حرب باردة وليست مواجهة شاملة
التهديدات الأمريكية لإيران، باتت حالة مألوفة منذ اندلاع الثورة الإسلامية، في نهاية السبعينات من القرن الماضي. وقد بلغت ذروتها في الأيام الأولى لقيام الجمهورية، مع احتجاز موظفي السفارة الأمريكية رهائن للحرس الثوري الإيراني.
وحينها، توقع كثير من المراقبين أن تقدم إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، على عمل عسكري واسع، بهدف إطلاق سراح الرهائن بالقوة العسكرية، وبما يحفظ هيبة الولايات المتحدة.
وكان النظام الجديد في طهران آنذاك، لا يزال يحبو، ولم تكن هناك مؤسسة دولة بالمعنى الحقيقي، بعد أن تم تدمير إرث الشاه والمؤسسات التي دشنت في عهد النظام الشاهنشاهي، بشكل يكاد يكون كاملاً. لكن الرد العسكري الأمريكي، كان مهزلة بكل المقاييس، من حيث فقدانه للجدية والإرادة.
ولم يكن لذلك السلوك من تفسير، سوى ما تعرضنا له في حديث سابق، من قوة جبروت الجغرافيا الإيرانية، وموقعها قريباً من الدب القطبي، بما يجعل من استقرار هذه البلاد ووحدتها، مطلباً، لدى الولايات المتحدة وحلفائها في القارة الأوروبية.
ويرجع باحثو تلك المرحلة فشل كارتر في الانتخابات الرئاسية لدورة ثانية، وفوز منافسه رونالد ريجان إلى عجزه عن معاقبة إيران، وعدم قدرته على فك أسر موظفي سفارة بلاده في طهران.
والأنكى من ذلك هو ما كشفت عنه الوثائق، قبل سنوات عدة من اتفاق بين عناصر متنفذة في النظام الإيراني، وبين ممثلين عن المرشح الرئاسي الجمهوري رونالد ريجان، بوساطة جزائرية، خلاصتها موافقة طهران على طلب من ريجان بتأجيل إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين، حتى إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، لمطلع عام 1980. وذلك هو ما حصل بالفعل.
ومنذ ذلك الحين، شهدت العلاقة بين واشنطن وطهران، ما يمكن أن نطلق عليه مجازاً بالحرب الباردة، مع فترات قصيرة من العلاقة الجيدة، شهدت تنسيقاً بين أمريكا وإيران، الأولى أثناء حرب الخليج الأولى؛ حيث ساد التنسيق بين البلدين، حتى استعادة الكويت سيادتها.
والمرة الأخرى، التي شهدت استرخاء في العلاقة بين البلدين، أخذت مكانها بعد 11 سبتمبر عام 2001م، وإعلان إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، الابن حرباً عالمية على الإرهاب؛ حيث ساندت طهران الاحتلال الأمريكي لأفغانستان؛ وحيث نسقت مع أمريكا في احتلال العراق، وأسهمت من خلال مناصريها في ملء الفراغ السياسي الذي حدث بعد إسقاط الحكم الوطني، وبذلك قدمت أمريكا العراق على طبق من ذهب لإيران.
تكررت التهديدات الأمريكية لإيران، واتسعت في عهد الرئيس ريجان نفسه، صاحب الاتفاق السيئ الذكر مع طهران، وبلغت حد قصف رصيف تحميل نفط إيراني، معزول، في مياه الخليج العربي، توقفت طهران عن استخدامه منذ أيام الشاه، لتضيف إلى مهزلة كارتر، مهزلة أخرى. ولتؤكد عدم جدية أمريكا بالدخول في مواجهة عسكرية شاملة مع طهران.
انش
غل خليفة ريجان، الرئيس جورج بوش الأب، بقضايا أخرى، غير قضية إيران. فدشن رئاسته بغزو بنما وإلقاء القبض على رئيسها مانويل نوروييجا، وجل
به إلى واشنطن؛ حيث ظل سجيناً حتى يومنا هذا. ومن ثم حدث الغزو العراقي للكويت، واضطر الرئيس الأمريكي، للتنسيق غير المباشر مع طهران، في عملية عاصفة الصحراء. وبالرغم من تحقيقه النصر الحاسم لبلاده، في تلك الحرب، لكن الأوضاع الاقتصادية المتردية، في بلاده آنذاك، لم تمكنه من حصد الأصوات الكافية، للبقاء في دورة ثانية بالبيت الأبيض. وتسلم الرئاسة بعده بل كلينتون.
وكما انشغل بوش، بالمسألة العراقية، واصل خلفه الاهتمام بها أيضاً. وشن عملية عسكرية ضد بغداد، عرفت بعملية ثعلب الصحراء. وفي حينه، تواترت الأنباء عن طموحات طهران النووية، من غير ردود فعل عملية من قبل واشنطن.
واكتفت إدارة كلنتون بإطلاق التصريحات النارية، دون عمل جدي يستحق الذكر، للتصدي لطموحات طهران النووية، وتطويرها المستمر للصواريخ الباليستية بعيدة المدى.
في حينه، هددت «إسرائيل» وتوعدت، بضرب المفاعلات النووية الإيرانية. بل وبلغ الأمر حد إعلان التدريبات على عملية تزويد القاذفات «الإسرائيلية» بالو
قود أثناء طيرانها، باتجاه إيران. وتكرر ذلك أثناء حكم الرئيس جورج بوش الابن، الذي انشغل منذ أيامه الأولى بحوادث 11 سبتمبر 2001م، وما تمخض عنها من إعلان حرب عالمية على الإرهاب نتج عنها احتلال أفغانستان والعراق. وبدا من الصعب أمام التداعيات الخطيرة للاحتلالين الأمريكيين على الأمن القومي الأمريكي، أن تتوجه الإدارة الأمريكية بعمل عسكري جدي نحو طهران.
وبنهاية عهد بوش، وتسلم باراك أوباما لسدة الرئاسة، برزت حقائق جديدة في موازين القوى الدولية، أنهت تفرد الإدارة الأمريكية بقيادة العالم، واعترف منظرون استراتيجيون أمريكيون، من أمثال صامويل هانتنجتون بنهاية مرحلة الأحادية القطبية. وأن العالم، يتجه نحو تعددية قطبية، ولكن بزعامة أمريكية.
ما نخلص له من هذه القراءة، أن فرص مواجهة إيران عسكرياً، من قبل أمريكا كانت مواتية، أثناء الأحادية القطبية؛ حيث لم يكن باستطاعة أية قوة دولية أخرى، تحدي إرادتها. أما وأن العصر الذهبي السياسي، لأمريكا قد بات من الماضي، وهو أمر لم يعد موضع سجال، بعد التحولات الدراماتيكية الروسية، وضم القرم، والتدخل العسكري المباشر في سوريا، ودعم حكومة مادورو في فنزويلا. يضاف إلى ذلك الصعود الاقتصادي الكاسح للصين، وتوسعها الهادئ والثابت، في القارة السوداء، فإن الوقت لم يعد في صالح إدارة ترامب، لاتخاذ أي خطوة جدية لمواجهة طهران عسكرياً.
العرب بحاجة إلى عدم الاعتماد على القوى الخارجية، لصيانة أمنهم واستقلالهم، بل إلى تفعيل معاهداتهم ومواثيقهم، بما يحفظ أمنهم القومي، ويصدوا العدوان عنهم.