حديث حول حق تقرير المصير

0 222

انتهينا في الحديث الماضي من مناقشة مشروع الشرق الأوسط الكبير- الجديد، وتوصلنا إلى أنه رغم كل العبارات البراقة التي هدفت إلى تسويقه، فإنه مشروع عسكري، عموده الفقري وقوته الضاربة هي “إسرائيل”. وأنه يهدف إلى جعل المنطقة بأسرها، ملحقا تابعا للسياسات الصهيونية، وحديقة خلفية، وسوقا واسعة لمنتجاتها. وأن التفتيت و”الفوضى الخلاقة” هي شروط لازمة لتحقيق المشروع. وخلصنا إلى أن التدخلات الأمريكية والصهيونية الواسعة في شؤون البلدان العربية، تحت ذرائع مختلفة، من ضمنها تحقيق التمدين والديموقراطية، وتمكين الأقليات الإثنية والدينية من نيل صبواتها في تقرير المصير، هي مقدمات تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.

 

 

ولما كانت المقاربات والمقارنات هي من أسس التحليل والاستنتاج العلمي، فإنه لا مندوحة عن التوقف في هذا الحديث عند محطات ومنعطفات في تاريخ المنطقة المعاصر، لنؤكد على زيف الشعارات واليافطات الغربية، التي تطرح كمبرر لتحقيق الاستلاب الوطني والقومي، والتي تجد للأسف أصداء مقبولة لدى بعض النخب الثقافية العربية.

 

ورغم أن التاريخ لا يعيد استنساخ ذاته، لكن ذلك لا يلغي وجود تشابه نسبي في شكل وطبيعة المبررات والسياقات التي تتداعى فيها الحوادث. ولعل الذين أتيحت لهم قراءة، ولو نزر يسير، من تاريخ الصراع على تقاسم تركة الرجل المريض في الأستانة، يتذكرون جملة الشعارات واللافتات التي رفعتها القوى الدولية المهيمنة آنذاك من أجل دعم استقلال دول البلقان.. لقد كانت شعارات الحرية الدينية وحق تقرير المصير في مقدمة تلك الشعارات. بل لعلنا نذهب بعيدا، فنشير إلى الحروب التي نشبت بين العثمانيين والصفويين، وكيف كانت حقوق السنة والشيعة، في مقدمة الأسباب المعلنة، التي جرى التلفع بها لتبرير الهيمنة على العراق، من قبل هذا الفريق أو ذاك.

 

وكان الحال قريبا من ذلك، حين وطأت أقدام الجيوش الفرنسية، بزعامة نابليون، أرض الكنانة. فقد أشار المحتلون إلى أنهم جاءوا إلى مصر ليحرروا المصريين من استبداد المماليك، وكانت مقدمات تحقيق العدالة إرهاب منهجي منظم ضد الشعب المصري، واعتداء على الأعراض، ونهب للثروة. وكانت مقاومة باسلة تداخل فيها القومي والوطني، عندما أقدم شاب أزهري من مدينة حلب يدعى سليمان الحلبي على قتل القائد العسكري الفرنسي كليبر، لتتصاعد بعدها المقاومة الوطنية، وتضطر قوات الاحتلال الفرنسي إلى الرحيل.

 

وكانت حماية المسيحيين والدروز من الاستبداد العثماني ضمن مقدمة الذرائع التي سمح الفرنسيون والروس لأنفسهم بموجبها التدخل في شؤون لبنان، أثناء الصراع على اقتسام ممتلكات السلطنة العثمانية.

 

في الحرب العالمية الأولى طرح البريطانيون، ومن بعدهم إدارة الرئيس الأمريكي ويلسون، شعار حق تقرير المصير بقوة، وعلى أساس ذلك تحالف العرب في المشرق العربي مع البريطانيين، لإنجاز استقلالهم من العثمانيين، وخاضوا معارك مشتركة إلى جانب الجيش البريطاني، يقودهم في ذلك ضابط الاستخبارات البريطاني، والمستشرق لورانس.. ولم يدر في خلدهم أن تنتهي الحرب ليقعوا فريسة لاستعمار فتي أقوى وأعنف، ولكن تحت لافتات الوصاية والحماية والانتداب، حملت ذات المضامين الاستعمارية القديمة، ولكنها حظيت في هذه المرة بالأغطية القانونية، وبما عرف في حينه بالشرعية الدولية، وتأييد عصبة الأمم. وكانت كل التعابير الجديدة: حماية ووصاية وانتداب تحمل نظرة دونية وعنصرية لأبناء هذه المنطقة، فهم من جهة ضعاف غير قادرين على حماية أنفسهم، وهم من جهة أخرى قاصرون وبحاجة إلى أوصياء يقودونهم إلى أن يبلغوا سن الرشد، وطريقهم إلى الحضارة والتمدن طويل يقتضي وجود منتدبين لكي يأخذوا بأيديهم إلى الجادة الصحيحة، ويزجون بهم في معمعان الحراك الإنساني.

 

وكما كان البلاغ الأول للمحتل الفرنسي لمصر، يؤكد على تخليص المصريين من استبداد المماليك، كان البلاغ الإنجليزي الأول للعراقيين، بعد هزيمة الأتراك مباشرة، يؤكد على ذات المضامين: تخليص العراقيين من الاستبداد والفساد.. وكان من سوء طالع العراقيين أن يستمعوا إلى ذات المعزوفة المشروخة مرات ومرات، كان آخرها في أبريل عام 2003، عندما وطأت أقدام المحتلين الأمريكيين عاصمة الرشيد، ليخرج عليهم القائد العسكري غارنر مبشرا بالديمقراطية والقضاء على الاستبداد، وبالعراق الجديد. وتكشف لجميع من اكتووا بجيوش المحررين الغربيين، أن الهدف الحقيقي من الاحتلال هو السلب والنهب والسطو على الثروة، وتحطيم المقاومات، والتنكر للثوابت الوطنية والدينية، ومصادرة الكيان والهوية، وتعزيز النعرات الطائفية والإثنية، كمقدمة لأزمة لتفتيت الوحدة الوطنية.

 

في بداية الستينيات، وصل جون كنيدي إلى سدة الرئاسة الأمريكية، وعين البروفسيور والت روستو مستشارا له لشؤون الأمن القومي. وكان روستو قد خرج بنظرية تحمل أبعادا سياسية واقتصادية أطلق عليها نظرية المراحل. وهي نظرية تقول إن العلاقات الدولية يمكن أن تتحول من حالة الصراع إلى حالة التجانس. إن التنافس بين الدول، وفي تناقض واضح لقوانين التطور التاريخي، تشير هذه النظرية إلى أن التنافس بين الدول يمكن أن يكون نزيها، وشبيها بذلك الذي يجري بين فرق كرة القدم، حيث تحكمها قوانين واضحة ومحددة ومتكافئة. لكن شرط تحقيق هذا النظام هو أن يلتزم الجميع بالقيم الليبرالية والديموقراطية، واحترام حقوق الإنسان. وكان الإعلان عن تعيين والت روستو في منصب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، قد حمل بعض الآمال، لعدد كبير من المثقفين، وبخاصة في أمريكا اللاتينية، الذين سمعوا وعود الرئيس الأمريكي الجديد بأنه سوف يعمل جاهدا على الإطاحة بأنظمة الاستبداد والديكتاتورية في أمريكا اللاتينية، ويكرس فترة رئاسته لإشاعة القيم الليبرالية، وحقوق الإنسان.

 

كان هناك حديث عن تنمية إنسانية واقتصادية شاملة تعم جميع مناطق كوكبنا الأرضي. كما كان هناك تبشير بإمكانية أن تشارك البشرية جمعاء في النهوض بما يسهم في القضاء على الفقر والتخلف. إن العلاقة التكاملية بين الشعوب من شأنها أن تنقل كل المجتمعات من خلال إسهاماتها كل حسب تخصصه وطبيعة ثرواته في النظام الاقتصادي العالمي المتسم بعلاقته التكاملية. ومن خلال هذه الإسهامات ستصل جميع البلدان إلى مرحلة “الانطلاق” تباعا، وفقا لتسارع الوتيرة التي يتم بها الاندماج في النظام الاقتصادي العالمي. لكن هذه التنظيرات لم تصمد طويلا، لكونها في حقيقتها تتناقض جملة وتفصيلا مع القوانين العلمية، وفي المقدمة منها قانون السوق، والعلاقات غير المتكافئة بين بلدان المركز والأطراف.

 

لم تمض سوى فترة قصيرة على استلام الرئيس كنيدي الحكم، حتى بدأت تلك الشعارات تخبو رويدا رويدا، لتحل محلها مواجهات، تنذر بخطر قيام حرب عالمية ثالثة، إثر عملية خليج الخنازير الكوبية، بعد قيام الاتحاد السوفييتي بنصب صواريخ تحمل رؤوسا نووية موجهة بشكل مباشر إلى المدن الأمريكية الرئيسة. آنذاك، ووجه العالم بأسره بخطر استخدام الأسلحة النووية في المواجهة العسكرية بين العملاقين، ووقف العالم في حالة قلق وتيقظ خوفا من المصير المجهول. وتنفس العالم الصعداء بعد سحب الاتحاد السوفييتي لصواريخه، بعد تعهد أمريكي بعدم التدخل في الشؤون الداخلية الكوبية.

 

وبعد مضي شهور قليلة أصبح الشغل الشاغل للعالم هو الحديث عن قرار الرئيس الأمريكي كنيدي إرسال مجموعة كبيرة من المستشارين العسكريين إلى فيتنام، لمساعدة النظام العسكري الذي يقوده فان ديام في مواجهة فيتنام الشمالية والمعارضة المحلية المتصاعدة ضده. ومن ثم توسع التدخل العسكري الأمريكي لدعم النظام الديكتاتوري في فيتنام، حيث زود بمستشارين لقطاعات عسكرية تضاعفت أعدادها بسرعة لافتة, وفي عهد الرئيس الأمريكي ليندون جونسون تجاوز عدد الجنود الأمريكيين المتواجدين في فيتنام الـ 500 ألف جندي، وكانت حرباً طاحنة لم تقتصر على فياتنام، فشملت لاوس وكمبوديا وكلفت عشرات الألوف من القتلى والجرحى من الجانبين، وانتهت بهزيمة سياسية كبرى أمريكا، حين أصبح رحيل القوات الأمريكية مطلبا وطنيا أمريكا وعالميا. ورحل الجيش الأمريكي مهزوما من الهند الصينية بأسرها، وانتصرت المقاومة، وتوحد الشطران الشمالي والجنوبي من فيتنام.

 

تراجع التنظير والحديث عن الديمقراطية والعلاقات الاقتصادية التكاملية، ومرحلة الانطلاق التي بشر بها والت روستو، وبرزت التنظيرات الأكثر يمينية، يتقدمها تنظير صامويل هانتجتون، عن تنمية من الأعلى، وليس من الأسفل. وأنه في بلدان العالم الثالث لا تسمح الثقافات المحلية ولا البنية الاجتماعية بسيادة قيم ليبرالية، أو أنظمة ديمقراطية، وأنه لا مفر من دعم الأنظمة الديكتاتورية والمستبدة، فهي وحدها القادرة على نقل الشعوب النامية من واقع التخلف إلى حالة التحضر والمدنية. وتكشف للجميع أن الشعارات المخملية والبراقة، هي الأخرى يمكن أن تكون ذات مخالب حادة، وأنها ليست سوى أدوات تجميل لمشاريع الهيمنة، شأنها في ذلك شأن حق تقرير المصير، ومشاريع الحداثة والتمدين… وجه آخر لاستبداد غريب ومشوه، لكنه أشد قسوة وضراوة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

12 − 8 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي