حصاد العام: تضخم في المصروفات

0 439

أوشك العام على الرحيل، واحتفل المسيحيون، ومعهم شعوب االالأرض المحبة لأرض المحبة للسلام، بعيد السيد المسيح، رسول المحبة والسلام، واستعد الناس لاستقبال عام جديد، نأمل أن يكون خيرا وبركة. ونتضرع إلى الباري القدير أن يجعله عاما تنجلي فيه الكربة عن المظلومين والمقهورين، وتتحرر الأوطان، ويعود إلينا فيه شيء من كرامتنا المفقودة وبعض من وهج الزمن الجميل.

 

 

لقد مررنا خلال أكثر من عقد بمرحلة، هي بكل المقاييس، من أعتى مراحل تاريخنا المعاصر قسوة وضراوة. وشهدت منطقتنا ثلاثة حروب رئيسية، انتهت أولاها باحتلال عاصمة العباسيين، وتدمير منهجي للدولة الوطنية العراقية، ومصادرة أرض السواد، كيانا وهوية، وتفتيتها على أساس القسمة بين الطوائف والاثنيات. وكان الاحتلال الأمريكي للعراق، عام 2003م، قد جاء في مرحلة أضحى فيها الاستعمار التقليدي شيئا من الماضي، بعد أن غدى الإقرار بالاستقلال والسيادة وحق تقرير المصير، من المسلمات البديهية في القانون الدولي وشرعة الأمم.

 

كان العدوان، خروجاً صريحاً على المؤسسات والقرارات الدولية، وقد مثل الاحتلال قطيعة مع منجزات الجنس البشري، التي عبر عنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وميثاق عصبة الأمم، وخرقا للقانون الدولي. لذلك شكلت مقاومته تعبيرا عن تماه أصيل مع روح العصر، وانسجاما مع حق الشعوب في الكفاح لنيل الحرية، ودفاع مشروع عن الاستقلال والسيادة.

 

وشهد العقد الأخير أيضا، حربا على لبنان، في تموز عام 2006م، استمرت أكثر من شهر، واستهدفت بنيته التحتية، من جسور وطرق. وقد أرتبط عدوان الصهاينة على بلاد الأزر، بيافطات ثلاث: تطبيق القرار رقم 1559 ووضع خريطة أولمرت المتضمنة الحدود النهائية لإسرائيل عام 2010 قيد التنفيذ، تمهيدا لاضطلاع الكيان الغاصب دورا رئيسيا في المنطقة، يتعدى في رياديته الدور العسكري، ليشمل السياسية والاقتصاد، بعد اكتمال مسيرة التطبيع مع معظم البلدان العربية.

 

والهدف الأبعد من خطة أولمرت، هو تحول مشروع الهيمنة الصهيوني، من مشروع حرب، إلى مشروع هيمنة اقتصادية وسياسية على مجمل البلدان المعرفة طبقا للمفهوم الجيوسياسي الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط، مستندا في ذلك على قوة عسكرية ضاربة، تمد أذرعها من باكستان شرقا إلى المغرب العربي غربا، ومن تركيا شمالا إلى أوغندة جنوبا، لردع العناصر والدول المارقة، غير المتماهية مع مشاريع الهيمنة.

 

أما اليافطة الأخيرة، فهي مخاض الولادة لشرق أوسط جديد. والمعنى هو استبدال النظام العربي الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي عبرت جامعة الدول العربية عن وجوده بنظام شرق أوسطي. إن من شأن مخاض الولادة أن يسقط كثيرا من المفاهيم والمفردات التي شكلت مجتمعة هوية الأمة في مرحلة نضالها الوطني للتحرر من الإستعمار الغربي التقليدي.

 

وكان الهدف ولا يزال، أن يرتبط مشروع الشرق الأوسط الجديد بمجموعة من التغيرات الدراماتيكية التي تأخذ مكانها، وفقا لنص مشروع الشرق الأوسط الكبير، تحت يافطات الإصلاح السياسي والإجتماعي والإقتصادي، وبناء المجتمع المعرفي، وتشجيع الديموقراطية والحكم الصالح، وتوسيع الفرص الإقتصادية، وهي يافطات جميلة وبراقة، لكن الهدف منها، كما كشفت عنه التجربة العراقية، إخضاع المنطقة بأسسرها، والزج بها في مشاريع اندماجية مع العدو، والتسليم بشروطه، وسياساته التوسعية.

 

أما الحرب الثالثة، فقد شنها الصهاينة على قطاع غزة، في نهاية عام 2008م، وبداية عام 2009م. وهي حرب من جانب واحد، اقتصر دور الفلسطينيين فيها، على التصدي للعدوان، بهجمات محدودة. ولم يكن هدف الحرب إعادة احتلال القطاع، بل كسر إرادة الشعب الفلسطيني، تمهيدا لإعادة ترتيب الأوراق في عموم المنطقة، بما يتسق مع “مخاض الولادة الجديدة” ومشروع الشرق أوسط الكبير.

 

لقد انتهت حرب لبنان دون إجراء تعديلات جذرية، فوق رقعة الشطرنج، ولم تكتمل بعد الخارطة الجديدة للكيان الغاصب، التي كان من المفترض أن يتم الإفصاح عنها في هذا العام. وقد اتضح أن هدف الحرب على القطاع، هو ترويضه، وعزله نهائيا عن الضفة الغربية، تمهيدا لجعل الضفة، منطلقا للتسلل الصهيوني لبقية البلدان العربية. وكانت بقية السيناريو، بناء المزيد من المستوطنات، في أراضي الضفة، وتحويل مدنها إلى كانتونات مفصولة عن بعضها بالجدران العازلة، والاستمرار في مفاوضات عبثية، لن يكون من شأنها أن تقدم أي تنازل لصالح الحقوق الفلسطينية.

 

وخلال هذا العقد أيضا شهدت بلدان عربية صراعات لا نخطئ التوصيف كثيرا، إن قلنا أنها أقرب للحروب الأهلية. فقريب منا صراع في اليمن، بين الحوتيين والسلطة المركزية، وصراع آخر بين الحراك الجنوبي وبين السلطة في صنعاء، بما ينذر بتفتيت اليمن، واندلاع حروب أهلية به.

 

وهناك مشكلة مزمنة وحروب أهلية في الصومال، مضى على اندلاعها أكثر من عقدين. ولا يوجد في الأفق ما يشي بقرب نهاية لها.  

 

وبالسودان يستعد الجنوبيون للاقتراع على حق تقرير المصير. وتدل معظم المؤشرات على أن الجنوب متجه لا محالة نحو الانفصال عن المركز، وإعلان دولة مستقلة خاصة به. في ذات الوقت، تتصاعد الأزمة في منطقة دارفور غرب السودان، وليس من المستبعد أن تتصاعد حمى المطالبة بانفصال هذا الجزء عن المركز الأم بالخرطوم. واحتمالات تفتيت السودان إلى أكثر من ثلاثة أجزاء تبدو قائمة، ما لم يتم تدارك الأوضاع الداخلية ومعالجتها، بما يضمن الحفاظ على البقية الباقية من هذا البلد العربي.

 

وهناك حديث في شمال العراق، عن حق تقرير المصير للأكراد، وليس من المستبعد أن يستتبع ذلك حديث عن قيام دولة شيعية بالجنوب، عملا بمبدأ “حق تقرير المصير” أيضا، وبالمثل يجري حديث عن اضطهاد للأقباط في مصر، ومطالبة بضمانات دولية لحماية المسيحيين.

 

المشهد يبدو أشبه بملهاة إغريقية، وقد بلغ خلال عامنا الذي يوشك على الأفول، قمة مشهده التراجيدي. والأنكى أن ما يحدث الآن نذير شؤم بما هو قادم. بحيث تبقى قائمة مصروفاتنا مفتوحة، إلى ما لا نهاية.  

 

في منتصف السبعينيات نظم الشاعر مظفر النواب قصيدته الشهيرة “وتريات ليلية”. وفيها ذكر نهر القارون، وأشار إلى أنه أول نهر في قائمة المصروفات العربية. والنهر يقع بمنطقة الأحواز العربية التي احتلها الفرس عام 1937م.

 

الآن لم يعد النهر يتيما في قائمة المصروفات، فقد توسعت القائمة وتشعبت مفاصلها، لتمشل أنهارا وأوطانا. فجرى تحويل مياه نهر الأردن لقلب صحراء النقب. ولم يكتف الصهاينة بذلك، بل سطوا على مياه من سوريا ولبنان. وهناك انتهاكات لتقاليد وأعراف تتعلق بالنهر الدولي، تأخذ دائما من حصة العرب. واحتلالات شملت بلدانا وجزرا وبحيرات وأنهار عربية، في أماكن عديدة من الوطن الكبير. وإذا ما تم انفصال الجنوب السوداني، فأمامنا تحديات كبيرة  وخطيرة أخرى، تمس الأمن المائي العربي، وتعرض حياة الملايين من المصريين والسودانيين للخطر.

 

في عامنا الجديد، لا مناص من انتفاضة للعقل والروح، لوقف حالة الهدر والنزيف التي تتعرض لها الأمة، والتي ينتج عنها فقدان بلدان وتفتيت أخرى. إن ذلك يتطلب نهجا جديدا وسلوكا مغايرا من قبل القيادات العربية، يرتقي فوق المصالح الذاتية، ويغلب مفهوم التضامن العربي على ما سواه، ويعيد الاعتبار لميثاق جامعة الدول العربية، والتكامل الإقتصادي، والأمن القومي العربي الجماعي، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك. وأكثر من ذلك بكثير، تعزيز روح المواطنة، والمساواة وتكافؤ الفرص في جميع أقطار الوطن العربي، وما لم نسارع لتحقيق ذلك فليس أمامنا سوى المزيد من الهدر في قائمة المصروفات من أوطاننا العربية.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثمانية عشر − 8 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي