حصاد الحرب على غزة
دخلت الهدنة التي أعلنت بوساطة أمريكية لفترة اثنين وسبعين ساعة يومها الأول. وتوضح كل المؤشرات، إلى أن الهدنة هذه، تمثل العد التنازلي لنهاية الحرب بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من العدوان الهمجي الوحشي على أهلنا في قطاع غزة. وقد تجاوزت خسائر أهلنا في القطاع، حتى هذه اللحظة، أكثر من ألف وأربعمائة وستين شهيدا، وما يقرب من الثمانية آلاف جريح، بعضهم جروحهم خطيرة، هذا عدى المفقودين وأولئك، الذين لم يجر انتشالهم بعد من تحت الأنقاض.
ورغم حجم الخسائر الكبيرة في صفوف الفلسطينيين، فربما تكون هذه هي الحرب الأولى، التي يشنها الكيان الغاصب، ويبادر فيها بطلب وقف إطلاق النار، ومن خلفه تقف الإدارة الأمريكية، التي مارست ضغوطها السياسية والدبلوماسية لتحقيق ذلك. ولا شك أنها المرة الأولى، التي تنتصر فيها المقاومة الفلسطينية بوضوح. فقد قاومت ببسالة، وأطلقت أكثر من أربعة ألاف صاروخ، على مختلف المستوطنات والمدن الإسرائيلية، ملحقة خسائر اقتصادية هائلة بالعدو، وما يقرب من ستين قتيلا في صفوفه.
زعم العدو أن هدف الحرب هو نزع سلاح المقاومة، واستخدم القصف الجوي والمدفعية الثقيلة، من البر والبحر، في الأيام الأولى للحرب. وبعد أسبوع من العدوان أعلن نتنياهو عن نيته تطوير الهجوم الإسرائيلي، ليتحول إلى هجوم بري، لكنه فوجئ بضراوة مقاومة الفلسطينيين لقواته الغازية، وبارتفاع خسائره وأعداد قتلاه، فكان أن توقفت قوات الاحتلال، على المشارف الشمالية الغربية للقطاع، ولم تتمكن من الدخول. وقد منح ذلك التوقف، للمقاومين، فرصة ثمينة للتعرض لقوات الاحتلال، واصطياد أعداد منها.
اقتصرت مطالب نتنياهو، في النهاية على تدمير الأنفاق، التي كان لها دور كبير في إلحاق الخسائر بجيش الاحتلال. وذلك في يقيننا هدف متواضع، لا يستحق كلف العدوان. فالصهاينة لم يتوقفوا أبدا في السابق، عن محاولة تدمير الأنفاق. لقد تم التراجع، وإن تكتيكيا عن طلب نزع سلاح المقاومة، وذلك ما تؤكده مختلف الأطراف المعنية بالمبادرة المصرية، التي ستشكل قاعدة للمفاوضات بين الفلسطينيين والصهاينة.
خسر الإسرائيليون الحرب، وانتصرت المقاومة الفلسطينية. والقياس هنا ليس بحجم خسائر كل طرف، ولكن بحجم التحول في مجرى الصراع. فبالمقاربة بين هذه الحرب والحروب السابقة التي شنها الكيان الغاصب على القطاع، كانت الحروب السابقة، تشن من قبل طرف واحد، هو جيش الاحتلال، وكان الفلسطينيون يتلقون الضربات دون التمكن من إصابة أفراد وآليات العدو. هذه المرة، قاتل الفلسطينيون ببسالة، وتسللوا إلى مستوطنات العدو، وتعرضوا لأفراده وآلياته.
قاتل الفلسطينيون ببسالة، وتفوقوا على عدوهم، في مجالي الأخلاق والسياسة، وكلاهما أساسي في علاقته بما هو إنساني. فقد قاتل الفلسطينيون جنودا محترفين، وكانت غالبية لقتلى الإسرائيليين، باعتراف العدو هم من الجنود الإسرائيليين. ومن قتل من المدنيين، وعددهم محدود جدا، لا يتجاوز العشرة في المائة، قتلوا بدون استهداف. أما الشهداء الفلسطينيين، فغالبيتهم من المدنيين، بل إن نسبة من استشهدوا بنيران العدو من الأطفال، تجاوزا الثلاثمائة طفل، بما يتجاوز التسعة في المائة من الشهداء، هذا عدى عن النساء والعجزة والشيوخ، الذي بقوا لعدة أيام تحت أنقاض منازلهم المدمرة، بفعل الهجمات الوحشية الهمجية.
وهكذا اتضح أن الضحية، ظل كما هو ديدنه دائما محافظا على منظومته الأخلاقية ومتمسكا بالبعد الإنساني لمبادئه ولهدفه في التحرير والخلاص من القيود، بينما عبر سلوك المحتل عن عنصرية وغطرسة، تتجانس مع نهجه العنصري التوسعي، والقائم على إنكار وجود الآخر، وكان أيضا متجانسا مع منظومة أهدافه.
في الجانب السياسي، وهو المبتغى الحقيقي لكل الحروب التي تشن في التاريخ، فشلت أهداف العدوان، ولم يتحقق منها هدف واحد. فقد أراد العدو إبراز نفسه في صورة الضحية، بعد أحداث اختطاف ثلاثة من الإسرائيليين من قبل جهة مجهولة، فإذا به يؤكد صورته الحقيقية كجلاد وقاتل أطفال، ومرتكب حرب إبادة ضد الإنسانية.
تكشف مؤخرا، وفقا لما بثته القناة الألمانية الثانية “ذي. دي. إف” الاثنين الموافق 21/7 في برنامج “المجلة الدولية- أوسلاندر جورنال، وأعده الصحفي الشهير كريستيان سيجرس، الذي تتبع خيوط الحدث وملابساته، أن جريمة الخطف لم تكن سياسية، وأنها ارتكبت من قبل مستوطن إسرائيلي آخر، لأسباب مادية بحتة. ولكن جهاز الأمن الداخلي شين بيت الذي علم بأمرها من جهاز الشرطة، تحفظ على كل ما له علاقة بالقصة. ومن بين تلك المتعلقات تسجيل لاتصال هاتفي أجراه أحد الشبان المختطفين مع الشرطة، وهو لم يسجل المكالمة فحسب، ولكنه سجل أيضا صوت إطلاق الرصاص من جانب المختطف على ضحاياه.
تراجعت أوضاع المحتل السياسية والدبلوماسية في كل مكان، وتضاعفت حدة الكراهية تجاه سلوكه، وأقدمت عدة دول في أمريكا اللاتينية، على طرد سفراء إسرائيل منها، وفرض مقاطعة اقتصادية على منتجاته، وتجميد العلاقات الدبلوماسية مع كيانه.
ووحدة الضفة الغربية وقطاع غزة، التي كانت مستهدفة في هذا العدوان، تعززت وترسخت أكثر مما كانت عليه، قبل العدوان. والقضية الفلسطينية، التي أريد لها أن تتآكل، بعد أحداث الربيع العربي، تعززت أكثر، وأعاد لها المقاومون الفلسطينيون الشجعان حضورا قويا، لم تعهده منذ أكثر من عقد من الزمن. ومحاولة تعزيز عزلة القطاع عن محيطه العربي، فشلت بدخول القيادة المصرية، بقوة على خط الصراع، وانغماسها مجددا بالقضايا العربية. وسلاح المقاومة بقي عصيا على الإخضاع.
وإذا فالقول بانتصار المقاومة، لا يحمل نزعة رومانسية، فالعدوان كان قائما قبل الحرب، وسيستمر بعدها إلى أن تتحرر فلسطين. كان الغزاويون قبل الحرب، يعانون من حصار قاس ومن موت بطئ. وقد اعتبرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ومعها كل فصائل المقاومة أن نجاح المفاوضات التي تجري في غزة، هو رهن برفع الحصار.
لقد انتهت مرحلة من الجهاد، لتبدأ مرحلة أخرى، مرحلة إعادة الإعمار، وهو مرحلة لن تكون سهلة، والنهوض بها ليست مسؤولية فلسطينية محضة، بل مسؤولية عربية، وفوق ذلك كله فإنها مسؤولية إنسانية وأخلاقية.