حرب على الإرهاب أم كسر للإرادة
حفل هذا الأسبوع بتطورات درامية على الساحة الفلسطينية يأتي في الواجهة منها تقديم رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، السيد أبو مازن استقالته من منصبه، وقبول الرئيس ياسر عرفات لاستقالته وترشـيح السيد أحمد قريع، رئيس المجلـس التشريعي لرئاسة حكومة جديدة، وقيام قوات الاحتلال الصهيوني بمحاولة اغتيال الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة المقاومة الإسلامية، والشيخ اسماعيل هنية الزعيم البارز في حركة حماس، وانتهاء تلك المحاولة بالفشل، رغم أنها تسببت في قتل وجرح عدد من المدنيين.
ومع أن الحدثين، استقالة الحكومة واغتيال الشيخ، يبدوان منفصلين، إلا أنهما في النتيجة يعبران عن حقيقة واحدة هي تمادي الكيان الصهيوني في سياساته التوسعية والعدوانية، واستخفافه بالحقوق المشروعة للفلسطينيين، وبضمن ذلك حقهم في الاستقلال وتقرير المصير، ورفضه لكل المبادرات السلمية وضربه بالحائط للمعاهدات والاتفاقيات والمواثيق التي قطعها، ومعه الإدارة الأمريكية، على نفسه، ضمن مسلسل عنف طويل، كانت آخر حلقة فيه، خرقه الدموي والفاضح لاتفاقية خارطة الطريق التي نتجت عن مبادرة للرئيس جورج بوش، وحظيت بتأييد كبير من الحكومة الروسية، واحتضان أوروبي واسع..
كان السيد أبو مازن معروفا، منذ منتصف الثمانينيات بمواقفه المعتدلة، وميله إلى التسويات السلمية. وقد تعارضت مواقفه مع مواقف الرئيس الفلسطيني عرفات في كثير من الحالات تجاه بعض القضايا الفلسطينية والعربية، وتجاه طرق الوصول إلى تسوية سلمية مع الكيان الصهيوني، وقد أخذ أبو مازن شهرته العالمية من قيادته لمفاوضات أوسلو، التي نتج عنها توقيع اتفاق غزة-أريحا، عام 1993م، وتمثيله للفلسطينيين في الاحتفال الذي أخذ مكانه بالبيت الأبيض، بحضور الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون وشهد التوقيع على اتفاقيات أوسلو.
وبناء على هذه الاعتبارات، وجدت الإدارة الأمريكية أن أبو مازن هو الحصان الذي يمكن أن تراهن عليه لإنجاح مبادرة خارطة الطريق. بل إن إدارة الرئيس بوش وضعت تعيينه رئيسا للحكومة، والفصل بين سلطة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وسلطته كرئيس وزراء للسلطة الفلسطينية، شرطا أساسيا للمضي قدما في مبادرتها، ووعدت بتقديم الدعم والعون له في مهمته.
وقد استجابت السلطة الفلسطينية للمطلب الأمريكي، أملا منها في أن يلقى أبو مازن ما يحتاجه من دعم وتأييد من قبل إدارة الرئيس بوش، وصولا إلى تطبيق مبادرة خارطة الطريق.
لكن، بعد مائة يوم من العمل كرئيس لوزراء السلطة، قدم أبو مازن قدم استقالته، مدفوعا بالإحساس بالمرارة والجرح في الكبرياء الوطنية، حسب تعبير السيد، حاتم عبد القادر، أحد قادة حركة فتح.
وفي معرض تعليله لأسباب استقالته، أشار أبو مازن إلى جملة الظروف التي تعرضت لها حكومته موضحا أنه واجه ظروفا صعبة، بل ومستحيلة، نتجت عن قيام الحكومة الإسرائيلية بوضع جدار سميك سدت به كل السبل أمام أي تقدم في عملية السلام، ومارست أبشع أنواع القهر والأذى بالشعب الفلسطيني وأرضه وحقوقه، وتهربت من الاستحقاقات وتنفيذ الالتزامات المترتبة على القبول بعملية السلام. ونبه أبو مازن إلى غياب الحزم والتصميم الدولي تجاه تطبيق “خارطة الطريق”.
ومن جهة أخرى، واجهت حكومة أبو مازن مشاكل عديدة حدث بعضها نتيجة لتعدد مراكز إصدار القرار الفلسطيني وغياب التنسيق بين رئيس السلطة ورئيس الحكومة، والصراع المحتم والذي لم يعد سرا بينهما. ومما لا شك فيه، أن تبني الإدارة الأمريكية وإلحاحها على تعيين “أبو مازن” رئيسا للسلطة، ومواقفه المعلنة من التسوية، قد وضعت علامات استفهام كبيرة على الدور الذي يتوخى الأمريكيون منه أن يضطلع به تجاه قهر الإنتفاضة الفلسطينية ونزع السلاح عن حركة المقاومة الفلسطينية، تحت شعار وحدانية المرجعية ووحدانية السلطة. وقد أدى ذلك إلى أن تتعرض حكومة أبو مازن، حسب وصفه في كتاب استقالته: “لأبشع أنواع التحريض والتشويه ووضع العقبات والعراقيل في طريقها قبل ولادتها، بهدف شلها وعدم تمكينها من إنجاز مهامها التي رسمتها قيادة المنظمة”.
والواقع أن المتتبع لمسيرة خريطة الطريق، منذ إعلان الهدنة حتى يومنا هذا، سوف يدرك استحالة قيام حكومة أبو مازن بأداء المهام التي أوكلت إليها، وأن المسؤول الأول والأخير عن فشل مهمته هما الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية مجتمعيتين.
لقد كان من المفترض أن يبدأ الفريقان، الفلسطيني والإسرائيلي مرحلة من الهدنة، تتوقف فيها العمليات العسكرية ضد بعضهما البعض، وتستغل هذه الفرصة للدفع بالعملية التفاوضية، والبرامج السياسية، خطوات إلى الأمام، بوساطة ورعاية أمريكية. ولأن المطلوب من الصهاينة هو معالجة القضايا المعلقة، وفي مقدمتها عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وحل قضية القدس، وتفكيك المستوطنات، والإتفاق على قيام الدولة الفلسطينية وحدودها وصلاحياتها، فإن حكومة آرييل شارون اليمينية، عملت كل ما في وسعها للتهرب من الإستحقاقات المطلوبة منها، واستغلال فترة الهدنة، لاصطياد واغتيال قادة حركة المقاومة الفلسطينية، وفي المقدمة منهم قادة حركتي حماس والجهاد، الواحد تلو الأخر من جهة، ومن جهة أخرى عملت أيضا، على إشغال الفلسطينيين ببعضهم البعض وإحداث فتنة فيما بينهم عن طريق الضغط على أبي مازن لنزع أسلحة المقاومة، وتكليف أجهزة الموساد بالإشراف على اغتيال بعض القيادات المعتدلة من حركة فتح، كالسيدين، هاني الحسن وعباس زكي، والإيحاء بأن عناصر المقاومة الإسلامية هي التي قامت بتنفيذ عمليات الاغتيال، الأمر الذي تنبهت له قيادة السلطة في وقت مبكر ومنعت حدوثه. وقد تم كشف هذا السيناريو، وألقي القبض على بعض الأفراد الذين كان من المنتظر أن يتورطوا بتنفيذ عمليات الاغتيال بحق القادة, وفي هذا الإتجاه، ضغطت الإدارتان الإسرائيلية والأمريكية، على الحكومة الفلسطينية لتنفيذ بعض المطالب والإجراءات غير المنطقية بحق منظمات المقاومة، كالمطالبة نزع السلاح، ومنعها من القيام بعمليات انتقامية من العدو، مما صعد الخلافات بين المقاومة والسلطة، في الوقت الذي تعربد فيه تلك قوات الاحتلال الصهيوني في كل مكان من الأراضي الفلسطينية وتقوم بقتل المدنيين من النساء والأطفال دون واعز أو رادع.
وهكذا يغدو نشر الفتنة بين الفلسطينيين وسيلة أخرى لإطالة أمد الإحتلال وإضعاف مقاومة الفلسطينيين له، تماما كما تفعل الآن قوات الإحتلال الأمريكي في العراق، عندما تحرض على الفتنة بين الطوائف الدينية المختلفة، والأقليات القومية، سعيا منها لتوجيه جهود العراقيين نحو الإقتتال بينهم لكي يكون في مقدور القوات الأمريكية تثبيت أقدامها في وادي الرافدين.
وعلى الرغم من تمسك الفلسطينيين بالهدنة طيلة الأشهر التي أعقبت التوصل لاتفاق على مبادرة خارطة الطريق، فإن الكيان الصهيوني اعتبر نفسه في حل منها وغير معني بها، وواصل عمليات الإغتيال بشكل تصاعدي، حتى بلغ حد التعرض لرئيس حركة المقاومة الإسلامية الشيخ أحمد ياسين. وإذا أخذنا بعين الإعتبار المكانة الدينية والسياسية للشيخ الجليل وموقعه في حركة النضال الفلسطيني، ووضعه الصحي، وكونه قائد سياسي وليست له علاقة، مباشرة، بالعمليات العسكرية التي تشنها حركته ضد الكيان الصهيوني، وإلى الظروف والملابسات التي أحاطت بعملية الإغتيال ومكانها، تكشف لنا أن الكيان الصهيوني قد أقدم بذلك على اجتياز الخطوط الحمراء، وأطلق رصاصة الرحمة على مبادرة خارطة الطريق الأمريكية.
والغريب في الأمر أن عمليات العربدة والإغتيال التي تمارسها سلطات الإحتلال الصهيوني لا تلق الإدانة اللازمة من المجتمع الدولي، بما فيهم الراعي الأمريكي والإتحاد الأوروبي، وإن حدث ذلك فإنه يجري على استحياء، ويتزامن ذلك مع إدانة حازمة لعمليات المقاومة، واتخاذ مواقف معادية لها، ووضع أجنحتها السياسية على قوائم الإرهاب. وإذا ثبت ما نسب إلى الرئيس الأمريكي، جورج بوش من أنه أعطى الضوء الأخضر لشارون لاغتيال الشيخ أحمد ياسين، وأنه دعا إلى التريث حيال تصفية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وأن محاولة الإغتيال قد أعد لها بعلم الإدارة الأمريكية، عند ذلك لا تبقى بارقة أمل للفلسطينيين للتوصل إلى حل مشرف يضمن استعادتهم لحقوقهم، عن طريق التوسل بطاولة المفاوضات، ولا يبقى أمامهم طريقا سوى مواصلة كفاح التحرير بكافة صيغه وأشكاله.
بالأمس صرح مسؤول سابق في وكالة الإستخبارات الأمريكية أن شعار الحرب على الإرهاب يستخدم الآن كغطاء لتنفيذ مآرب تهدف إلى الهيمنة على العالم. ويقينا أن الذي يجري حاليا في فلسطين من قتل للأطفال والنساء وهدم للبيوت، لا يمكن أن يدخل في خانة الحرب على الإرهاب، بل إنه عمل منهجي ومنظم لكسر الإرادة وفرض الهيمنة..
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2003-09-10