حقبة أوباما استمرارية أم تغيير؟” />
لا يختلف اثنان في أن إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش قد بلغت بالسنوات الأخيرة مستوى متدنيا، من حيث أدائها السياسي، وقدرتها على مواجهة المعضلات التي تواجهها بالداخل والخارج. وقد جرى تناول تلك المعضلات بالقراءة والتحليل، في عشرات المقالات التي نشرناها بالتجديد العربي. وقد تركزت معضلات الإدارة بشكل خاص بصعوبة الموقف العسكري الذي يواجهه أداؤها بالمستنقعين: العراقي والأفغاني، وعدم قدرة القوة العسكرية الضاربة على حسم الموقف لصالح الإستراتيجية الأمريكية الكونية. كما تركزت في المعضلة الاقتصادية المستعصية، التي بدأت بأزمة الرهن العقاري، والتي أدت إلى حالة الركود بالاقتصاد العالمي. وكان للكوارث الطبيعية، وأهمها إعصار كاترينا دور لا يستهان به في مضاعفة المشاكل التي واجهتها إدارة الرئيس بوش.
وإذا ما تناولنا الخطاب والبرامج التقليدية للحزب الديمقراطي، والتي كانت مبرر فشل الحزب أو نجاحه بالدورات الانتخابية المختلفة، إن على صعيد الموقع الرئاسي، أو في المؤسسات التشريعية والتي فصلناها في حديثنا قبل أسبوعين من هذا التاريخ تحت عنوان “وانتهت رحلة التنافس على كرسي الرئاسة” وقد كانت حاضرة بقوة هذه المرة أيضا في خطابات أوباما وضمن برنامجه الانتخابي، فإن المعضلات الحالية، بقدر ما ألقت بمراراتها ألما ونزفا بالنسبة لغالبية الأمريكيين، وخسارة كبيرة في سمعة الجمهوريين وتراجع التأييد لسياساتهم، فإنها شكلت رصيدا كبيرا، لا بد من أخذه بعين الاعتبار من قبل الديمقراطيين في صياغة برنامجهم الانتخابي. فكان شعار التغيير هو الكلمة الأثيرة في حملة الرئيس المنتخب، أوباما منذ اليوم الأول للحملة وحتى إعلان فوزه رئيسا قادما للولايات المتحدة الأمريكية.
وكان الشعار هو أهم عناصر التحريض لدعم المرشح الديمقراطي من قبل ملايين الأمريكيين. وفي المقابل، رأى الأمريكيون في شعار الاستمرارية الذي تصدر حملة المنافس الجمهوري جون ماكين إلحاحا على تكريس واقع الحال وبالتالي استمرار الأزمة التي قضت على الكثير من مدخرات الأمريكيين ومصادر عيشهم. ووجه اللوم للمرشح ماكين ولمشروعه على السواء بالتقادم والشيخوخة، وبالعجز عن استيعاب الحقائق الجديدة التي أفرزها التطور التاريخي، خلال الثماني سنوات المنصرمة، وفي المقدمة منها بروز قوى اقتصادية جديدة بالمسرح الدولي، وفشل المشروع الكوني لليمين المحافظ، بكل عناوينه وتجلياته.
وكان قانون نيوتن، لكل فعل رد فعل مساو له بالمقدار ومعاكس له بالاتجاه، حاضرا بقوة في صياغة باراك أوباما لإستراتيجيته الانتخابية. فبالقدر الذي ركزت فيه إدارة الرئيس بوش، على الحرب كطريق وحيدة لصيانة الأمن القومي الأمريكي، ركز برنامج أوباما على الحوار، وأعطى أرجحية لمعالجة القضايا الداخلية، من توفير لفرص العمل، وإنعاش للاقتصاد.
ليس ذلك فحسب، بل إن سلوك أوباما بدا سمحا ومتبسطا ومتفهما لمعاناة الغالبية الساحقة من الأمريكيين، على نقيض المرشح الجمهوري، جون ماكين الذي بدا متحديا ومجسدا لسلوك الكاوبوي، النرجسي والمتغطرس. وكانت الغالبية من السود والأقليات الأخرى، التي استثنيت عمليا وتاريخيا، إلا فيما ندر، من دائرة صنع القرار الأمريكي قد وجدت في تأييد المرشح الأسود انتقاما من ظلم لحق بها من قبل اليانكيين والأنجلو ساكسون.
وكان لنبرة الأمل والتفاؤل والتبشير بمجتمع يسوده الرخاء والعدل، التي طبعت خطاب أوباما، أثر كبير في استمالة أصوات الناخبين حول برنامجه. وكان بقوة حضور شخصيته وحيويتها وجاذبيتها، وخطابه القوي المزمجر، المتوجه لعامة الناس، والواعد بالخلاص من عتمة تبعات ما يدعى بـ “الحرب على الإرهاب” يمثل صورة المنقذ، بأجمل السمات والشمائل.
وقد كشفت مرحلة الانتخابات التمهيدية عن إمكانيات فذة ومواهب تنظيمية للرجل، وقدرة على تعبئة جمهور واسع من الشباب خلف قيادته. وجاءت حصيلة المقارنة بين سلوكه وسلوك منافسته في المرحلة التمهيدية، السيدة هيلاري كلينتون مقاربة لسلوك زوجها، بيل كلينتون أمام منافسه جورج بوش الأب. فكما كانت ثقة بوش الراسخة بحتمية فوزه بالرئاسة في الدورة الثانية، بعد حرب الخليج الثانية، قد أدت إلى خسارته أمام كلينتون، الخصم العنيد والمثابر، تصرفت السيدة كلينتون بثقة مبالغ فيها لدرجة لامست الغرور، أمام أوباما اعتقادا منها أن سجلها وخبراتها وسجل زوجها، في معالجة الأوضاع الاقتصادية المتردية ستكون كفيلة بمنحها شارة النصر.
وكان اكتشافه المبكر، من قبل الجناح اليساري، بالحزب الديمقراطي الذي يقوده إدوارد كنيدي، وتشجيعه على التقدم بترشيح الحزب، والتأييد الواسع الذي حظي به من قبل أسرة كندي الأرستقراطية والتي تحظى بمحبة واحترام واسع من قبل غالبية الأمريكيين، قد هيأت له المقدمات اللازمة لصعود عتبة مسرح التنافس من أجل الوصول إلى البيت الأبيض. كما أضاف له التحاق الرئيس السابق، جيمي كارتر، والمرشح الديمقراطي السابق، المنافس لجورج بوش في دورته الثانية، جون كيري إلى قائمة مؤيديه قد فتح له الأبواب واسعة بالفوز بترشيح الديمقراطيين له في مؤتمرهم القومي كرئيس قادم للولايات المتحدة الأمريكية.
لكن ذلك لم يكن خاتمة المطاف بالنسبة لأوباما، من أجل حيازة تأييد بقية الديمقراطيين، فلم يكن صواب المنطلقات كافيا لمرشح أسود، من الأقلية، التي حرمت تاريخيا من الوصول إلى القمة، وبعيدا عن الصالونات السياسية بالعاصمة، ليحظى بدعم كاسح من قبل الحزب لولا الإجماع الحزبي الذي تحقق في المؤتمر القومي للحزب حول ترشيحه. وكان ثمن ذلك كبيرا، فالذي حدث داخل الحزب هو التوصل لجملة من المساومات أدت إلى العودة مجددا للـ “كلينتونية”. بمعنى أن الجناح اليساري بالحزب الديموقراطي، الذي دعم أوباما منذ البداية قد تنازل لصالح وحدة الحزب عن أهم المواقع والمراكز، وسلم موقع نائب الرئيس لـ” جوزيف بايدن” الشخص الأقرب لسياسة اليمين بالحزب. وبالمثل سلم رئاسة كبير موظفي البيت الأبيض لفرد أقرب في توجهاته إلى نائب الرئيس منه إلى الرئيس نفسه. بل إن معظم طاقم الرئيس أوباما، حسبما تبدى، حتى هذه اللحظة، هم في غالبيتهم من الفريق الذي صاحب مسيرة كلينتون، في دورتين رئاسيتين. وقد تسلموا مناصب قيادية في إدارته. بل إن هناك مصادر مقربة تؤكد أن السيدة كلينتون ستكون في الغالب، وزيرة الخارجية في حكومة أوباما.
ولا شك أن لتأييد آل كنيدي سحر خاص. فرغم مضي ما يقرب من النصف قرن على انتخاب الرئيس الراحل، جون كنيدي لرئاسة الولايات المتحدة، ومصرعه الدرامي في مدينة تكساس، فقد بقي، مثلا أعلى بالنسبة للشباب الأمريكي، ونموذجا فريدا في التاريخ الأمريكي. ولا تزال ذاكرة الأمريكيين حتى هذه اللحظة، تحتفظ بصور الموكب الرئاسي، حاملا الرئيس، كنيدي وزوجته الجميلة جاكلين، يجوب المدن الأمريكية، وتستقبله عشرات الألوف بالورود والهتافات، منافسا في زهوه وفخامة حضوره المواكب الملكية البريطانية، ومهرجانات استقبال الإمبراطورة الفرنسية ماري أنطوانيت وزوجها الملك لويس السادس عشر. وربما كان ذلك بشكل خاص، إلى جانب شخصية أوباما الكارزمية هو الذي يفسر، جزئيا على الأقل، اندفاع الملايين من الشباب اليافعين لصناديق الاقتراع، لانتخاب أوباما ليس كرئيس لهم فقط، وإنما كبطل قومي، ومخلص لهم من أزماتهم المستعصية.
لكن ذلك لا يعني بأية حال من الأحوال، أن التصويت لم يكن بالدرجة الأولى على البرنامج الانتخابي. فالبرنامج المطروح في كثير من أوجهه، هو رد طبيعي على مشروع بوش المتطرف، والذي حد من الحرية الفردية، وبعث المكارثية مجددا، بأسوأ ما فيها. وكانت خطابات أوباما تسير في اتجاه مغاير للسياسات التي أرهقت كاهل الأمريكيين، تفتح بوابات الأمل، وتعد بفتح فرص لمجتمع أكثر رخاء وأمنا… وكانت في محصلتها وعدا بإعادة الاعتبار لمفهوم “العقد الاجتماعي”، وتنشيط مختلف المؤسسات المدنية للدولة.
الآن وبعد أن تطرقنا في هذا الحديث والحديث السابق، للخارطة السياسية الأمريكية، والقوى الفاعلة في صناعة القرار، والإستراتيجية التي اعتمدها الرئيس المنتخب للوصول إلى البيت الأبيض، والمعضلات السياسية والاقتصادية التي ستكون في سلم أولويات اهتمامه، فور توليه منصب الرئاسة، فقد آن لنا الانتقال إلى جوهر الموضوع الذي وعدنا بمناقشته قبل أسبوعين: ما هي معالم السياسة الأمريكية في عهد أوباما؟ وهل نحن أمام تغيير جوهري قادم في هذه السياسة على صعيد الداخل والخارج أم إن المأكنة سوف تسير كالمعتاد؟. هذه الأسئلة، وأخرى غيرها ستكون موضوعا للمناقشة بالحديث القادم بإذن الله.