تمخض الجبل فولد فأرا
بعد انتظار وترقب كبيرين من قبل المجتمع الدولي لوعد الإدارة الأمريكية بتقديم أدلة دامغة تثبت تورط القيادة العراقية بتضليل لجان التفتيش المكلفة بنزع أسلحة الدمار الشامل من العراق، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن، وفي المقدمة منها القرار الأخير رقم 1441، حط وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول رحاله، وقدم أدلته الثبوتية أمام أعضاء مجلس الأمن الدولي، في خطبة عصماء لا نظير لها في تاريخ هيئة الأمم المتحدة أو تاريخ الدبلوماسية.. بل ربما في تاريخ العلاقات الدولية.
لقد تركزت اتهامات وزير الخارجية الأمريكي للحكومة العراقية في قسمين، الأول: استمرارها بالخروج على القرارات الدولية المتعلقة بنزع أسلحة الدمار الشامل. والثاني علاقة الحكومة العراقية بالإرهاب، وتحديدا بتنظيم القاعدة والمنظمات الجهادية الفلسطينية.
فيما يتعلق بالقسم الأول، تعرضت مرافعة الوزير الأمريكي إلى ثلاثة اكتشافات، اعتبرت أدلة ثبوتية على عدم التزام العراق بقرارات الأمم المتحدة، أولها مكالمات تلفونية بين ضباط عراقيين يناقشون موضوعات تتعلق بإخفاء معلومات عن المفتشين الدوليين. وثانيها، صور تدعي الإدارة الأمريكية أنها التقطت عبر الأقمار الصناعية، لتحركات مشبوهة وحافلات تتحرك من مقرات تصنيع عسكرية، قبيل ساعات من الوقت المقرر لمداهمتها من قبل فرق التفتيش. وثالثها، معلومات مبنية على تقارير استخباراتية، من مصادر مجهولة في الداخل، لمصانع بيولوجية وكيماوية متحركة تم تصميمها في حافلات ضخمة، تجوب العراق، جيئة وذهابا، في محاولات ناحجة للتهرب من الوقوع في مصيدة المفتشين الدوليين. وقد تم عمل رسوم لهذه الحافلات بالإستعانة بكفاءات فنية قادرة على التخيل.
أما الجزأ الثاني، فيتعلق بالعلاقة بين الحكومة العراقية والمنظمات الإرهابية. وفي هذا الصدد أشير إلى شخص يدعى الزرقاني، قيل أنه أردني وعضو بارز في القاعدة، قاتل بأفغانستان، وجرح في أحد المعارك، وجيء به للعلاج في بغداد. وتضمنت المرافعة معلومات استخباراتية من مصادر خاصة تشير إلى تدريب عناصر من القاعدة على استخدام الأسلحة في معسكرات عراقية. وأخيرا، دعم حكومة العراق لأسر الشهداء الفلسطينيين، وعلاقة جبهة التحرير العربية ومنظمتي حماس والجهاد بالنظام العراقي وتقديمه مساعدات مالية وعسكرية لهذه المنظمات.
بعد هذا الإستعراض السريع والمركز لما جاء في مرافعة السيد وزير الخارجية الأمريكي، فإننا هنا إزاء موقفين، أن نصدق… أو لا نصدق ما جاء في هذه المرافعة.
وإذا ما أخذنا بالجانب القانوني في تلك المرافعة، فإن الثابت أنها لم تقدم من قبل النيابة، أوالإدعاء العام كما هو متعارف عليه بالمحاكم، وبضمنها المحاكم الدولية، بل قدمها الخصم.. وهذا الخصم عنيد وقاس ومباشر، لم يتورع عن إبلاغنا مقدما بنواياه.. والتي لا يأتي في مقدمتها الأمن والسلام الدوليين، ولا حتى نزع السلاح عن العراق.
ولكي لا يتهمنا أحد بسوء الظن، نحيل القارئ إلى كلمات قالها وزير الخارجية الأمريكي ذاته، الذي قام بتقديم المرافعة العتيدة، حيث أوضح أمام الكونجرس الأمريكي أن الهدف من الحرب على العراق، ليس نزع سلاحه بل الدفاع عن المصالح الوطنية الأمريكية.. والإشارة واضحة إلى مصالح أمريكا في النفط. ولعل في ما تبقى من الكلام ما يكفي عن أي تعليق، فقد قال كولن باول بوضوح لا لبس فيه إلى أن احتلال العراق مجرد خطوة أولى على طريق صياغة خارطة سياسية جديدة في الشرق الأوسط، وبضمنه منطقة الخليج العربي. وإذا ما أخذ بعين الإعتبار التحضيرات التي تجري بالسر والعلن، وبضمنها المؤتمرات التي تعقد في لندن وواشنطون، تحت لافتات الحرية وحقوق الإنسان وبناء مؤسسات المجتمع المدني، أمكن وضع تلك المرافعة في مكانها الصحيح.
إنها مرافعة قدمها خصم، لم يتورع في السابق عن التلفيق وتوجيه الإتهامات، وقد كذب في الماضي مرات ومرات.. وهو خصم مقتدر، لديه المال والرجال والتكنولوجيا، ومع ذلك فإن من حسن حظ الذين وجهت بحقهم تلك المرافعة، ومن حسن حظ الذين استمعوا لها أو شاهدوها أيضا، أنها لم تتضمن جديدا ولم تكن موفقة أبدا، وبالتأكيد فإنها لم تكن بحجم قدرات البلد المتفرد على عرش الهيمنة العالمية.
لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر، المكالمات التلفونية، التي ادعي بالتقاطها من قبل أجهزة التنصت الأمريكية لضباط عراقيين يناقشون إخفاء بعض المعلومات عن المفتشين التابعين لهيئة الأمم المتحدة. إن التلفيق في صناعة تلك المكالمات تم بطريقة تغفل الجانب الثقافي “الفلكلوري” في المؤسسة العسكرية بالعالم الثالث، وبالذات في بلد كالعراق، فلغة التخاطب فيها غيبت بشكل مطلق الطريقة التي يجري فيها الحديث بين رئيس ومرؤوس، في مؤسسة عسكرية تقوم على خضوع الأدنى للأعلى، وسيادة مفردات الولاء والطاعة، والتي يجري تجسيدها بعبارات التفخيم والتعظيم.. والذي استمع إلى تلك التسجيلات يلحظ افتقارها لذلك.
الجانب الأخر، هو أن أحدا لا يمكنه أن يجادل في أن بقدرة الأمريكيين استدعاء شخص أو مجموعة من الأشخاص المتواجدين، ليس بالضرورة داخل العراق، بل يمكن أن يكونوا من خارجه، وترتيب مكالمات هاتفية تخدم أغراض الإدارة الأمريكية. وصناعة مثل هذه ليست جديدة، أو غريبة على سلوك مكاتب العلاقات العامة التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية. وقد برزت في هذا الصدد، فضائح عديدة اشتهر بعضها منذ الخمسينيات. كما نوقشت قضايا من هذا النوع في الكونجرس الأمريكي إثر حرب الخليج الثانية مباشرة في أوائل التسعينيات.. والسجل في هذا المجال، حافل بالحوادث.
وبالمثل يمكن أن يقال حول الصور التي يدعى أنها التقطت بواسطة الأقمار الصناعية، فالتطور العلمي ومستوى صناعة الأجهزة الإلتكترونية الدقيقة بلغ حدا يجعل من اليسير تلفيق مثل تلك الصور. والإشارة إلى توقيت التحريك والتغيير في المواقع العراقية هي معلومات لم تقدمها جهة محايدة حتى يمكن الوثوق والركون إليها.
ويبقى الكشف الثالث، والمتعلق بتصنيع أسلحة دمار بيولوجية وكيماوية على ظهر حافلات كبيرة. والمصدر هنا مجهول أيضا، والرسومات هي كما أشار إلى ذلك وزير الخارجية نفسه، من صنع الخيال، وبالتالي فإن من الصعب قبولها كدليل على حدوث خروقات عراقية في تطبيق قرار مجلس الأمن الأخير.
أما علاقة القيادة العراقية بالإرهاب، فهي نكتة سخيفة وتحتاج إلى أدمغة من نوع آخر كي تقبل بها، فالإشارة إلى وجود الزرقاني في أحد مستشفيات بغداد كدليل على علاقة العراق بتنظيم القاعدة، إذا أخذ به كدليل على تورط العراق بعلاقة مع الإرهاب، يقابله خبر آخر تناقلته كثير من الصحف ورددته بعض الفضائيات، وورد في كتاب الخديعة المرعبة للكاتب تيري ميسان، وهو كتاب جرت ترجمته بجميع اللغات الحية. وقد جاء في الكتاب المذكور بالطبعة العربية الأولى الصادرة عن دار كنعان، دمشق عام 2002 وفي الصفحة 92 نقلا عن صحيفة الفيجارو الفرنسية أن العلاقة بين أسامة بن لادن والسي آي ايه لم تنقطع أبدا حتى حوادث 11 سبتمبر عام 2001.
وأكثر من ذلك، تشير الصحيفة إلى أنه حين ألم بابن لادن المرض عام 1998، وشكل خطورة على حياته، توجه إلى دبي، في الإمارات العربية المتحدة ليعالج في مستشفى أمريكي، وقد حضر لزيارته خلال فترة استشفائه عدد من أفراد عائلته وشخصيات سعودية وإماراتية، وشوهد الممثل المحلي لوكالة السي أي ايه في دبي وهو يسلك طريقه في المصعد متوجها إلى غرفة أسامة بن لادن. ويؤكد الكاتب أن الأخير، كان في مستشفى في روالبندي، بباكستان في الليلة التي سبقت الهجمات على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومبنى البنتاجون في واشنطون. وإذا جرى التسليم بصحة هذه الأخبار، فنحن أمام جهات عديدة متورطة فعلا بالتنسيق مع الإرهاب وليس مع جهة واحدة فقط. الإتهام هنا موجه مباشرة إلى الإدارة الأمريكية نفسها، وإلى دولة الإمارات وباكستان، وهي معلومات منشورة على أية حال.
نحن هنا لا نبصم على صحة هذه المعلومات، أو نؤكد دقتها، ومع ذلك فهي معلومات انتشرت وجرى الترويج لها في الصحف والمجلات العالمية الكبرى، ونسوقها كدليل على ما يمكن أن يقال، وما يمكن أن يلفق. وتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية يؤكد أنها كانت ضالعة ولا تزال في نشاطات إرهابية أوسع في أماكن كثيرة من العالم، حيثما تقتضي مصالحها ذلك. ومن المؤكد أنها تملك معلومات دقيقة في هذا الصدد أكثر مما لدينا بكثير. والنتيجة التي نخلص لها هي إن صناعة الإشاعات لا ينبغي أن تقابل بالتسليم بها من قبل الآخرين. ومنظمة أنصار الإسلام، التي أشير لها في مرافعة كولن باول، موجودة في المناطق الكردية بالشمال، الخارجة عن سيطرة الحكومة المركزية، والتي تحظى بالحماية الجوية الأمريكية. أما دعم القيادة العراقية لأسر الشهداء الفلسطينيين، فهم أمر لا يمكن أن يقنع عربيا أو مسلما بأنه يدخل في خانة دعم الإرهاب الدولي. إن هناك احتلال صهيوني لأرض فلسطين، والأولى أن يتجه الحديث مباشرة إلى إنهاء هذا الإحتلال والإعتراف بحق الشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير.
وإذا أردنا أن نسلم جدلا، بصحة الإدعات الأمريكية وأحسنا الظن بمروجيها، فإن ذلك ليس مدعاة لشن الحرب، بل العكس تماما. فما دمنا قادرين على التوصل لهذه النتائج الدقيقة والخطيرة دون حرب فإن ذلك يشكل الدليل الواضح والقاطع على أن بإلإمكان نزع أسلحة العراق، دون استخدام للقوة العسكرية، ودون تدمير بلد بأكمله، وخلق أوضاع غير مستقرة في المنطقة بأسرها. إنه يتطلب فقط قليل من التنسيق بين الإستخبارات الأمريكية ولجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل ووكالة الطاقة الذرية . كان الأولى أن توجه المعلومات التي ذكرها وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول إلى تلك اللجان، كي لا تفقد عامل المفاجأة، ولكي تمسك القيادة العراقية بخناقها وبـ “الجرم المشهود”، وتجبر على الإعتراف علنا بخرقها لقرار مجلس الأمن الدولي. أما وأن الإدارة الأمريكية قد اختارت طريقا آخر، غير الطريق الفني الصحيح، فإن ذلك يضع علامات استفهام كبيرة على نواياها العدوانية بحق العراق والأمة العربية جمعاء.. وليصدق على مرافعة وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول المثل العربي الشهير: “تمخض الجبل فولد فأرا”.
تاريخ الماده:- 2003-02-12