تنبؤ بتراجع القوة والنفوذ في عهد أوباما

0 178

بعد سقوط حائط برلين، وتفكك الإتحاد السوفييتي لاحقا، تعهد الرئيس الأمريكي، جورج بوش الأب بأن يكون القرن اﻠ21 قرناً أمريكياً، كما كان القرن اﻠ20. ومنذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا سالت مياه كثيرة. فالقوة العظمى، التي تمكنت من فرض سطوتها على العالم، بما في ذلك المؤسسات الدولية لم تعد كما هي في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم. فقد استثمر المارد الصيني فرصة انشغال الكاوبوي الأمريكي، ليندفع في تحقيق استراتيجياته، بدءا باستعادة هونج كونج، والتسلل السياسي والاقتصادي إلى فرموزا. وتوسيع دائرة أنشطته الاقتصادية على مستوى العالم بأسره، ومن ضمنه الولايات المتحدة الأمريكية. ونشطت الهند في مجالات الصناعة الإلكترونية، وتمكنت هي وباكستان من الانضمام إلى النادي النووي، بعد نجاح تجاربهما في إطلاق صواريخ محملة برؤوس نووية. والدب الروسي، استفاق من غفوته، بعد تسلم فلاديمير بوتين لمهام الرئاسة الروسية. وقد عاد مؤخرا بقوة إلى المسرح الدولي، متحديا الأحادية القطبية، ومدافعا عن مصالحه الحيوية.

 

آنذاك، كانت القوة الأمريكية تتآكل بفعل استراتيجية التوسع والهيمنة. وكانت أحداث 11 سبتمبر، قد شكلت انعطافا رئيسا، في استراتيجية صانع القرار الأمريكي، باتجاه تنفيذ برنامج الليبراليين الجدد، في الهيمنة على العالم، وتعميم مفهوم الحروب الوقائية، منعا لأي تهديد ﻠ “طريقة الحياة الأمريكية”. ويمكن اعتبار ذلك التاريخ، وإفرازاته اللاحقة نقطة البداية في تخلخل المشروع الإمبراطوري الأمريكي. وكان احتلال أفغانستان والعراق، والذرائع التي سيقت في تبرير الاحتلالين هما عقب إيخيل الذي أودى بالمشروع برمته، ومثل فرصة مثالية سنحت للقوى الأخرى للتفرغ لاستكمال برامجها ومشاريعها، لتعود مؤخرا بالقوة والفعالية إلى المسرح الدولي.

 

ما هي معالم السياسة الأمريكية في عهد أوباما؟ وهل نحن أمام تغيير جوهري قادم في هذه السياسة على صعيد الداخل والخارج أم إن الماكنة سوف تسير كالمعتاد؟. هذه الأسئلة طرحت في الأسبوع الماضي ووعدنا بالإجابة عنها في هذا الحديث.

 

وكان المدخل الذي قدمنا به حديثنا هذا، ضروريا وملحا، لسبب جوهري وبديهي، هو أن السياسات الصحيحة، ينبغي لها أن تنطلق من مقدمات صحيحة. بمعنى آخر إن صانع القرار الأمريكي، لا يمكنه أن يصوغ برامجه وأجنداته دون الأخذ بعين الاعتبار الحقائق الدولية والإقليمية من حوله والتعاطي معها بوعي وموضوعية.

 

ولعل ما يمنح قراءتنا هذه ثقلا كبيرا، هو التقرير الحكومي الأمريكي الذي نوهت عنه محطة اﻠ”C.N.N”، والذي صدر يوم الخميس الماضي. فقد أشار التقرير بوضوح إلى أن نفوذ وقوة أمريكا سيتقلصان مستقبلا. ورسم التقرير المذكور صورة قاتمة لمستقبل غير مستقر في العلاقات الدولية، مؤكدا أن المرحلة القادمة ستشهد انقسامات واسعة في المواقف السياسية، وتصاعداً في الصراع على الموارد الطبيعية الشحيحة.

 

إن صدور هذا التقرير عن مجلس المخابرات القومي، وكونه موجهاً أساسا لواضعي السياسات الأمريكية، وبشكل خاص لإدارة الرئيس القادم، باراك أوباما هو الذي يجعله بمثابة وثيقة اعتراف، ويمنحه مصداقية كبيرة. إن عنوان التقرير “الاتجاهات العالمية في عام 2025م، يشير إلى أنه محاولة للتنبؤ بمفردات السياسة الدولية خلال العقدين القادمين.

 

ورغم أن التقرير يؤكد أن الولايات المتحدة ستبقى أكثر الأطراف نفوذا بين دول العالم حتى عام 2025م، لكنه يشير إلى أن قوتها النسبية، ومن ضمن ذلك قوتها العسكرية، ستتقلص، وسيصبح النفوذ الأمريكي أكثر توترا. ويرجع سبب تراجع القوة الأمريكية إلى “انتقال غير مسبوق، للثروة والقوى العالمية من الغرب إلى الشرق. ويشير إلى أن ذلك هو ما تعكسه “الزيادة في أسعار النفط والسلع” بالمنظور الاستراتيجي، وبخاصة في مجال الصناعات، التي يتضح بشكل لا لبس فيه، بروز الدور الآسيوي فيها.

 

إن ما يضيف أعباء ثقيلة على الخزينة الأمريكية، ودافعي الضرائب، هو أن تراجع النفوذ والقوة الأمريكية، لن يوازيه تراجع في الأعباء الدولية التي تضطلع بها الإدارة الأمريكية، كدعمها للكيان الصهيوني، وبقاء حلفائها تحت مظلة حمايتها. كما يتوقع التقرير مواصلة الجيش الأمريكي لعب الدور القيادي في ما يدعى ﺒ”الحرب على الإرهاب”، لكنه يؤكد من جهة أخرى، أن أمريكا لا يمكنها القيام بذلك بمفردها دون شراكة قوية من حلفائها.

 

وإذا كان وعي المقدمات ضروريا للتهيؤ للمستقبل، فإن تقرير مجلس المخابرات القومي، يؤكد أن الصين الشعبية ستكون أكبر تحد تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية بحلول عام 2025. فهي من وجهة نظر التقرير المذكور ستكون مهيأة للعب دور أكثر تأثيرا في المسرح الدولي، في غضون العشرين سنة القادمة، وأكثر من أية دولة أخرى. ليس ذلك فحسب، بل إن التقرير يتوقع أن تملك الصين أكبر ثاني اقتصاد في العالم بحلول 2025، وستكون قوة عسكرية قيادية. وأنها ستكون أكبر متسبب في تلوث البيئة، وأكبر مستورد للمصادر الطبيعية. ويتوقع أن تسير على ركبها، من حيث الرغبة في توفير أسلوب حياة استهلاكي، على الطريقة الأمريكية عدد من الدول الأخرى، كالهند وإيران وتركيا، ولكن بدرجات أقل.

 

وفي مجال سباق التسلح، ليس من المستبعد أن يستمر هذا السباق، كما كان في السابق، لكن المرجح أن الصراعات الدولية سوف تتركز حول التجارة والاستثمار والاختراعات التقنية، والاستئثار بالسوق.

 

وإذا ما اعتبرنا التحليلات والتوصيات الواردة في هذا التقرير، مؤشرا للقراءة الأمريكية للسياسة الدولية، ووضعنا نصب أعيننا الحقائق الأخرى، واستحضرنا الخارطة السياسية لصناعة القرار الأمريكي التي تناولناها بأحاديثنا في الأسابيع المنصرمة*، والمعلومات التي رشحت من مستشاري الرئيس المقبل السيد أوباما، وجميعها تشي بعودة عدد كبير من الأفراد الذين عملوا ضمن فريق الرئيس السابق، بيل كلينتون أمكننا التنبؤ بيسر بمجرى السياسة الدولية في عهد أوباما.

 

إن هناك مهمات ملحة، سيكون على صانع القرار الأمريكي، وضعها في قمة أولوياته. أولى هذه المهمات هي معالجة الوضع الاقتصادي، ووضع الحلول الناجعة لإعادة الانتعاش. وفي هذا السياق، فإن أي مراقب سياسي واقتصادي لواقع الاقتصاد العالمي سيشعر بالشفقة على أوباما، إذ إن مهمة الإنقاذ تبدو صعبة للغاية. ولا شك أن الصور كما هي الآن تبدو قاتمة ومريعة. إنها بالدقة تستحضر أجواء الأزمة الاقتصادية العالمية التي سبقت الانقضاض على تركة السلطنة العثمانية، فيما قبل الحرب العالمية الأولى، والتي يجد فيها معظم الاقتصاديين سببا مباشرا في اندلاع الحرب العالمية الأولى.

 

كما تستحضر المناخ الكئيب الذي عم العالم بأسره بعد أزمة الركود الاقتصادي العالمي التي بدأت عام 1929م. وكان جواهر لال نهرو، أحد قادة استقلال الهند، وأول رئيس للوزراء فيها بعد استقلالها، في كتابه لمحات من تاريخ العالم قد توقع أن تقود تلك الأزمة إلى حرب عالمية ثانية. وكان ذلك بالفعل هو ما حصل لاحقا، وكانت نتيجة تلك الحرب مقتل أكثر من سبعين مليون من البشر، وكوارث اقتصادية ومجاعات كبرى، ودمارا هائلا لحق العالم بأسره، واستخداما للسلاح النووي لأول مرة في التاريخ.

 

من المؤكد أن العالم لا يمكنه أن يتحمل كارثة أخرى، ككارثتي الحربين العالميتين، خاصة أن في الترسانة النووية ما يكفي لاقتلاع الكرة الأرضية عدة مرات. وقد أصبح السلاح النووي، رادعا بكل المعاني، ولن يتأتى عن استخدامه سوى الدمار الشامل والقضاء المبرم على البشرية بأسرها.

 

في أغلب الظن، سيلجأ أوباما إلى برنامج كلينتون الاقتصادي ليسعفه، كما أسعف كلينتون من قبل. لكن التاريخ لا يعيد نفسه. والأزمة بتجلياتها كما تبدو الآن، هي غير الأزمة التي نشأت في عهد الرئيس جورج بوش الأب. فلم تترك تلك الأزمة إسقاطاتها بقوة على الاقتصاد العالمي، كما هو الحال مع هذه الأزمة. والحلول في هذه الأزمة تبدو بحاجة إلى عمليات جراحية من نوع خاص، وأيضا إلى مباضع من أنواع خاصة، تتطلب تغييرا في المفاهيم والمنطلقات الاقتصادية، وتعتمد مبادئ العدل والمساواة، وتستند إلى مفهوم الشراكة.

 

إن ذلك معناه الابتعاد عن المغامرات العسكرية، وإعادة الاعتبار للمنجزات التي حققها البشر عبر كفاحهم الطويل وفي المقدمة من تلك المنجزات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة، والإقرار بحق الأمم في اختيار أنظمتها السياسية وحق الشعوب في تقرير المصير. كما تقتضي سيادة مفهوم الكفاية الإنتاجية، بديلا عن الأنانية وتعميم ثقافة الاستهلاك وإغراق الأسواق العالمية، بفائض من الكماليات التي لا تستوعبها السوق.

 

في هذا المنعطف التاريخي، سيكون على أوباما الابتعاد عن استخدام لغة الحرب، واعتماد الحوار بدلا من القوة العسكرية، وتأصيل المواثيق الأممية، وإعادة الاعتبار لمفهوم الوفاق في العلاقات الدولية، والعودة مجددا إلى طاولات مفاوضات الحد من انتشار الأسلحة النووية، والإسهام في القضاء على الفقر والأمية. ولا مناص من التسليم بفشل المشروع الأمريكي في العراق، وترك أهله يقررون، دونما تدخل من الخارج كيفية صناعة مستقبلهم. وفي أفغانستان، فقد جرب المحتلون طيلة عقود طويلة استحالة ترويض هذا الشعب الشجاع. وعلى أودية وقمم هذا البلد العريق، انهزم الغزاة مرات ومرات. ولن يتأتى عن استمرار القتال سوى المزيد من الضحايا والمزيد من الدمار. ولن يكون شعار الحرب على الإرهاب منطقيا ومقبولا، ما لم يعاد النظر في أسباب القهر والكراهية… الأسباب التي أدت إلى انتشار حالة احتقان واسعة، كان من نتائجها الكوارث التي عمت المنطقة والعالم بأسره خلال العقدين المنصرمين.

 

فسحة من التأمل والأمل، نأمل أن يستثمرها السيد أوباما في صياغة تاريخ جديد.. تاريخ أكثر أمانا وبهجة وازدهارا للبشرية جمعاء.

 

cdabcd

 

* وانتهت رحلة التنافس على كرسي الرئاسة

 

* السياسة الأمريكية في عهد أوباما

 

* حقبة أوباما استمرارية أم تغيير؟!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ستة عشر − تسعة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي