حديث في التاريخ
عرفت الموسوعة العربية العالمية علم التاريخ بأنه “احد العلوم الإنسانية التي تعنى بدراسة الماضي البشري، ويقوم المؤرخون بدراسة الوثائق عن الحوادث الماضية، وإعداد وثائق جديدة تستند إلى أبحاثهم، وتسمى هذه الوثائق أيضاً تاريخا”. أما دائرة المعارف البريطانية فقد عرفت التاريخ على أنه العلم الذي يهدف إلى تقديم وصف لمسيرة التاريخ الإنساني. وأشارت إلى أن مفهوم التاريخ يستخدم للإشارة إلى معنيين، الأول: يشير إلى الأفعال والأعمال التي شكلت مجتمعة ماضي الإنسان، والثاني: يشير إلى القيمة التي يعطيها المؤرخ إلى البحث عن الماضي، كما وصل إلينا. وهكذا فإن المعنى الثاني يحاول أن يجعل من دراسة التاريخ موضوعا في الفلسفة، إذ أنه لا يكتفي بمناقشة الحوادث كما جرت حقيقة، ولكن يدرس تلك الحوادث ويشرحها، ويوضح أسباب وقوعها.
على أن ما يهم هنا، هو ليس معرفة التاريخ، كمجموعة حوادث، وإنما إلقاء الضوء على بعض العناصر والإشكاليات الرئيسية المتعلقة بعلم التاريخ… إنه توق إلى معرفة وسائل وأهداف صياغته… وأيضا إلى الأسباب والأشكال.
وعلى هذا الأساس، يبدو جوهريا وعي أهمية استخدام مناهج التحليل التاريخية، ووعي الصعوبات التي تواجهها، وعلى الأخص كون معظم تلك المناهج مرتبطة بظروف تاريخية، ومكانية، ومطوقة بسلسلة من الإشكاليات والشبهات، متناقضة مع بعضها البعض. ومن هنا، يكتنف الغموض والضبابية والحيرة والتناقض كثيرا من تلك الإستنتاجات، وتبدو في الغالب محددة منحازة لصناعها.
المؤرخ هو الذي يتولى تدوين التاريخ، ويمدنا بما يتوفر لديه من معلومات عن الزمن الغابر. إلا أننا في الغالب، عند قراءتنا للتاريخ، لا نميز بين شيئين مختلفين: مجموعة أحوال الكون في الزمن الغمابر، ومجموعة معلوماتنا حول تلك الأشياء. ذلك أنه بالنسبة للمؤرخ، كما بالسبنة لنا، نحن القراء، فإن كل شيء غير معلوم هو في حكم المعدوم، إذ أن ما يدل على الأحوال هو الخبر عنها، وإذا انعدم الخبر غاب العلم بالشيء. وهكذا فنحن حين نقول ببداية التاريخ، إنما نتكلم عن معرفة نسبية بعوارض وحوادث، وربما توصلنا إلى نتيجة مهمشة حول عدم أهمية ما ليس لنا علم به.
وبناء على ذلك، فإن التاريخ العام هو مجموعة الأحوال التي عرفها الكون حتى اللحظة. أما التاريخ المحفوظ فهو مجموعة ما يعرفه المؤرخ في تلك اللحظة. والمؤرخ هو الممثل النظري للحرفة كلها، بشخص أجيال المؤرخين. وهنا يبرز فرق كبير بين التاريخين… ويجري النضال الإنساني المعرفي في هذا الحقل لتحقيق تطابق بين الواقع والمعلوم.
إلا أن أخبار الماضي ماثلة في حاضرنا. بمعنى أنها ماثلة في ذهن المؤرخ، وماثلة حين مقارنة الماضي بالحاضر، والحاضر بالماضي. وهي معرفة نسبية، كونها تستجيب لمتطلبات الوضع القائم، وأنها دائما عملية تجيب عن أسئلة حالية. والماضي إذا، موجود في الحاضر في شكل خبر… والكلام عن الماضي هو نوع آخر من المشاهدة، إذ أن ما يبقى من الماضي هو الأخبار المعاصرة الدالة عليه. المؤرخ يقارن بين حوادث الماضي ويستخلص منها دروسا وعبرا. وقد جعل القدماء من التاريخ مدرسة تابعة للسياسة والأخلاق. ومن هنا فإن الوعي بالقدرة على الترجيح والإختيار ملازم للملاحظة والإستنباط. على أنه يقتضي التأكيد هنا أيضا، أن معرفتنا بالحوادث هي معرفة نسبية، إذ أن هناك دائما فرق بين الإشارة والمشار إليه، وبين الرمز وما يرمز إليه، وأخيرا الإستنباط.
ومن هنا فإن التاريخ الكوني، بالنسبة لنا، هو ما نملك القدرة على استيعاب محيطه، على الرغم من إدراكنا المسبق بأن التاريخ حقيقة موجودة، بكامله وشموليته، في عالم غير عالمنا، عالم نحاول، جادين، عبر جهود مضنية، ودراسات متواصلة أن نكشف عنه. وفي عملية الكشف هذه، تترادءى لنا، بين فترة وأخرى، كم هي ضحلة تلك المعلومات والأساطير التي كونت معارفنا حول قضية ما، من القضايا التاريخية.
ويعتقد أكثرية الباحثين في نشأة التاريخ، أن علم التاريخ فكرة بدأت أولا بالنقش على ضرائح معابد الأمم، وأن أقدم من وصلت إلينا نقوشهم في العصر الحاضر هم السومريون والبابليون والأشوريون في العراق، والعماليق جبابرة الشام، والفينيقيون سكان لبنان، والثموديون في الحجاز، والجرهائيون في الخليج العربي… وآثار الفراعنة في مصر من تماثيل ومومياء وأهرامات. والواقع أن التاريخ يحكي لنا أخبار الماضي في شكل خرافة أو في شكل قول مثبت بوثيقة. وكثيرا من الأحداث التي وقعت في الماضي من غير الممكن توثيقها.
وعلى هذا الأساس، اعتبرت الوثائق، بصورة عامة، من أهم المصادر في دراسة التاريخ. ولعل أدق ما يوصف به التاريخ، باعتباره علما، أنه علم وثائقي، باعتباره يعتمد بشكل كبير على ما خلفه الماضي من وثائق، سواء كانت بقايا مادية، أم مدونات تاريخية. وفي الغالب، لا تعتبر الدراسة تاريخية ما لم تستند إلى وثائق يمكن الركون إلى صحتها.
المعيار الحقيقي لأهمية أية وثيقة، هو حويتها وقدرتها على تصوير أو تجسيد أو استعادة روح اللحظة والحدث والعصر، بكل ما في ذلك من حس وتفاعل إنساني، ونبض. على أن التاريخ لا يدون لنا كل الحوادث، وإنما أهمها وأجلها مكانة، وهنا نستعير قول المؤرخ اليوناني، هيرودوت عن ذلك: “حدث هو العمل الخارق الذي يدل على همة فاعله، والواقعة الغريبة التي تستحق أن تبقى مسجلة في الذاكرة، وكذلك الفعل الذي يغير مجرى الحياة البشرية”.
ويرى بعض الدراسين لمادة التاريخ، أن شرط كتابته هو أن لا يكون الباحث جزء من اللحظة التاريخية للحدث، ذلك لإن معايشة الحوادث تعطي دورا، والدور لا يقوم إلا على موقف، والموقف لا يتأتى إلا عن اقتناع، والإقتناع يستند في الغالب على رأي، والرأي بدوره انحياز، وهو ما يناقض الحياد الذي يفترض أن يكون أحد الشروط الموضوعية في إصدار الحكم التاريخ. وهنا يطرح سؤال هام: هل صحيح أن المعرفة التاريخية لا تكون إلا بنبذ الذات؟!.
هناك تداخل واضح جدا بين التاريخ والسوسيولوجيا، ذلك أن وظيفة السوسيولوجيا هي وصف الحياة الإجتماعية من منظور سوسيولوجي، في أزمنة محددة، والماضي بالتأكيد هو أحد اهتمامات تلك الدراسات. وقد عنيت تلك الدراسات بمراسم الموت والزواج، ومشاعر الأبوة والأمومة، وتقنيات النظافة البدنية وصناعة الملابس. وتجري جميع هذه الدراسات السوسيولوجية اعتمادا على المصادر التاريخية، بعد أن تنزع عنها التسلسلات العادية، وتضعها في قوالب مستوحاة من مناهج علوم الإجتماع.
كما أن هناك تداخلا واضحا، بين علم التاريخ وعلوم الطبيعيات. الفرق بين التاريخ وعلوم الطبيعيات هو أن الأول يدرس الأحداث الفريدة، بينما يدرس الثاني الحوادث المتواترة. وقد انطلقت المدرسة الكانتية من موقف أكثر دقة، هي أشارت إلى أن الفرق بين عالم التاريخ وعالم الطبيعة هو أن الأول يدرس شئون البشر، والثاني يدرس أمور الطبيعة، وبأن أحدهما عالم التاريخ يدرس المتحول، أما عالم الطبيعيات فيدرس الثابت، ذلك لأن عالم الطبيعة يدرك الخاص من عموميته، أما عالم التاريخ فيدرس الخاص من خصوصيته. على أن ذلك ليس قانونا مطلقا، لأن دراسة الخاص لا تدرس شئون البشر وحدهم. فالطبيعة ذاتها يمكن أن تدرس من منظور خاص. فعلى سبيل المثال، تسقط طائرة فيريد الناس معرفة أسباب سقوطها. وتغدو هذه المعرفة مهمة جدا، حين ينتج عن سقوط هذه الطائرة وفاة زعيم سياسي أو عالم مشهور أو شخص آخر معروف للجميع بتفرده في مجال ما من مجالات النشاطات الإنسانية، أو حين تتسبب تلك الحادثة في تداعيات أخرى. وكذلك الحال بالنسبة للكوارث الطبيعية، كالأعاصير والزلازل.
هل المنهج ضروري لدراسة التاريخ” الجواب على ذلك أن الباحث المتخصص محدود الأفق، يعرف الخبر بالوثيقة، وأنه في الغالب سيقدم لنا معلومات ذات طابع تقريري، يقيني.
وعند الحديث عن المنهج يجدر التمييز بين نوعين من التوجه إلى كتابة التاريخ: نوع مبنيى على فكرة الماضي الجاهز، يغيب فيه السؤال. وهذا النوع من كتابة التاريخ هو الذي ساد في معظم المدونات التاريخية القديمة. ونوع آخر يعتمد على النقد والتحليل توخيا إلى الوصول للحقيقة. ويؤدي الإنتقال من السرد إلى النقد، كما يقول عبد الله العروي إلى تقدم متواز بين الإشكالية النقدية والسرد التاريخي، إذ بقدر ما يبتعد المؤرخ المحترف عن السرد والتقرير ويتجه إلى النقد والتحليل، بقدر ما يضخم ويكبر إنتاج القصص التاريخية في التأويل لأنه يستجيب إلى حاجة اجتماعية، وربما بشرية. وحين يتحقق ذلك ينفصل التاريخ النقدي عن التقريري، وقد ينتهي بالمحرر إلى الإحجام الكلي والعجز العام عن التأليف بالإمعان في الشك والإحتزاز.
ــــــــــــــــــ
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-05-04
2020-05–0 9-:02
سكينة السيوطي من المغرب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد التحية شكر خالص ل د.يوسف مكي على هده المقالة الغنيةبالمصطلحات .اقول للاخ يوسف نحن لا نحتاج لمصطلحات وتشبيه بل نريد خلق ابداع .نريد ان نرسم بالدهب الثمين الدي لا ينمحي مع السنين اثارا خالدا يا اخي .ولا اضن ان هده المقالة اول مقالة تتمحور حول هدا الموضوع بل سبقت من قبل كتاب غرب فكفانا تنسيخ…….يا اخ يوسف
2000-00–0 0-:00
حسين العسقلاني من مصر / الفيوم
السلام عليكم
مقال جميل
ولو أضيف إليه ما أضافه المسلمون للرقي بعلم التاريخ لكان المقال في غاية الروعة
وشكرا
2020-06–1 0-:02
al-mnsoore@hotmal.com من الامارات
مشكووووووور
2020-06–1 0-:03
نبعة من كويت
اشكرك على اعدادك لهذا الموضوع الشيق
أود…معرفة مفهوم التأريخ كعلم ،،ولماذايعتبرالتأريخ علما..؟وطريقة البحث في علم التأريخ
2020-06–1 0-:03
نبعة من كويت
اشكرك على اعدادك لهذا الموضوع الشيق
أود…معرفة مفهوم التأريخ كعلم ،،ولماذايعتبرالتأريخ علما..؟
2020-06–1 0-:01
ناصر عبدالناصر من
مقال جيد وغني ومفيد , ولكن هل من الممكن ان اعرف
1-طريقة البحث العلمي في علم التأريخ
2-ورأيك في كتب التاريخ المقررة في المدارس الابتدائية , لما للتعليم الابتدائي من اهمية
وشكرا
2020-06–1 1-:06
أحمد الظفيري من الكويت
كل الشكر والتقدير لصاحب المقالة الدكتور الفاضل : يوسف مكي
فقد استفدت كثيرا من المعلومات التي طرحها عن علم التاريخ
زادك الله علما وفقها
وبارك الله فيك
والسلام عليكم
2020-06–1 1-:02
من
انت ميه ميه ياباشا انا اخدت الموضوع بعداذنك وعملته موضوع قدمته في المدرسة لاني كنت محتاج موضوع عن علم التاريخ واضطريت أخد موضوع حضرتك وكتبت في المراجع ان حضرتك صاحب الموضوع
شكرا مره تانية
2020-06–1 1-:05
بويوسف من الكويت
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الله يعطيك العافيه دكتور يوسف على الحديث الشيق ومشكووور جدا بس لى طلب صغير اذا امكن اللى هو
1_ مفهوم التأريخ كعلم ولماذا يعتبر التأريخ علمان؟
2_ بين طريقة البحث فى علم التأريخ ؟
اقرب وقت اذا امكن دكتور ومشكوووور
بو يوسف