جورج تنيت: نجاح في الامتحان سقوط في المبارزة
لم يكن الإعلان في الأيام الأخيرة عن استقالة رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، جورج تنيت مفاجأة للمتتبعين للحراك السياسي الداخلي، وديناميكية صناعة القرار الأمريكي، ولطبيعة الصراع الدائر بين العناصر الفاعلة والقريبة من أعلى الهرم، بالبيت الأبيض. لكن المستغرب أنه استمر في منصبه طيلة هذه الفترة، رغم الأحداث المريرة التي واجهتها الولايات المتحدة، وبشكل خاص بعد تسلم جورج بوش مقاليد الحكم، وتفجير المدمرة كول في مياه البحر العربي، ومن ثم عاصفة 11 سبتمبر عام 2001 التي أودت ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك وجزء كبير من مبنى البنتاجون في واشنطن. وقد توقع كثيرون أن تطيح تلك العاصفة برؤوس عديدة، يأتي في المقدمة منها رأس تنيت نفسه. لكن الأمور جرت بشكل مختلف وبقي رئيس الاستخبارات يواصل مهام عمله.
الآن فقط سقط تنيت من على المنصة. فلماذا هذا السقوط في هذا الوقت بالذات؟!. هذا هو بالدقة ما نحاول في هذا الحديث تسليط الضوء عليه.
ابتداء تجدر الإشارة إلى أن جورج تنيت محسوب بالأساس على الاتجاه الليبرالي، وقد جرى تعيينه في بداية الدورة الثانية من قبل إدارة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في وظيفة رئيس لوكالة الاستخبارات. وتكشف خلال قيادته للوكالة عن إمكانيات إدارية هائلة، ساهمت في تطوير الوكالة، رغم أخطاء فادحة تعرض لها هنا وهناك، خاصة في المسألة العراقية، حين تمكن الجيش العراقي من ضرب أهم معاقل قيادة الاستخبارات الأمريكية في المناطق الكردية في الشمال. ولكنه مع ذلك استطاع أن يعوض عن ذلك بتحقيق اختراقات كبيرة، برزت نتائجها بوضوح وبشكل مباشر بعد العدوان الأمريكي على العراق واحتلاله في العام الماضي. وقد بقي في وظيفته بعد وصول جورج بوش لسدة الحكم. وكان ذلك لافتا للنظر في حد ذاته، كون الرجل محسوبا على الديمقراطيين.
إلا أن كثيراً من العارفين بدهاليز السياسة الأمريكية يرجعون ذلك لأسباب عدة، من بينها كفاءة تنيت وما هو معروف عنه من خبرة ورصانة، ونفسيته الهادئة غير الصدامية. ولأن الحرب التي بدأتها الإدارة الأمريكية على ما يدعى بالإرهاب كانت تقتضي من جهة انسجاما غير عادي بين فريق العمل داخل الوكالة، وهذا ما كان من الصعب تحقيقه مع الفريق اليميني المحافظ الذي شغل أغلب الحقائب والوظائف الرئيسية في إدارة بوش الابن. ومن جهة أخرى، فإن خوض الحرب على ما يدعى بالإرهاب، كان يستوجب استمرارية في العمل، بوتائر فعالة ومتصاعدة، وهذا ما لا يمكن تحقيقه في ظل انتقال وتغيرات كبيرة في أشخاص وهياكل الوكالة. ثم إن وجود توجهين مختلفين في الرؤية وطريقة صناعة القرار، أحدهما يقود الوكالة المركزية للاستخبارات، والآخر يقود مؤسسة البنتاجون سيؤدي إلى وجود أكثر من رؤية وموقف ويساهم في تعدد التوصيات، بما يتيح خيارات أكبر أمام صانعي القرار.
هكذا استقر القرار على بقاء تنيت في موقعه. وقد استمرت الأمور في الشهور الأولى تجري دون مصادمة تستحق الذكر، حتى جاء اليوم العاصف في سبتمبر. وهنا أيضا كان من الأهمية أن تبدو الإدارة الأمريكية متماسكة، وأن تأخذ التحقيقات في هذه المسألة أطرها القانونية والدستورية. وكانت وكالة الاستخبارات المركزية قد برأت ساحتها، حين سربت تقارير تفيد بأنها أبلغت عن أنباء شبه مؤكدة عن مخططات تعد لضرب نيويورك وواشنطن، واستخدام الطائرات المدنية في تلك العملية، إلا أن البيت الأبيض والبنتاجون لم يأخذا تلك التقارير بالجدية التي تستحقها، وأن ذلك الاستخفاف هو أحد الأسباب التي مكنت من حدوث الكارثة.
وقد حكمت هذه الحادثة مستقبل العلاقة بين الاستخبارات والبنتاجون، وبين رئيسها تنيت ووزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد ومن حوله من الصقور. وجاء إعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش بعد حوادث سبتمبر عام 2001م مباشرة عن محور الشر، والتهيؤ لاحتلال العراق، ليصب الزيت على النار، وليصعد في الأزمة بين المؤسستين: الاستخباراتية والعسكرية. وكان لميل الرئيس الواضح لخوض ما أطلق عليه بنفسه بالحرب الصليبية على الإرهاب، والتي تمثلت في غزو أفغانستان والتحضير الجدي للعدوان على العراق أثر كبير في ترجيح كفة دور البنتاجون، واضطلاعه بلعب أدوار كبيرة يفترض فيها بالأصل، ضمن الهيكلية الإدارية وتقاسم العمل بين المؤسسات أن تكون من حصة الاستخبارات.
ولعلنا نضيف أن الخلاف بين المؤسستين يرجع إلى الطبيعة المفترضة لمهام كل منهما، من جهة، والاختلاف في النظرة وطريقة العمل بين قائدي المؤسستين: تنيت ورامسفيلد من جهة. فوكالة الاستخبارات الأمريكية، شأنها في ذلك شأن أية أجهزة استخبارات في العالم، تعمل في الظلام. والعمل في الظلام له طرقه الخاصة، أهمها أنه يعتمد على السرية وجمع المعلومات بهدوء وطرق علمية، لكن بإصرار وبتصميم. إن سر نجاح العمل الاستخباراتي أنه غير استعراضي، وإبراز القوة فيه متروك لمؤسسات أخرى. أما العمل في الجيش فإنه مواجهة مباشرة بالدبابات والطائرات والقنابل ومختلف صنوف الأسلحة، يتصارع فيها جيشان، ويبرزان على الساحة، وفي وضح النهار قوة كليهما. ومن هنا فإن الحديث عن الردع والهجوم والمواجهة والحرب الوقائية، وهي تعبيرات عسكرية، كلها تشي بأن العمل العسكري، عمل معلن. ومن هنا تأتي أهمية التضامن بين المؤسستين الاستخباراتية والعسكرية. كون الأولى هي التي تضع المقدمات للحرب، بسرية تامة وعمل دؤوب، ميسرة الدرب للمواجهة العسكرية المعلنة كي تحقق أهدافها بسهولة. وحين نأتي إلى الشخصيتين القياديتين في المؤسستين، فإننا نرى في تنيت مهنيا محترفا، لم يعرف عنه أي عصبية أيديولوجية أو ارتباط حاد بخندق اليمين المحافظ، ويحيط به فريق عمل يحمل ذات الرؤى والمناهج وصيغ العمل، وهذا ما يعطي أداءه طابعا هادئا عقلانيا ورصينا، تغلب فيه المصالح الأمريكية على التعصب الأيديولوجي. أما الآخر، فليس بجديد القول بأنه صقر الصقور في الإدارة الأمريكية، وأن الطاقم الذي يعمل معه لا يقل حماسا عنه في تحقيق برامج اليمين المحافظ.
من هذا الخلاف الجوهري والحاد انطلقت كلا المؤسستين في أداء عملهما. وجدت المؤسسة الأولى، على سبيل المثال لا الحصر، أن ليس هناك أسلحة دمار في العراق، وقالت الثانية بعكس ذلك وأصرت عليه، رغم أنها لم تستطع إثباته.
وقالت وكالة الاستخبارات المركزية إنه لم يثبت وجود علاقة للنظام العراقي بتنظيم القاعدة، وإن هذا النظام، بناء على ذلك، لا تربطه علاقة بأحداث سبتمبر، وأصر البنتاجون على وجود هذه العلاقة، واختلق قصصاً وحكايات لترويج هذه الفرية.
وأوضحت وكالة الاستخبارات أن احتلال العراق لن يكون نزهة، وأن أمريكا ستقع في مستنقع ربما يكون أكثر صعوبة ووعورة من ذلك الذي وقعت به في فيتنام، وأصر رامسفيلد وفريقه، على أن جيشه سيدير الحرب بكفاءة عالية، بل واستخف بمقاومة العراقيين لدرجة أنه كان يعتقد في المراحل الأولى للتخطيط للحرب أن الحاجة لاحتلال العراق لن تتجاوز الثلاثين ألف جندي، وأن العراقيين سيخرجون إلى الشوارع ابتهاجا واحتفاء بقدوم المحررين الأمريكان. واكتشفت الإدارة الأمريكية، وكان ذلك بعد إعلان انتهاء الحرب مباشرة من قبل الرئيس بوش، أن المقاومة العراقية بدأت ضارية منذ اليوم الأول لوقف إطلاق النار.. واستمرت في خط بياني متصاعد ملحقة الآلاف من القتلى والجرحى في صفوف الغزاة.
هكذا إذن نجح تنيت في الامتحان. وقد أثبتت النتائج التي أعقبت الحرب صحة المعلومات التي قدمتها وكالته وزيف استنتاجات البنتاجون. لكن ذلك لن يغير من واقع الحال، على الأرض، شيئا. فالجيش الأمريكي موجود الآن فوق تراب العراق. صحيح أن عددا من عملاء البنتاجون في العراق، كأحمد الجلبي سقطوا وحملوا تبعة تقديم تقارير غير صحيحة عن أسلحة الدمار الشامل والعلاقة المفترضة بين النظام العراقي والقاعدة. وكان سقوطهم ضريبة لا بد من تقديمها. لكن التقارير التي ينتظر أن يعلنها الكونجرس قريبا، ستحمل المسؤولية عما جرى في سبتمبر عام 2001 لتنيت وليس لرامسفيلد، وذلك بديهي وطبيعي لأن المسؤول الأول وظيفيا عن حدوث ذلك الخلل حسبما هو مألوف هي الاستخبارات. ولأن تنيت إذا ما أخضع لتحقيق مهني نزيه وصريح، ربما يجد نفسه في وضع يكون فيه مضطراً لطرح الحقائق عن حوادث سبتمبر كما هي، بما يضع الرئيس الأمريكي نفسه في وضع المقصر، ويؤدي في النهاية إلى سقوط المعبد على من فيه، بمن فيهم تنيت نفسه وعدد آخر من مساعديه، فإن الحل المنطقي والأمثل أن يرحل تنيت وبعض مقربيه قبل حدوث الطوفان. هكذا نجح تنيت في الامتحان، لكنه بكل تأكيد سقط في المبارزة.
ــــــــــــــــــ
e. mail: yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-06-09