تنمية الاحتلال: النموذج الياباني

0 197

تناولنا في الحديث قبل الماضي (للرجوع للمقالين اضغط هنا 1- 2)، موضوع تنمية الاحتلال، في حديثين متواصلين، كان الأخير منهما قد تناول النموذج الألماني. ووعدنا القارئ الكريم بمناقشة النموذج الياباني، لكن تسعير الفتنة الطائفية في العراق الشقيق، إثر تفجير مقام الإمام علي الهادي في مدينة سامراء، قد اضطرنا إلى تأجيل ما وعدنا به.

 

والواقع أن ما حدث في العراق منذ الاحتلال، وبخاصة ما يحدث الآن من تسعير للاحتراب والفرقة، والذي بلغ أوجه بتفجير سامراء، كان بالإمكان أن يغنينا عن المزيد من القول.. بما يكفي للتأكيد على أن الاحتلال كله شر، وأن مسيرة التنمية والنهضة هي حاصل حركة تاريخية ونمو في الهياكل الاجتماعية، معبر عنه في بروز قوى طبقية محددة، وهو بالتالي ناتج بروز قوى ذاتية محركة، إن وجود البيئة الملائمة هو شرط جوهري لنجاح خطط التنمية، بمعنى أنها عملية تاريخية ومجتمعية لا يمكن فرضها من الخارج، شأنها في ذلك شأن التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى في التاريخ الإنساني، التي لابد من توفر الشروط الموضوعية الذاتية لنجاحها.

 

من هذه المسلمات، سننطلق في تناول التجربة اليابانية، مسلمين ابتداء بتأثير العوامل الدولية والمحيطة على عملية صنع القرار الياباني، والولوج من أوسع الأبواب، في الثورة الصناعية، بما لا يلغي الأثر الكبير للعوامل الذاتية.

 

ولعل من المفيد التذكير بما أشرنا له في حديث سابق من أن اليابان كانت قوة إمبراطورية عالمية، قدر لها أن تحتل، ضمن ما احتلته من الدول، الصين وهي أكبر دولة في العالم من حيث حجومها السكانية. وكانت واحدة من ثلاث دول شكلت مجتمعة دول المحور في الحرب العالمية الثانية. وهي الدولة الوحيدة التي هددت السواحل الأمريكية وهاجمت الأسطول البحري الأمريكي في بيرل هاربر. بل إنها واصلت القتال في مواجهة الحلفاء حتى بعد سقوط ألمانيا الهتلرية، الركن الرئيس في الحرب. ويشير ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني خلال فترة الحرب، في مذكراته الصادرة باللغة العربية عن دار المنار، بغداد إلى أن الجيش الياباني قد واصل القتال بضراوة واستبسال، بعد استسلام ألمانيا. وإلى أن خسائر الحلفاء استمرت كبيرة كما كان الحال قبل سقوط النازية. ويجد في استمرار المقاومة اليابانية الضارية مبررا كافيا للقرار الأمريكي باستخدام القنابل النووية في هيروشيما ونجازاكي ضد شعب اليابان، حيث يقول ما نصه: (كان القضاء على المقاومة اليابانية رجلا رجلا واحتلال بلادهم شبرا شبرا، يعني ضياع مليون أمريكي، ونصف هذا العدد من البريطانيين أو أكثر منه، هذا إذا تمكنا من إيصال هذه القوات إلى بلادهم. أما الآن- أي بعد اكتشاف القنبلة النووية- فقد اختفى هذا الكابوس المرعب، وطلعت أمامنا صورة بدت جميلة ومشرقة، هي أن تنتهي الحرب كلها بهزة أو بهزتين عنيفتين، وفكرت لتوي، كيف يمكن لهذا الشعب الياباني الذي كنت دائم الإعجاب بشجاعته أن يرى في هذا الطيف من السلاح الغيبي أو فوق الطبيعي، ذريعة تحفظ له شرفه وتحرره من التزاماته بالموت حتى آخر رجل محارب). انتهى النص.

 

ترى أيها القاري كيف يصنف الغزاة والمحتلون جرائمهم. إن تشرشل يضع القصف النووي الهمجي والمرعب في إطار أخلاقي نبيل. لكنه ما يلبث أن يكشف عن الدوافع الحقيقية لاستخدام القنابل النووية بحق اليابان، والتي رسمت صورة هذا البلد في نصف القرن المنصرم الذي أعقب الحرب. فيقول: (هناك شيء أهم، هو أننا لن نحتاج إلى الروس، إن نهاية الحرب مع اليابان لم تعد تعتمد على تدفق جيوشهم، لتوجه الضربة الأخيرة والحاسمة، ولم نعد في حاجة إلى أن نطلب منهم منة أو فضلا، وأصبح في وسعنا أن نواجه مشكلات أوروبا على حقيقتها… وبدا أننا أصبحنا فجأة واقعين تحت سيطرة رغبة رحيمة في اختصار المذابح في الشرق، وأمل أكثر إشراقا وسعادة في أوروبا. اتضح لنا أن الوصول بالحرب إلى نهاية، وبالعالم إلى السلام، وإن مد الرحمة إلى شعوبه المعذبة عن طريق فرض لقوة طاغية، لا تكلف إلا بعض انفجارات، كلها أمور جاءت بعد هذه الأخطار والمتاعب، كمعجزة من معجزات الإنقاذ). انتهى النص..

 

ماذا تستخلص من هذا النص؟.

 

أولا إن الجيش الياباني كان يشكل قوة حقيقية يستحيل على الحلفاء إخضاعها. بل إن تشرشل، يقدر كلفة احتلال هذه البلاد بأكثر من مليون جندي أمريكي وأكثر من نصف مليون بريطاني. وثانيا، إنه كانت هناك استحالة في إنهاء الحرب لصالح الحلفاء دون استخدام القنبلة النووية. والثالث، هو أن استخدام القنبلة النووية، التي هي سلاح دمار شامل محرم، ممكن أن تعطى بعدا أخلاقيا نبيلا.. وإذا ما تكرر هذا البعد، من وجهة نظر الذين يملكون السلاح، فإنهم سيكونون، ضمن الأسباب النبيلة والوجيهة على استعداد لاستخدامه في مرات أخرى.. والسبب الكامن الذي يفصح عنه النص، هو أن القنبلة كانت موجهة للاتحاد السوفياتي، الخصم القوي الجديد، الذي شارك الحلفاء في قسمة النصر، إنه تلويح له بأن الولايات المتحدة الأمريكية التي استخدمت القنبلة النووية ضد اليابان في أول تجربة لها لن تتردد عن استخدامها مرة أخرى، ضد الاتحاد السوفياتي، إذا ما توفرت لها ذات الذرائع الأخلاقية والنبيلة!

 

لكن السحر انقلب على الساحر، وتكشف بعد فترة قصيرة تمكن السوفييت من الحصول على سر اكتشاف القنبلة النووية ونجاحهم في تصنيعها بسرعة فائقة أذهلت خصومهم. كما تكشف التململ الفلاحي في الصين، الذي ابتدأ بالسيطرة في المراحل الأولى على منطقة هيونان، وانطلاقة المسيرة الطويلة التي انتهت بسيطرة الحزب الشيوعي الصيني على كامل البر وبروز زعامة ماو تسي تونج الكارازماتية، وهروب حكومة شان كاي شيك إلى جزيرة فرموزا، وإعلانه لها مقرا للصين الوطنية. كما شهدت تلك الحقبة انطلاقة حركة التحرر الوطني في الهند الصينية، ونجاح مهاتما غاندي في تحرير الهند من ربقة الهيمنة البريطانية، واندفاع أحمد سوكارنو في تحرير إندونيسيا.. وكانت القارة بأسرها تشهد اندفاعا سريعا نحو انتزاع حريتها واستقلالها.

 

كانت حقائق الصراع الدولي الجديدة، قد أفرزت كتلتين رئسيتين هما الكتلة الإشتراكية والكتلة الرأسمالية، وكانت هذه الكتل تعبر عن نفسها في أنظمة سياسية وتوجهات اقتصادية ومواقف عقائدية متماثلة، وفي حلفين عسكريين قويين، هما حلف وارسو للكتلة الإشتراكية، والناتو للكتلة الرأسمالية. وكان هناك تنام قوي لدى شعوب العالم الثالث للإرتباط بأحد هاتين الكتلتين، مما نتج عنه بروز قوة ثالثة، هي كتلة عدم الإنحياز، ممثلا للقوى التي شهدت مخاطر الرعب النووي وويلات كوارث الحروب، وقررت أن تنأي بنفسها عن الإنضمام لأحد الكتليتين.

 

لقد وضعت هذه مجمل الحقائق، إضافة إلى حقائق أخرى، الاتحاد السوفياتي إلى جانب الشعوب المقهورة التي تحاول التخلص من هيمنة الاستعمار الغربي في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وكانت أوروبا الشرقية، والصين الشعبية ودول الهند الصينية ضمن الواقع السياسي الجديد، قد أصبحت ضمن المناطق الحيوية للنفوذ السوفياتي، كما كانت أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية وبعض مناطق الشرق الأوسط ضمن المصالح الحيوية الأمريكية. وكان اكتشاف القنبلة النووية قد خلق حقائق جديدة في إدارة الصراع بين العملاقين، حيث أصبح من غير الممكن، أمام توفر سلاح الردع النووي، قيام أية مواجهة مباشرة بين العملاقين.

 

وهكذا أصبحت الحروب بالنيابة، أو الوكالة هي النموذج الجديد، ليس المفضل، ولكنه الممكن بين المعسكرين الشرقي والغربي. وإلى جانب ذلك كانت هناك عمليات استقطاب واضحة، وكان الانتقال في التحالف، لأحد المعسكرين، بالنسبة لدول العالم الثالث شيئا مألوفا. وقد شهدت إفريقيا وآسيا انقلابات عسكرية نقلت البلدان من تحالف إلى آخر مع أحد هذين المعسكرين، كما كان الحال مع العراق وسوريا ومصر والسودان واليمن والصومال وإثيوبيا…

 

وكانت عملية الاستقطاب، كما أشرنا في الحديث السابقِ، قد اتخذت طابع الصراع العقائدي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وشهدت نشوء نماذج رأسمالية، تشجع الآخرين على اختيار الطريق الرأسمالي، وتفتح الأسواق العالمية مشرعة للمصالح الإمبريالية. وكما كان قدر ألمانيا أن تكون نموذج المستقبل الرأسمالي الباهر في أوروبا لأسباب ذاتية وموضوعية، فقد كانت ذات الأسباب نفسها محركة لقيام ذلك النموذج في اليابان الآسيوية. وهي أسباب تجد مبرراتها في قوة هاتين الدولتين ونموهما وامتلاكهما لعناصر التنمية، قبل مجيء الاحتلال وموقعها الجغرافي، حيث تقع الأولى في القلب من العالم، وتقع الثانية قريبا من أكبر مخزونين بشريين على الإطلاق فوق كوكبنا الأرضي، واستثمار تلك المحفزات في اختيارهما كنموذجين تبشيريين للغد الرأسمالي الأفضل الذي ينبغي أن يشمل المعمورة بأسرها، من وجهة نظر اليانكي الأمريكي، والتي تجد تطبيقاتها الحقيقية الآن في ما نشهده من تدمير وقتل وهتك اللأعراض وانتهاك للحرمات ونهب للثروة في بغداد عاصمة العباسيين وفوق أرض الرافدين!.

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2006-03-08

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ستة − 3 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي