ثوابت حول الوطنية والإصلاح والعنف

0 191

حفل هذا الأسبوع بأحداث كثيرة، كانت بداياتها تصاعد المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي، والانتقال بها إلى شن عمليات استراتيجية شملت إسقاط طائرات مروحية، وكان الحدث الآخر هو الإعلان أن غالبية الأوروبيين يعتبرون أن الكيان الصهيوني هو أكبر خطر راهن على السلام العالمي. وبعد ذلك جاء خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي انتقد فيه السياسة الأمريكية التي سادت خلال الستين عاما المنصرمة، والمتمثلة في مساندة أنظمة الديكتاتورية والاستبداد وأن ذلك لم يحقق الأمن للأمريكيين، وأن الوقت قد حان لكي تقوم الولايات المتحدة بممارسة الضغط، بكافة أشكاله، على الأنظمة الحليفة لها كي تتجه نحو الديموقراطية، ومن ثم جاءت التحذيرات الدراماتيكية للأمريكيين المقيمين بالمملكة العربية السعودية بالحذر، لأن عناصر تنظيم القاعدة قد انتهت من مرحلة التحضير للقيام بعمليات داخل البلاد إلى مرحلة التنفيذ. وقد تزامنت تلك التحذيرات مع إغلاق السفارة والقنصليات الأمريكية بالسعودية، ولم تمض أربع وعشرون ساعة على تلك التحذيرات، إلا ونفاجأ بالتفجيرات التي حدثت في مجمع المحيا بالعاصمة الرياض، والتي ذهبت ضحية لها مجموعة من المدنيين، بينهم نساء وأطفال.

 

كل حدث من هذه الحوادث، مهم قراءته للغاية، ويستحق منا وقفة رئيسية كي نتأمل ونحلل أسبابه وتداعياته وتأثيراته على المنطقة بشكل عام والجزيرة العربية بشكل خاص، لأن الكثير من ذلك يتعلق بوجودنا ومستقبلنا، وأمننا واستقرارنا، بل واستقرار أجيالنا القادمة. لكن ذلك يبدو عملا صعبا، وربما مستحيلا حين تحيط بك البراكين ونيرانها من كل جانب، وحين تشتعل في داخل النفس كوامن الخوف والغضب والسخط، ويصيبك إحساس قوي أنك أنت، المواطن، هو المستهدف في أمنه واستقراره… يصبح من العصي أن يكون لديك متسعا من الوقت والأعصاب للتأمل والتفكير، وتقرير ما يجب وما لا يجب أن يكون، وحسبك في هذه الحال أن تلجأ إلى منظومة الثوابت من القيم الأخلاقية والدينية، ما هو إنساني منها وما هو خاص، والتي تراكمت لحقب ممتدة، وعبر المسيرة الطويلة كي تسعفك، في الوصول إلى اليقين وتحديد الخطأ والصواب، لعل في ذلك ما يعيد إلى النفس تماسكها وتوازنها وسلامها وأمنها، وبالتالي يتيح لها القدرة على التقرير والفعل.

 

أولى هذه الثوابت، أن الاختلاف في الرأي هو من نواميس الطبيعة وسنن الكون، وإلا تحول الكل إلى بصمة واحده، أو نماذج مستنسخة، تكون مجرد انعكاس أو صدى لبعضها البعض، وهذا شيء ضد قوانين البيولوجيا، ولم يصدف أن حدث، ولن يحدث أبدا، حتى إذا جرت، لا سمح الله عمليات استنساخ للبشر، لأن معنى ذلك توقف حركة التطور، وجمود التاريخ. وعلى هذا الأساس، فإن الإختلاف يجب النظر له كظاهرة صحية وطبيعية ومألوفة. وإذا ما أقررنا بذلك، فإن من المنطقي التسليم بأن من حق كل فرد في الوطن العمل على أن تأخذ قناعاته ورآه ومصالحه مكانها المناسب في المجتمع الذي يعيش فيه ضمن الرؤى والمواقف والمصالح الأخرى. وهذا يعني أن هناك تضاربا في الآراء والمواقف والمصالح، وأن هذا التضارب سوف يؤدي حتما إلى الصدام ما لم يؤخذ واقع الاختلاف في الاعتبار، وتوضع ضوابط ومصدات تحول دون وقوعه.

 

كيف يتحقق ذلك؟! ذلك سؤال تاريخي، ظل هاجس الفلاسفة والمفكرين، منذ أرسطو طاليس في اليونان، في كتابه “السياسة” وقوانين حمورابي، وتواصل لقرون طويلة. ولعل كثير من الأساطير والملاحم في الحضارة اليونانية، وحضارات ما بين النهرين، وبضمنها ملحمة جلجامش قد حاولت أن تجيب على السؤال، وربما تمكنت من الإجابة عليه في حينه، وربما أيضا كانت إجابتها صحيحة آنذاك، ولكن رحلة البحث المضنية عن جواب نهائي ظلت مستمرة، لم تصل بعد إلى الجواب الحاسم، وكانت في ذلك أسيرة لحراك التاريخي متواصل يشير إلى عدمية البحث عن الجواب النهائي، ولسوف تبقى الرحلة مستمرة في دورات متعاقبة، لا تنقطع، طالما استمر الحراك.

 

وفي التراث السياسي الكلاسيكي الحديث، لخص ماكس فيبير في كتابه الأخلاق البروتستانتية تلك المراحل، مبتدءا بمرحلة القبيلة، حيث يعتمد النظام السياسي على شبكة معقدة من التقاليد البدائية، ويحكم فيها شيخ القبيلة. والكاريزما وفيها يتعلق الجمهور بجاذبية القائد ويسلمه الراية مانحا إياه ثقته. وفي التراث الإسلامي شيء قريب من ذلك عرف بـ “المستبد العادل”. والعقلانية القانونية. وتعتمد على التخصص في مختلف المجالات وتوسع الأجهزة البيروقراطية وتقسيم الوظائف وسيادة نظام يقوم على التعددية والمؤسساتية والمجتمع المدني. والتلخيص هذا صحيح إلى حد كبير.

 

والخلاصة في ذلك، أن أي نظام سياسي إذا ما تم وضعه في إطاره التاريخي، يبدو منطقيا وعمليا وسليما. لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن الأنظمة التي سادت في التاريخ، قد حظيت بإجماع وتأييد مطلق من قبل شعوبها، وإلا فلماذا يسجل لنا التاريخ في أسفاره قصص الكثير من الحروب المحلية وثورات الجوع وحالات التمرد..

 

لا بأس إذن من التسليم بأن وجود معارضة سياسية لأي نظام قائم هي قانون طبيعي، من المستحيل تجنبه، وأن ذلك وضع صحي وإيجابي، إذا ما تم التعامل معه، من قبل مختلف الأطراف، بطرق حضارية ومشروعة، تستلهم من ثوابت الأمة دليلا وموجها لحركتها. وهنا بيت القصيد ومربط الفرس، وهذا هو بالدقة ما نعنيه حين نؤكد على أهمية الالتزام بالمنظومة الثابتة من القيم الدينية والأخلاقية.

 

فليس من المنطقي أبدا، على سبيل المثال، أن تستعدي المعارضة القوى الأجنبية وتشجعها على التدخل في شؤون أوطانها، أيا تكن الشعارات واليافطات المرفوعة، وأن تأتي إلى الحكم على ظهور دبابات تلك القوى. وبالمثل، لا يجوز للحاكم أن يتقوى بالأجنبي على أبناء شعبه. لا بد من تنظيم للعلاقة بين مختلف الأطراف، وأن يتم حسم الخلافات بين الحاكم والمحكوم بلغة التفاهم والحوار، وتؤمن حقوق الجميع. وفي ظل الخلافات المستعمرة. فإن من المنطقي أن ينبنى التفاهم والتوافق على أساس من المساومات والتسليم بالواجبات والمستحقات، لكل الأطراف بما يضمن سلامة الوطن ويؤمن استقراره ورخائه.

 

ومن جهة أخرى، وفي سياق الحديث عن المعارضة السياسية، فإنه ليس من المقبول أبدا، أن يلجأ أي طرف من مختلف الفرقاء لاستخدام العنف وتفجير الأوضاع وتهديد الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية، وأن يكون هدفه مرتكزا فقط على تحقيق الإرباك داخل المجتمع وترويج لفكر الانغلاق والتحجر، مع غياب واضح للمنهج والبرنامج.

 

إن مبدأ الغاية تبرر الوسيلة هو أمر مرفوض أخلاقيا ودينيا، أما إذا انعدمت الغاية النبيلة من الأساس، فإن هذا العمل يصبح كبيرة الكبائر، ويجب إدانته ورفضه من قبل الجميع، وتصبح تلك الإدانة والرفض مطالب أخلاقية حين يكون جل الضحايا من المدنيين الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل، من قريب أو بعيد بمشروع العنف وأسبابه.

 

ولا شك في أن سمة العصر في هذه المرحلة هي القبول بالتعددية السياسية واحترام الرأي والرأي الآخر، وعلى هذا الأساس ينبغي التمييز بين الموقف من السياسات الأمريكية، المتسمة بالعداء، تجاه قضايانا المصيرية، والمتمثلة الآن في الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني الغاصب، واحتلال العراق الشقيق، والتلويح بالعدوان ضد أقطار عربية أخرى، وبين الدعوة التي أطلقها الرئيس الأمريكي للاتجاه نحو الديموقراطية، انطلاقا من التسليم بأن المبادئ الإنسانية ليست احتكارا أو ملكا لأحد، وأن هذه الدعوة، رغم أنها لم تطلق من ملاك طاهر، بل من قبل فرد يجاهر باعتداده بولوغه في دماء العرب والمسلمين. إلا إن قيم الحرية والتعددية، هي قيم إنسانية ومطلقة، والدفع بها في منطقتنا هي أحد الوسائل للوصول إلى بر الأمان والخروج من الأزمة المستعصية التي تعصف حاليا بالمنطقة بأسرها.

 

ومن هذا المنطلق، فإن المفترض أن نكسر جميعا، حكاما ومحكومين، حاجز الخوف، والخشية من الانفتاح والمشاركة في صناعة القرار، وأن ننطلق إلى الأمام بوضع كل ما يعزز قيم الحرية والوحدة الوطنية ويحافظ على الدولة، ويؤمن سلامة البلاد واستقرارها، ويجنبها ويلات الخراب والدمار. ولن نستطيع مواجهة الحالة الراهنة إلا بوضوح الرؤى وتحقيق العقد الاجتماعي، والمزيد من الوعي والتضامن.

 

إن من حسن طالع هذه البلاد وأهلها أن الذين يرون في العنف وسيلة لتحقيق أهدافهم هم قلة قليلة في هذا الوطن. وأن الغالبية ترفض هذا السلوك وتستنكره، وترى فيه خروجا على الثوابت الدينية والوطنية والثقافية. إن الغالبية ترى أن طريق الإصلاح السياسي والإنطاق في عملية البناء لن تتحقق إلا من خلال التفاعل والحوار الهادف والبناء.

 

ومن حسن الطالع أيضا، أن هناك حراكا اجتماعيا واسعا تشارك فيه النخب الفكرية والقيادات الثقافية والمسؤولين في الدولة، وأن القناعة لدى الغالبية أصبحت راسخة بأن الوقت قد حان لإحداث تغيرات رئيسية وجوهرية على طريق الإصلاح وتوسيع دائرة المشاركة السياسية، وتوسيع داشرة مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية، إيمانا من الجميع بأن سنة الكون تقتضي التطوير، وأن ما كان صالحا، أو جرى قبوله بالأمس، لا يمكن أن يستمر حتى هذا اليوم. ولعل من إيجابيات الإحساس بالمرارة وغزارة الدم المسكوب من الضحايا الأبرياء، أن تكون دافعا لتعزيز الثقة بين الجميع، وترسيخ الوحدة الوطنية، وتفعيل المبادئ التي أضحت موضع إجماع الكل.

 

وفي هذا الاتجاه، تجدر الإشارة إلى إن القضية ليست مجرد واجبات واستحقاقات، ولكنها رغبة قوية في التماهي مع روح العصر وقوانينه وآلياته، من أجل خلق المجتمع المتحضر والسليم، والمشاركة بفعالية في ركب الحضارة الإنسانية، وتحقيق القدرة في الدفاع عن الوطن والأمة، والوقوف بفعالية وثبات في وجه المخاطر والتحديات الخارجية ونزعات العدوان والتفرد، وهي مسؤوليات ملحة وغير مؤجلة، وهي أيضا ليست فرض كفاية.

 

سلمت يا وطني من كل مكروه، وعشت أبيا وشامخا ومعافى..

 

 

 

ـــــــــــــــــــ

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2003-11-11

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

14 − واحد =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي