جنيف2 وأوراق الغرماء
أخيرا عقد مؤتمر جنيف2، وبحضور حشد كبير، وبرعاية أمريكية- روسية. وقد عكست كلمة وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، ورئيس الائتلاف السوري، أحمد الجربا بالجلسة الافتتاحية، تباعد المسافة، بين رؤية النظام والمعارضة للأزمة أولا، وبالتالي للهدف من انعقاد المؤتمر.
رفع الفريقان المتفاوضان سقف مطالبهما، فالوفد الممثل للقيادة السورية، بدا كأنه يريد أن يكون المؤتمر المكان الذي توقع فيه المعارضة على وثيقة استسلام غير مشروطة، لتعود الأمور لسابق عهدها، قبل الحركة الاحتجاجية. فقد طالب بمعالجة قضايا الإرهاب، والمساعدات الإنسانية، وتأجيل الملف السياسي. واقترح رفع حصار الجيش عن المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة، والعمل فورا على إرسال الأطعمة والأدوية والحاجات الضرورية اللازمة للمتضررين.
خطة الإنقاذ هذه، تقضي بانسحاب المعارضة المسلحة، وإرسال الشرطة السورية لإعادة النظام بالمناطق المنكوبة. بمعنى آخر، استعادة الدولة لتلك المناطق، لتقديم المساعدات الإنسانية. والنتيجة إذا ما طبقت خطة النظام، أن معالجة الملف السياسي، بين النظام والمعارضة، تبدأ بعد تجريد الأخيرة من أوراقها، بما يجعلها غير قادرة على فرض أي شروط.
طرح الائتلاف الوطني السوري، هو الآخر غير واقعي، وليس متجانسا مع توازن القوة على الأرض. وطبيعي أن لا يسلم للمعارضة، عبر طاولة المفاوضات ما عجزت عن إنجازه بالميدان. وشرط إزاحة الرئيس الأسد عن النظام الذي طرحه الائتلاف في بداية المؤتمر ربما يكون معقولا، من باب رفع سقف المطالب، ولكنه غير واقعي في ظل الخلل بتوازنات القوة بين الطرفين، لصالح النظام.
الحلول السياسية، هي في طبيعتها اعتراف بعجز الغرماء المنهمكين في الصراع، عن حسمه لصالح أي منهم. وحلول كهذه تقوم في الغالب، على تسويات ومساومات، وتنازلات يقدمها الطرف الأضعف. والقبول بالعملية التفاوضية، ينبغي أن يكون مبنيا على هذه المسلمة، وأن لا يستغرق كثيرا في الأوهام.
والحقيقة التي ينبغي أن تكون حاضرة لدى مختلف الفرقاء، هي أن النظام والمعارضة فشلا في تحقيق أهدافهما. فقد توقعت المعارضة، أن يؤدي حراكها لانحياز المؤسسة العسكرية لها، كما حدث في تونس ومصر وليبيا، بما يؤدي إلى تفكك السلطة، ولكنها رغم الدماء الغزيرة التي سفكت، عجزت عن تحقيق أهدافها. أما القيادة السورية فراهنت على الحل الأمني، وتصورت أن بإمكانها خلال أيام قليلة، أو عدة أسابيع حسم الأمور لصالحها، لكنها فشلت في ذلك، وتواصلت الأزمة حتى هذه اللحظة.
المعارضة استقوت بقوى التطرف، من داعش وجبهة نصرة، وما إلى ذلك من تسميات، وبذلك أقدمت على مغامرة خطيرة، أفقدتها كثيرا من أوراقها، وأدت لفقدانها ما كسبته من تعاطف دولي. وقد لعبت الصور المرئية دورها. فقد كانت المعارضة تتحدث باستمرار عن إرهاب النظام، وتبرز نفسها في صورة الضحية, رافعة شعار السلمية، لكن ما نشر من صور مروعة، لمذابح نفذتها عناصر إرهابية، غير الموقف، وأصبح عنف المعارضة، لدى كثير من المراقبين مكافئا لعنف النظام، الذي اتهم سابقا باحتكار ممارسة العنف.
كما أن الخراب والتدمير، واحتراب الأطراف المتطرفة مع بعض، وتشرد ملايين السوريين، أفقد المعارضة المسلحة حواضنها الاجتماعية. فالناس في الأخير يناضلون من أجل العيش الأفضل، وليس في حسبانهم أن تؤدي الأحداث إلى خسارتهم لكل شيء، بما في ذلك مساكنهم وممتلكاتهم، بل وأرواحهم.
لقد عانى العالم بأسره من الإرهاب، ويتخوف كثيرا من تحول سوريا إلى قاعدة آمنة للإرهاب، وأن تتحول سوريا إلى منطلق للإرهابيين، لتهديد السلم في العالم. وقد عبر وزير الخارجية الأمريكي، عن هذا الخوف بمرارة، مشيرا إلى أنه حين يكون الخيار بين الإرهاب وبقاء النظام، فسيكون بقاء النظام هو الخيار.
يحظى النظام بدعم عسكري قوي من قبل روسيا والصين وإيران، لا يقابله نظير على الجانب الآخر. فالمعارضة تتلقى دعما عسكريا من المتعاطفين معها، في شكل أسلحة خفيفة، بينما يتلقى النظام مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة، ومختلف أنواع الدعم. ويسانده حزب راكم خبرة عسكرية طويلة.
أوراق المعارضة، تتمثل في تعاطف دولي ودعم غربي ينأى عن المغامرة، وينشد درب السلامة، ويكتفي بالضغط من أجل التوصل إلى حلول سياسية. بالتأكيد لا يمكننا إغفال ما تتلقاه المعارضة من تأييد ومساندة من تركيا ودول الخليج العربي، والمملكة، والاتحاد الأوربي والولايات المتحدة.
الحل العملي هو الذي يحقق التوازن بين العملية السياسية ووقف نزيف الدم ورفع معاناة السوريين. العملية السياسية لن تكون سهلة، ولن يكون مقبولا إقصاء أي من أطراف الصراع لصالح الطرف الآخر، فما لم تتمكن هذه الأطراف مجتمعة تحقيقه في ساحة الحرب، ستكون أعجز عن تحقيقه على طاولة المفاوضات.
والبديل لصناعة مستقبل سوريا الجديدة، هو تحقيق شراكة بين مختلف الفاعلين في السياسة السورية، على جبهتي النظام والمعارضة، عبر حكومة انتقالية، تتولى التحضير لدستور جديد للبلاد. ولانتخابات رئاسية وبرلمانية، ولتأسيس حياة سياسية جديدة، تقوم على التعددية وتداول السلطة، وتؤمن الكرامة الإنسانية، وتعزيز مفهوم المواطنة بين الجميع. المفهوم المستند على الندية والمساواة وتكافؤ الفرص. ويفترض أن يجري تطبيق هذا الحل، بضمانات ورقابة دولية، يشرف عليها الراعيان لمؤتمر جنيف2.
مثل هذا الحل، سوف يلبي المطالب المشروعة، التي انطلقت من أجلها الثورة السورية. وسيلغي احتكار النظام للسلطة. ومن صالح المعارضة إطالة فترة المرحلة الانتقالية، كي يكون لها حصة حقيقية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، لأنها في حالة استعجالها ستكون هي الخاسرة، كون النظام يملك عمق الدولة، وهو الأكثر تماسكا وقوة وتنظيما، بما يؤهله لحصد العدد الأكبر عبر صناديق الاقتراع.
وما لم يتم الاتفاق على حل عملي يضمن الشراكة، فسوف تستمر مأساة السوريين، لأمد طويل، وستضطر المعارضة لاحقا، للقبول باستحقاقات أقل، وستضعف قدرتها على المشاركة في السلطة. وعليها أن لا تفوت فرصة وقوف المجتمع الدولي إلى جانبها الآن، فليس هناك ما يضمن استمرار هذا التأييد، في وضع أشبه بالرمال العاتية المتحركة. فعسى أن تتغلب الحكمة، وينتصر العقل من أجل أن يسود السلام والعدل.