حديث آخر عن سبتمبر
في الأسبوع الماضي توصلنا إلى أن العالم لم يعد أكثر أمنا بعد حوادث سبتمبر عام 2001 (للرجوع للموضوع السابق اضغط هنا “بعد ثلاث سنوات على سبتمبر”)، وإلى أن إعلان الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على الإرهاب كان يخفي وراءه مشاريع مبيتة، تم استثمار حوادث سبتمبر للشروع في تنفيذها. ويشير تسلسل الأحداث التي أخذت مكانها لاحقا في المنطقة العربية إلى أدوار مشبوهة للجناح اليميني في الإدارة الأمريكية والقوى الصهيونية الفاعلة في صناعة القرار الأمريكي، ليس فقط فيما يجري في المنطقة الآن بل في العملية برمتها بما في ذلك حوادث سبتمبر ذاتها.
ولعلي في هذا الصدد ألفت نظر القارئ الكريم إلى تقرير أمريكي خاص صدر حديثا، يشير إلى أن فحص الحامض النووي للأشخاص الخمسة والخمسين الذين أقلتهم الطائرة التي هاجمت مبنى البنتاجون لم تثبت وجود أي راكب عربي على ظهرها. وأن اثنين وخمسين راكبا كانوا من البيض، واثنان من الصينيين وواحد ياباني. وإذا ثبتت دقة هذا التقرير فمعنى ذلك أن الشباب السعوديين الذين وردت أسماؤهم كمنفذين للعملية الانتحارية جرى إقحامهم قسرا، وأن هناك غايات محددة لذلك الإقحام.
ولا شك أن السرعة القياسية التي تم فيها توجيه الاتهام للقاعدة، بعد ساعات قليلة جدا من الحادثة، بوقوفها وراء تلك الأحداث هي الأخرى تطرح عدة تساؤلات على كل ما هو متوفر لدينا من معلومات، وعن مدى دقتها ونزاهتها. ولا شك أيضا أن الكثيرين سيتهموننا بالمبالغة بالولوغ في ما يدعى بنظرية المؤامرة، والإفراط في تضخيم الإشاعات وتأويلها، بما يتناسب مع المنطق الرافض جملة وتفصيلا للسياسات الأمريكية. وأن استنتاجاتنا على هذا الأساس، ربما تغيب حقائق أخرى لا تقل وجاهة.
والواقع أننا لا نملك من الوثائق ما يجعلنا نقدر على تقديم صورة واضحة بديلة، لكن التشكيك المنطقي والموضوعي في الصورة المقدمة لنا من الإعلام والدوائر الأمريكية، وفي مرجعية العناصر التي توفر هذه الصورة، سيجعلنا نعيد النظر في مجمل السيناريو المطروح، وسيفضح زيف الادعاءات عن أسباب الحرب المعلنة على الإرهاب.
ولعلنا نذكر أن الهدف المعلن من الحرب على الإرهاب هو معاقبة أولئك الذين خططوا لتدمير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومقر البنتاجون في واشنطن والذين قاموا بعمليات إرهابية في بعض الدول الإفريقية واليمن والمملكة العربية السعودية ودول أخرى تجاه المصالح الأمريكية وتجاه بعض الأفراد الذين ينتمون إلى جنسيات غربية. وإذا سلمنا جدلا بأن الحرب على الإرهاب هي بهدف تعقب الذين يتعرضون بالإرهاب المباشر للأمريكيين، فإنه يبدو منطقيا محاربة عناصر وأفراد القاعدة أو من يؤازرهم ويقف خلفهم. لكن الحقائق المتوفرة لدينا على الأرض تقول غير ذلك تماما. فالحرب ضد ما يدعى بالإرهاب لم تقتصر على هدفها المباشر بل تعدته إلى أطراف وجهات أخرى لم تكن لها علاقة هذه الحرب من قريب أو بعيد.
فما هي على سبيل المثال لا الحصر، علاقة حزب الله اللبناني، أو المقاومة الفلسطينية، وفي المقدمة منها حركتا حماس والجهاد بالعمليات التي تشن على الولايات المتحدة الأمريكية في أنحاء العالم. وما هو علاقة قانون محاسبة سوريا بهذه الحرب؟، بل ما علاقة التمديد للرئيس اللبناني، العماد إميل لحود بفترة ثلاث سنوات بذلك. وهل لتلك الحرب علاقة بالجدار الفاصل الذي يفرض الحصار على أهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويجيز مصادرة جزء كبير من الأراضي الفلسطينية لصالح العمليات الاستيطانية الصهيونية. بل ونذهب إلى أبعد من ذلك بكثير ونتساءل عن علاقة ذلك باحتلال العراق، خاصة وقد ثبت للجميع عقم الافتراءات والكذب الأمريكي عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وعن علاقة النظام السياسي الذي كان قائما في العراق حتى عشية سقوط بغداد بتنظيم القاعدة.
وتتالى الأسئلة عن علاقة ما يجري في دارفور بالسودان، أو تخصيب اليورانيوم في إيران وكوريا بالحرب على الإرهاب؟
وهل لتقرير راند، المعنون بالإستراتيجية الكبرى الذي شارك في صياغته عدد كبير من صناع السياسة الأمريكية في العقود الثلاثة المنصرمة، والذي أكد بوضوح، يبلغ حد الوقاحة، على عداء مستفحل للمملكة العربية السعودية، ويشير إلى أن الحرب على العراق ليست إلا الجانب التكتيكي في مجمل المخططات الأمريكية للمنطقة، ويتعرض لنوايا مبيتة ضد السعودية، معتبرا في نهايته سقوط مصر في قبضة الاحتلال الأمريكي بأنها الهدف النهائي لهذه الإستراتيجية مشيرا لها بالجائزة الكبرى.. ما علاقة كل ذلك بالحرب على الإرهاب، خاصة إذا علمنا أن بعضا من الدول التي ذكرت في هذا التقرير تحتفظ بعلاقات استراتيجية، مع الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى يومنا هذا. وكانت هذه العلاقة عامل استقرار للمصالح والنفوذ الغربي في المنطقة، بما يثير علامات استفهام وعلامات تعجب كبيرة حول المنحى الجديد للسياسة الأمريكية.
ليس بمقدور أحد أن يجادلنا بزيف المرجعية الأمريكية كمصدر موثوق للمعلومات، ولا يمكننا الاطمئنان إلى أي شيء يرد عن طريقها. ولعل القصة الملفقة عن اعتقال نائب الرئيس العراقي، عزت إبراهيم أفضل نموذج للصور الكاريكاتورية الإخبارية الأمريكية. فقبل ثلاثة أسابيع من الآن قطعت معظم الفضائيات العربية بثها الاعتيادي، وأعلنت خبر اعتقال عزت إبراهيم في عيادة طبية بسامراء، ونسجت قصصا حول عملية الاعتقال، من ضمنها مشاركة 150 عنصرا في الدفاع عنه وحاولوا منع الجيش الأمريكي والحرس الوطني العراقي من اعتقاله، وأن 70 فردا من أنصار نائب الرئيس عزت إبراهيم قد قتلوا في المواجهات مع الأمريكيين و80 آخرين جرى أسرهم. وتوالت التصريحات للمسؤولين الأمريكيين والعراقيين مؤكدة نبأ الاعتقال. وأشير لاحقا إلى فحص الحامض النووي للشخص الذي تم إلقاء القبض عليه، وإلى أن الشخص المعتقل قد نفى أن يكون هو الشخص المطلوب…
كانت رواية سيريالية، تضم مجموعة من الأخبار المتناقضة، لكن ما يجمع بينها أن مصدرها واحد هو الإدارة العسكرية الأمريكية في العراق وتوابعها. وفجأة بعد يوم مليء بالصخب والعناوين الكبرى، أسدل الستار على المسرحية، واعترف الأمريكيون أن عملية الاعتقال لم تحدث، وأن عزت إبراهيم، لا يزال حرا طليقا، إن كان حقا قد بقي على قيد الحياة.
هذه القصة وعشرات القصص الأخرى عن الزرقاوي وعن أعضاء في الشبكات التي تحارب الأمريكان، وتجعل منهم أشباحا من صنف السوبرمان، ينتفي مع بطولاتهم الزمان والمكان، وترى الواحد منهم ينتقل إلى البصرة وكركوك والرمادي وبغداد في ذات اللحظة، كما هو الحال مع أبي مصعب الزرقاوي تجعلنا نشك في كل شيء يرد عن طريق المرجعية الأمريكية. لقد امتهنت هذه المرجعية حرفة الكذب، وأصبحت الغاية بالنسبة لها تبرر الوسيلة، بما في ذلك قتل المدنيين ومصادرة الهوية، والوقوف إلى جانب شارون في حرب الإبادة التي يشنها ضد الفلسطينيين.
وأمام هدير الرصاص وقصف القنابل واستخدام اليورانيوم غير المخصب، يزج بشعارات التمدين والديمقراطية والحرية والدعوة لتدشين مؤسسات المجتمع المدني، لتكون هي الأخرى وجها آخر، وإن يكن غير قبيح، لأوجه الهيمنة الأمريكية. والتي لا تعني في النهاية سوى مراكمة السطو على الثروة ومصادرة حق الشعوب في تقرير مصائرها وأقدارها.
إن دروس الحادي عشر من سبتمبر ينبغي أن تكون ماثلة دائما في أذهاننا، نحن الضحايا الحقيقيون لتلك الكارثة. إن واحدة من أهم تلك الدروس التي تعلمناها هي أنه في السياسة ليست هناك صداقات دائمة بل مصالح مشتركة، وأن أية علاقة دبلوماسية قائمة بين بلادنا والعالم الآخر ليس لها صفة الثبات، بل هي خاضعة لقانون المصالح وقوانين التطور والتغيير. وينبغي أن نتذكر جميعا، حكاما ومحكومين، أن الحرية الحقيقية لن تأتي لهذه الأمة على ظهور الدبابات والراجمات وقاذفات القنابل، بل يصنعها أبناء الوطن الواحد من خلال انتمائهم لوطن واحد واستبسالهم في الدفاع عن أمنه واستقراره، ومن خلال حراك سلمي واع وعمل دؤوب ومثابر، لا تغيب فيه الرؤية، ولا تتيه فيه البوصلة، وتكون فيه المصلحة العليا للوطن فوق أي مصلحة واعتبار، ويجب أن نتجه جميعا نحو الإصلاح والرقي والازدهار، معتمدين دائما على عناصر القوة في ثقافتنا وعلى الوحدة الوطنية باعتبارها الحصن الحصين والسياج القوي في وجه كل التحديات، دون أن نصاب بوهم مناصرة الأعداء لنا ولقضايانا العادلة.
وقديما قال أجدادنا بـ”بأنك لا تجني من الشوك العنب”.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-09-29