حديث في التنمية
مصطلحات كثيرة، ذات علاقة بالمفهوم تصدمنا كل لحظة، ومؤتمرات تعقد في العواصم العالمية، لمعالجة قضايا التنمية. فهناك مؤتمر دولي، يعقد كل عام لحماية البيئة والتنمية المستدامة. وهناك بيان قمة صادر عن هيئة الأمم المتحدة، يضع خطة للتنمية والقضاء على الفقر، لألفيتنا هذه, وهناك تنميات أخرى: للموارد البشرية، والهياكل الاجتماعية، والقدرات التكنولوجية وتنمية اقتصادية.
لن يكون بإمكاننا، أن نغوص كثيرا، في مختلف هذه “التنميات”، لكن المؤكد أن كثرة تناول المصطلح، وتشعباته، تعني أن أمامنا أكثر من فهم ورؤية له، وبالتالي، أمامنا خيارات واستراتيجيات ورؤى عديدة لوضع المصطلح موضع التنفيذ.
ارتبط مفهوم التنمية بالنمو، لكن ذلك لا يعني وجود تعريف واضح وشامل له، فهناك تعريفات وتفسيرات وتأويلات وقياسات مختلفة، استخدمت لجهة تحديد معنى التنمية. وقد عكست في مجملها اختلافات شاسعة بين المهتمين بتحقيق النمو، حول المفاهيم التي يجب أن تحكم وتوجه العمليات التنموية. ومن غير شك، فإن المفهوم مشبع بحمولات أيديولوجية.
وفي هذا السياق، برز بشكل خاص الخلاف بين مدرسة الاقتصاد الحر، التي تعتمد على المبادرات الفردية وتحرير الاقتصاد من كل القيود، والمدرسة التي تؤمن بضرورة الاعتماد على التخطيط في كافة المستويات، وتحقيق الملكية العامة لوسائل الانتاج.
لكن معظم من تناولوا قضايا التنمية يتفقون على أن لفلاسفة اليونان فضل السبق، في مناقشة قضايا التطور والنمو. وبينهم كان هرقليطس الذي اهتم كثيرا بقضايا التغيير، مشيرا إلى أن الكون في حركة وتغير دائبين. وأن كل شيء مؤلف من متضادات ومتقابلات، ولهذا فإنه خاضع للتوتر الداخلي، أي للصراع. وقد عرفت عنه مقولته الشهيرة، ” إنك لا تستطيع العوم في نفس ماء النهر مرتين”. إنه بذلك يرفض أطروحة زميل يوناني له، هو برمينس القائلة بأن كل شيء قد تكون، ولا مجال للتغيير، كما يتعارض مع فلسفة أفلاطون في اعتباره التغيير أمرا ظاهريا، وأن الحقيقة لا يمكن معرفتها إلا من خلال الشكل أو الفكرة، وهما شيئان غير قابلان للتغيير لأن بهما وحدهما نستطيع أن نميز الجديد والحقيقي من غيره. في حين قال أرسطو في كتابه طبيعة الدولة بوجود نظام في الكائن العضوي يسهم في انتقاله من طور إلى أخرى، مبتدء بالولادة فالنمو فالنضج وأخير االإضمحلال، وكل مرحلة من مراحل النمو تختزن في باطنها حافز نشوء المرحلة التي تليها.
كان الاهتمام بالأبعاد الفلسفية للتغيير والنمو، قد شغل كبار الفلاسفة. ولعل ذلك من العناصر التي حرضت العلامة عبد الرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي على صياغة نظريته في النشؤو والعمران. إن الطريقة التي يحياها الناس هي ا نعكاس للوظائف الاجتماعية التي يمارسونها، ووسيلة كسب القوت تحدد الموقع الاجتماعي للفرد الذي يمارسها.
إثر الثورة الصناعية، تطورت مفاهيم التنمية، وتجذرت الخلافات، ولا تزال بصورة أعمق حولها. ورغم عدم اتفاق معظم الباحثين بشأنها، فإنهم جميعا يتناولون التنمية من موقف إيجابي، ويرون فيها منفعة وخير عام، كونها تنطوي على تغيير مستمر وإيجابي، وصناعة مستقبل أفضل.
فقد وجد فيها جونار ميردال حركة صعود إلى أعلى تشمل النظام الاجتماعي بأسره. إن الفقر يعني نقص أو افتقاد شيء، والتنمية هي معالجة هذا النقص. إن ذلك يعني ارتباط المفهوم بالحضارة، وبالمجتمع الحضري. وتطبيقاته مرتبطة بالمراحل اللاحقة للمجتمعات الزراعية. وليس هناك حديث عن تنمية، دون مقابلته بحديث آخر عن تخطيط، واستراتيجيات مستقبلية. المفهومان: التنمية والتخطيط لا يقبلان بالصدفة، كون تطبيقاتهما تعتمد برامج واضحة للنهوض.
في المجتمع العربي، وبشكل خاص بالدول الغنية، النفطية، أدت الثروة النفطية، إلى زيادة مداخيل الأفراد، بما أسهم في تحسين أوضاع الناس، في مختلف المجالات. وقد أدى ذلك إلى تنمية الجوانب الاستهلاكية لدى الفرد. إن زيادة مداخيل الأفراد، تشكل تطورا حقيقيا في محال تلبية الاحتياجات الأساسية، لكن ذلك يجعل من مطلب التنمية المستدامة، أمرا جوهريا. ولن يكون ذلك ممكنا إلا بإيجاد بدائل حقيقية مستقبلية لاستمرار بحبوحة المواطن، إن من شأن غياب التنمية المستدامة، تآكل موسم الرخاء وجعله محدودا، ومرتبطا بالحاضر، وحرمان الأجيال القادمة، من هذه النعمة.
هذه النقطة تنقلنا مباشرة، لموضوع آخر في التنمية، هو ارتباطها بالحالة التاريخية. فليست أوضاع الأمم متجانسة من حيث حركتها، وثرواتها ومصادر دخلها. إلا أن ذلك لا يعني أن ليس بمقدور الإنسان، تجاوز واقع الحال، وخلق ظروف أفضل اعتمادا على المبادرة والإبداع.
ومع ذلك، يجدر التنبه إلى أن العملية التنموية، تتحقق في زمن محدد، وتجري في مكان معين، وعلى كاهل أشخاص، يفترض أن تجمعهم لحمة اجتماعية. ومن هنا يتلازم حضور ظرفي الزمان والمكان، ليضطلعا بشكل مشترك بالعملية التنموية. وبذلك يتحقق جدل التفاعل بين الموروث والمعاصرة. ويكون العنصر الأساس، في العملية التنموية هو التخطيط والإبداع والمبادرة.
وأمامنا في هذا السياق أمثلة كثيرة، فليست كل دول أوروبا الغربية، تملك المصادر الأساسية اللازمة لتحقيق التنمية. لقد تمكنت بعض دولها كألمانيا، من أن تصبح قوة صناعية كبرى، اعتمادا على التخطيط والمهارة والمبادرة والإبداع، والاستثمار في تنمية الموارد البشرية، ووضع استراتيجيات فاعلة نقلت المجتمع الألماني بقوة من طابعه الزراعي، إلى قوة صناعية هائلة.
والعبرة التي تستخلص من هذه التجارب، أن التنمية بأبعادها المختلفة، لا تتحقق وفق سياقات تراتبية، أو ميكانيكية، بل يفرضها الفعل الإرادي الإنساني، وهي بالنتيجة، حاصل تكيف بين أنشطة بشرية، تختلف في تداعيها من مكان لآخر.