة الغراء، والحديث عن أسئلة هامة، تشكل الإجابة عليها، في هذا المنعطف الذي تمر به المنطقة، أمرا خلافيا. ولا ضير في ذلك ما دامت الحقيقة نسبية، والكل يسهم من خلال طرح الأسئلة وتقديم الأجوبة في إنارة بعض من زواياها المعتمة.
س1: لماذا لم تتراكم تجارب الديمقراطية منذ الخمسينات في القرن الماضي؟
ج: أفهم من السؤال أن المقصود هو تجارب الديمقراطية في الوطن العربي، فواقع الحال، يؤكد عدم وجود تراكم للتجارب الديمقراطية، مشابه لتجاربها على مستوى العالم. ويبدو أن قطار التحول الديمقراطي تعطل عند بوابات وطننا العربي.
واقع الحال أن السؤال يحيل إلى مفهوم الديمقراطية ذاته، وشروط تحققها. ومن وجهة نظرنا، ليس بالإمكان قبول المفهوم المثالي السائد للديمقراطية، على أنها حكم الشعب. بل الصحيح أنها ربما تكون أفضل ما لدينا من رؤية فلسفية، حتى هذه اللحظة، لإشراك عدد أكبر من الجمهور في صناعة القرار. لكنها لا تعني بالضرورة أن الشعب يحكم نفسه بنفسه، رغم ما أن ذلك هو ما تنص عليه دساتير البلدان التي تتبنى الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
الديمقراطية، في أساسها هي حاصل تسويات بين قوى ليس بمقدور أي منها حسم الصراع لصالحه. وأن قوانين الضرورة، تلح على بقاء وحيوية أدوار هذه القوى. ويمكن اختزال هذه القوى، في ظل التجارب الديمقراطية العريقة بطبقتين: الطبقة الرأسمالية والطبقة المتوسطة.
ومادامت هاتين الطبقتين، غير قادرتين على تصفية حساباتهما، وحسم الصراع لصالح أحد منهما، ولأن وجود كليهما أمر تفرضه الضرورات الاقتصادية والاجتماعية، أمسى اللجوء إلى القسمة، بينهما أمرا محتما. فجاء تدشين هذه المؤسسات، التي تعبر في مجملها عن النظام الديمقراطي، لتمثل تسوية تاريخية بينهما.
لقد سبق هذا التحول التاريخي، مرحلة تبشير طويلة، مرت بها أوروبا شهدت ثورات إصلاح دينية في انجلترا قادها مارتن لوثر، وفي فرنسا قادها كالفن، وجاءت من داخل الكنيسة. كما شهدت تحولات في الأفكار مثلها كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، وروح القانون لمونتيسكيو واتفاقيتان لجان لوك، والأخلاق البروتستانتية لماكس فيبر. كما شهدت مرحلة التبشير تغيرات فلسفية، وبروز مذاهب فنية وأدبية، ليست الرومانسية والتجريدية والسيريالية، سوى تجليات مرحلة التبشير هذه.
توجت مرحلة التبشير وحركة الإصلاح الديني، بقيام ثورتين اجتماعيتين، أسهمتا في تغير خارطة البشرية، هما الثورة الفرنسية والثورة الانجليزية. وكانت في توقها وتطلعاتها ثورات أفكار بالدرجة الأولى. كان اليعاقبة في فرنسا وخطيبهم المفوه روبسيبر في مقدمة الركب، وفي انجلترا قاد المتطهرون، بقيادة أوليفر كرومويل ومساندة كتاب عظام كجان ميلتون هذه الثورة، التي اعتبرت انتصارا للبروتستانتية. وقد عنت في أحد تعبيراتها، هزيمة الإقطاع، وتراجع سيطرة الكنسية، وانتصار أرباب الصناعات، وتغير موازين القوى الاجتماعية.
في الوطن العربي، وتحديدا في الجزء الشرقي منه، هبت الرياح الفكرية، التي ارتبطت بتلك التحولات، خجولة. وبدأ عصر تنوير جديد. لكن كل الظروف والمعطيات كانت تحول دون استمراريته. فالصراع في منطقتنا لم يكن بين قوى آفلة وقوى مستقبلية. ذلك أن الإقطاع الذي ساد في أوروبا لم يجد له ما يعادله في منطقتنا. وصراع التنوير في منطقتنا، لم يكن مع قوى آفلة، بل مع احتلال غربي، يحمل نفس الأفكار والرؤى، التي بشر بها عصر التنوير العربي. ونظام الحق الإلهي الذي توج الكنيسة في أعلى موقع لصنع القرار في أوروبا لم يجد له نظيرا أيضا في منطقتنا العربية.
واجهنا احتلالا عثمانيا، في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ودخل زعماء اليقظة العربية، في تحالف مع بريطانيا وفرنسا للإجهاز على تركة الرجل المريض في الأستانة، وانتهت الحرب العالمية الأولى، ولم يكن الأتراك ضحاياها فحسب، بل كنا نحن الذي سلمنا قيادنا للقوى الفتية العالمية الصاعدة ضحايا أيضا.
وخضع المشرق العربي في معظمه للاحتلالين البريطاني والفرنسي. وكانت معضلة عصر التنوير، كما أشرنا أنه يحمل ذات الصبوات والمبادئ التي تسود في بلد الاحتلال. فكان التناقض بين عداء للمستعمر، وبين تبن لنمط حكمه. ولم يكن التوازن في صالحنا بالمطلق.
فالمحتل، استثمر جل قدراته العلمية، واكتشافاته الجغرافية، ليحجب عنا الشمس، ويمنع عنا الهواء. اكتشف طريق الرجاء الصالح، فقطع طرق المواصلات البحرية، التي تمخر بحارنا، وساهم في تدمير موانئنا باللاذيقية وبيروت والإسكندرية، وجرى تدمير منظم لصناعاتنا الحرفية في مصر وبلاد الشام، والتي لم تستطع أن تصمد أمام تقنيات مصانع لانكشاير، ولا غيرها من مصانع الدول الأوروبية المتقدمة.
فكان الصراع غير متكافئ بيننا وبين القوى التي تحمل قيم الديمقراطية، بما غيب الظروف التي تحققت فيها الديمقراطية في الغرب، فلا مرحلة تبشير ولا إصلاح ديني، ولا قوى اقتصادية صاعدة، ولا وجود حقيقي لطبقة أرباب الصناعة، والطبقة المتوسطة. فجل ما تواجد في منطقتنا، طبقة تجارية، وسيطة بين المستهلكين من الناس العاديين، وبين ملاك الصناعات المتقدمة، من خارج المكان. وصنفت هذه الطبقة الجديدة في العلوم السياسية بالطبقة الكمبرادورية. بمعنى الطبقة الوسيطة، غير المصنعة. وحين لا يكون هناك إنتاج لا تكون هناك ضرائب. وتصبح علاقة المواطن بالدولة علاقة من طرف واحد، تفتقر إلى التبادلية. وخير ما يصدق عليها التعبير الأمريكي السائد no tax no democracy لا ضرائب = لا ديمقراطية.
ولذلك فحين طرحت الديمقراطية في الوطن العربي، بعد الحرب العالمية الثانية، وتشكلت برلمانات في عدد من البلدان العربية، جاء التشكيل مشوها وعاجزا عن قيادة المرحلة، وكان استنساخا واهنا لتجارب أخذت مكانها، ونجحت في بيئة مختلفة تماما عن واقعنا.
لقد استبدلت في منطقتنا طبقة أرباب الصناعة التي سادت بالغرب، بتشكيل بطركي، قبلي وعشائري، عاجز عن التماهي مع العصر، والتعامل بلغته. ولم يكن له أن يكون غير ذلك. فالديمقراطية، في أساسها تشكل بنيوي، وتغير في الخارطة الاجتماعية، وتنافس في موازين القوى، وصفقات وتسويات.
وكان البديل، الذي حل منذ منتصف الخمسينيات، هم الضباط اليافعون، الذين قادوا انقلابات عسكرية أوصلتهم لسدة الحكم. ومرة أخرى، كان الشعار في واد، وإمكانية تطبيقه في واد آخر. فهؤلاء الشباب في غالبيتهم، في مصر والعراق وسوريا والسودان واليمن، جاءوا من بيئة ريفية، حملوا أفكارها وتقاليدها، وحدث لديهم انفصام بين السلوك والمبادئ التي يحملونها, وكان النصر في النهاية، حليف تكوينهم البنيوي الاجتماعي وليس مبادئهم، فكان أن جرى ترييف للمدن. ولم يكن في ظل هذا الخلل البنيوي، فرصة لأي تراكم ديمقراطي.
وسيبقى الأمر كذلك، ما لم تحرك القوى الذاتية المحركة، وتنقل اقتصاداتنا من طابعها الريعي إلى الطابع المنتج. وذلك ما لا تلوح أفقه في ظل واقعنا الراهن، المسكون بتغول قوى التطرف والإرهاب، وغياب مشاريع التنمية الحقيقية، بما يسهم في خلق بنية أكثر مواءمة للتحول الاجتماعي المنشود.
س2: هل جنت الشعارات على عالمنا العربي؟
ج: الشعارات التي طرحت طيلة الخمسة عقود المنصرمة، تعبر عن توجهات المرحلة التي رفعت فيها. وبعضها لا شك إيجابي من حيث توقه للنهوض.
بعد الحرب العالمية الثانية طرح شعار الاستقلال الوطني، وكان الشعار المدوي في أرض الكنانة “الاستقلال التام أو الموت الزئام”. ولم يكن الشعار مختصا بنا وحدنا نحن العرب، بل صوتا مدويا في القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ويمكن القول، بكثير من الثقة بأن معارك الاستقلال، كانت من أهم معالم القرن العشرين، حيث كانت القارات الثلاث تموج بحركات وطنية ترفع شعار الاستقلال، وتحمل على تحقيقه.
بعد الاستقلال، رفعت شعارات الحياد الإيجابي، والتنمية المستقلة، والوحدة العربية وشهدت المنطقة العربية، اختلافات حول آلية تطبيقها، وكانت قد تأثرت إلى حد كبير بالمناخات الدولية، وباستعار الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي.
ولأننا لم نكن في وضع يسمح لنا بالتعبير المستقل عن إرادتنا، انقسمنا أفقيا ورأسيا إلى معسكرين. وبهذا الانقسام، ضاعت آمالنا في العمل العربي المشترك والتنمية المستقلة. وطغى الشعار على الفعل. ولكن العيب لم يكن في الشعارات المطروحة، فهي في النهاية انعكاس لرغباتنا وتطلعاتنا، ولحالة الانقسام السياسي التي مرت بها الأمة.
وتعيدنا هذه القراءة، إلى السؤال الأول، فالخلل بالأساس، وكما وصفناه هو خلل بنيوي بالدرجة الأولى، ويصدق عليه القول المأثور “ما بني على باطل فهو باطل”.
ومنذ الستينيات وربما حتى يومنا هذا وضعت العروبة، بشكل صارخ في تقابل مع الإسلام. ووقعنا جميعا أسرى لهذه الفرية. وغاب عن إدراك الكثير منا أن الإسلام نهض بالعرب، وأن العرب اكتشفوا ذاتهم بالإسلام. ولم يكن للعرب أن يبنوا حضارة خالدة، من غير الرسالة العظيمة، التي انطلقت من بطحاء مكة، وانتقلت إلى حيث مشيئة الله.
خلاصة القول أن المحاكمة لا ينبغي أن توجه إلى الشعارات، فهي صدى لواقع ينبغي قراءته بدقة، ووضعه في سياق التطور التاريخي.
س3: كيف يمكن للفكر تطوير نفسه ومواكبة عصر متقدم عليه؟
ج: الفكر ليس حالة مجردة عن الواقع، لكن ذلك لا يعني أن البشر لا يتفاعلون إنسانيا مع ما يجري من تحولات كونية. بل إننا لن نجانب الصواب حين نقول إن معظم الأفكار التي عمت في الوطن العرب، هي أفكار وافدة، جرى توطين بعضها وبقي البعض الآخر من غير توطين.
وقد أكدت التجربة التاريخية، أن الأفكار الوافدة، مهما حملت من قيمة علمية، لا تكون فاعلة ما لم يتم توطينها.
وما دمنا نستخدم التاريخ، كبوصلة لقراءاتنا، فإن الأفكار، تاريخيا تتقدم على الواقع، ولكنها ليست منعزلة عنه. يجري تشخيص الواقع، ويتوصل الباحث، في مدونات، إلى آليات لتجاوز أزماته. هذه المدونات هي ما تمثل الفكر السائد، لمرحلة ما.
لكن التشخيص لا يكون في فراغ، فلكي يكون فاعلا لا بد من استناده إلى رؤى وأفكار وفلسفات سابقة عليه. وهكذا يكون التطور الإنساني، نبني على ما هو قائم، ومن خلاله نستنبط أفكارا وآليات للعمل. وذلك هو بالدقة ما يعني التراكم في الأفكار وفي التجربة. وعلى هذا الأساس، فإن من الطبيعي أن يطور الفكر نفسه، وأن يتقدم على عصره.
س4: متى يمكن طرح مشاريع اقتصادية كبرى تحافظ على الطبقة المتوسطة؟
ج: يمكن دائما طرح مشاريع اقتصادية تحافظ على الطبقة المتوسطة، ونجاحها يعتمد على عاملين رئيسيين. الأول هو انتقال البلدان العربية، من الحالة الريعية إلى اقتصادات الأبعاد الكبيرة، وتحفيز القوى الذاتية المحركة. بمعنى الانتقال إلى المرحلة الصناعية. والثاني هو أن يكون للقاعدة العريضة من الجمهور ما يكفي من المال، لكي يجري تنشيط الطبقة المتوسطة.
إن تعبير الوسط، يعني أن هذه الطبقة هي بين طبقة أعلى منها وأخرى أدنى. والطبقة المتوسطة على هذا الأساس، هي رديفة للطبقة العليا. مهمتها الأساسية، هي تسويق منتجات أرباب الصناعة. وقد جاءت النظرية الكنزية، بمشروع دولة الرفاه. وخلاصتها أن الطبقة المتوسطة تنهار، حين لا تمتلك القاعدة العريضة من الناس المال. ومن هنا جاء تدخل الدولة في أمريكا الشمالية، ودول أوروبا لدعم المعدمين من البشر، وتمكينهم من تشغيل ماكنة الاقتصاد، ودعم الطبقة المتوسطة، بما لديهم من المال الذي تقدمه الدولة، في شكل طوابع أو ضمان اجتماعي، أو هبات وما إلى ذلك…
نحن بحاجة إلى تكامل اقتصادي عربي، وإن عجزنا عن تحقيق ذلك فليكن تكاملا اقتصاديا خليجيا. فهذا التكامل هو وحده الذي ينهض اقتصاديا بالطبقة المتوسطة، وأرباب الصناعة والجمهور على السواء.
على أن دور الطبقة المتوسطة، ليس اقتصاديا فحسب، فهي الطبقة المبدعة خالقة الفن والفكر، وحين تنهار، يغدو المجتمع بدون فنون وموسيقى وشعر ورواية ومختلف أشكال الأدب وتصبح الروح خاوية، والفكر عاجزا، ونداء الروح يستوجب النهوض بالفكر والأدب ومختلف أنواع الفنون.
س5: أين تكمن خطورة الأيديولوجيا؟
ج: ليس هناك فكرة أو مشروع إلا وتقف خلفه أيديولوجيا. فالاديولوجيا هي النظرة الشاملة للكون، والتي تمد بقواعد من السلوك. وهي على نقيض العلم، الذي مهمته الكشف لا الحكم على الأشياء، لكن كل الحضارات الإنسانية التي شيدت، دعمت بموقف أيديولوجي، والحضارة العربية الإسلامية وعلومها، لم تكن استثناء عن القاعدة. أو لم يقل الخوارزمي إن ما دفعه لتأسيس علم الجبر، هو مساعدة المسلمين على تطبيق علوم الشريعة، فيما يتعلق بالمواريث.
المعضلة تكمن في في التعصب العقائدي، وعدم الاستعداد لسماع الآخر، والتفاعل معه. لا يغيب التسامح وقبول الآخر الأيديولوجيا، بل يشذبها ويهذبها. لقد أدى التعصب الأيديولوجي “الدوغما”، إلى بروز ظاهرة رفض الأيديولوجيا في المجتمعات العربية. لكن هذا الرفض إذا جرى تقعيده، ووضعت نظرية له، يصبح هو أيضا موقف أيديولوجي.
نحن بحاجة إلى رؤية شاملة، لا تتخذ موقفا متحيزا تجاه المعتقدات والأفكار، ولن يتحقق ذلك إلا بالارتقاء بثقافتنا إلى حالة من الحب والتسامح وقبول الآخر، والتفاعل الخلاق مع كل ما هو إنساني، بعقل واع، وإذن صاغية وقلب مفتوح.