تكتيك أمريكي جديد أم محاولة للخروج من المستنقع؟

0 184

حين بدأ الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن مهام الحكم في دورته الرئاسية الثانية نشرنا في هذه الصحيفة الغراء ثلاثة مقالات متتالية أشرنا فيها إلى أن ثمة انقلاباً في السياسة الأمريكية الشرق أوسطية في طريقه لأن يأخذ مكانه. وأشرنا إلى أن هذا الانقلاب سيتمثل في عنصرين رئيسيين أولاهما العودة إلى مفهوم الشراكة الأوروبية، والعنصر الثاني يتمثل في انتقال مركز الجاذبية في مشروع الهيمنة الأمريكية من العراق إلى بلدان عربية أخرى، استكمالا لمشروع القرن الجديد. وأوضحنا العوامل التي أدت إلى حدوث هذا الانقلاب، وقلنا بشكل مختصر إن ما حدث في العراق من مقاومة عنيفة وشرسة قد أكد استحالة تكرار السيناريو العراقي في بلدان أخرى، وإن الولايات المتحدة الأمريكية ستمارس سيناريوهات مختلفة عن ذلك الذي جرى تنفيذه في العراق… سيناريوهات أقل كلفة وحدة في استفزازاتها لشعوب المنطقة، وأكثر فاعلية.

 

وخلال الأشهر الخمسة المنصرمة، حدثت تطورات دراماتيكية على الساحة الدولية، بشكل عام، وأيضا في المنطقة العربية على وجه الخصوص. ربما يشكل فشل التصويت على الدستور الأوروبي في فرنسا وهولندا وإعلان كوريا الشمالية عن نجاح تجاربها في صناعة القنبلة الذرية أحد معالمها الدولية. كما يمثل تعثر عملية الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وتصاعد عمليات المقاومة العراقية بشكل غير مسبوق، وتصاعد نشاط مؤسسات المجتمع المدني في مصر وسوريا ولبنان محطات رئيسية في هذه التطورات.

 

إن قراءة هذه التطورات، وردود الفعل الأمريكية تجاهها تجعلنا نكاد نجزم بأنها لا تخرج عن سياق السياسة الأمريكية الجديدة التي أعلن عنها غداة تسلم الرئيس الأمريكي لدورته الرئاسية الثانية. وما يهمنا في هذا الحديث هو صلة هذه التطورات، وردود الفعل الأمريكية تجاهها بواقع منطقتنا العربية. ولعل نقطة البداية في هذا الحديث هي القيام بمسح سريع ومختصر لبعض المواقف الأمريكية التي تبدو مستجدة، وعلى الأخص فيما يتعلق بموضوع التواجد العسكري الأمريكي في العراق، والذي أصبح مرتكزا للسياسة الأمريكية في المنطقة، على الأقل على الصعيد المعلن والعملي منذ أحداث 11 سبتمبر عام 2001.

 

فهناك تصريحات متسارعة تشير إلى صعوبة استمرار وجود القوات الأمريكية في العراق، لعل البداية المثيرة والدراماتيكية فيها ما أشار له رئيس أركان حرب القوات الأمريكية، ريتشارد مايرز من أن القضاء على المقاومين العراقيين قد يستغرق تسع سنوات. وتأتي أهمية هذا التصريح كونه جاء بعد أيام قليلة من تصريح للرئيس الأمريكي، جورج بوش قال فيه إن “المتمردين” في العراق، يقصد المقاومة ورجالها، في النزع الأخير، وإنهم يحتضرون ويلفظون أنفاسهم الأخيرة. وتصريح آخر مماثل لنائبه، ديك شيني أعلن فيه أن المقاومين العراقيين يتقهقرون وأن عملياتهم لم تعد ذات فاعلية. وتتالت التصريحات والاعترافات بعد ذلك، وعلى رأس الذين اعترفوا بفشل السياسة العسكرية على المسرح العراقي من القادة العسكريين، الجنرال جون أبوزيد، قائد القيادة الأمريكية الوسطى، وقد أدلى بشهادة في الكونجرس، أكد فيها أن أعداد رجال المقاومة في ازدياد وعملياتها في تصاعد وأنها أبعد ما تكون عن الانحسار.

 

وخلال هذه الفترة، نشرت صحف أمريكية شهادات لكبار القادة العسكريين في العراق لا تكذب فقط ما قاله بوش وتشيني، بل تذهب إلى أبعد من هذا بتأكيدهم أن قوات الاحتلال ليس بمقدورها هزيمة المقاومة. من هذا القبيل مثلا، إن صحيفة فيلادلفيا إنكوايرز الأمريكية نشرت تحقيقا عنوانه يلخص ما فيه أن قادة عسكريين قالوا: إن الجيش لا يستطيع إنهاء المقاومة.

 

واللافت للنظر هو اعتراف هذه التقارير، استنادا إلى معلومات من داخل العراق، أن الغالبية الساحقة جدا من رجال المقاومة هم عراقيون، وليسوا “إرهابيين” قادمين من الخارج على نحو ما يزعمه المسؤولون الأمريكيون باستمرار. وقد تزامن ذلك مع نقل صحف أمريكية وبريطانية أخبارا جديدة مفزعة لإدارة بوش ولحليفه توني بلير تتعلق بقدرات المقاومة، تنقل عن قادة عسكريين أمريكيين في العراق، أن المقاومة العراقية تقوم بتطوير قدراتها العسكرية بشكل سريع ومذهل، وأنها نجحت مثلا في الفترة القليلة الماضية في تطوير قنبلة بمقدورها اختراق العربات العسكرية المصفحة. كما نجحت في تطوير طريقة لتفجير القنابل عن بعد بواسطة أشعة ليزر تحت الحمراء بدلا من تفجيرها عن طريق الهواتف النقالة التي يمكن التشويش عليها. وبحسب القادة الأمريكيين فإن هذا التطور في قدرات المقاومة هو الذي يفسر النجاح الكبير لعملياتها ضد قوات الاحتلال في الفترة القليلة الماضية، وارتفاع نسبة أعداد القتلى من الجنود الأمريكيين، والجنود العراقيين الذين يردفون قوات الاحتلال.

 

ومن جهة أخرى، نشرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية تقارير تلفت النظر إلى جانب آخر مفزع بالنسبة للإدارة الأمريكية في حربها مع المقاومة العراقية. الصحيفة نشرت تقارير لمراسليها تتحدث عن انهيار رهيب في معنويات جنود الاحتلال في العراق، وعن يأسهم من قدرات قوات الحكومة العراقية. كما نقلت الصحيفة عن مراسليها قولهم – بناء على المقابلات التي أجروها مع جنود أمريكيين في العراق – إن هؤلاء الجنود لم يعودوا يعرفون، لماذا يحاربون في العراق بالضبط ولأي غاية هم موجودون هناك.

 

وعلى صعيد الداخل الأمريكي، هناك تراجع لشعبية الرئيس الأمريكي بوش إلى أدنى مستوى، وتحول هائل في مواقف الرأي العام الأمريكي من احتلال العراق. إن كل استطلاعات الرأي العام في الفترة القليلة الماضية تشير في مجملها إلى أن ثلاثة من كل خمسة أمريكيين أصبحوا ضد إدارة بوش. وتتلخص أسباب هذا التدني في شعبية سياسة بوش تجاه العراق في ثلاثة أسباب رئيسية أصبحت مترسخة لدى غالبية الأمريكيين: الأول: أن إدارة بوش كذبت على الأمريكيين وقادتهم إلى حرب لا مبرر لها. والثاني: أن أمريكا، على عكس ما يزعم بوش، لم تصبح أكثر أمنا بعد غزو واحتلال العراق. والثالث: أنه لا مفر من الانسحاب من العراق إن لم يكن حالا فعلى الأقل في أفق معلوم.

 

وبالتوازي مع هذا التحول في توجهات الرأي العام الأمريكي، هناك انتقال واضح أيضا في توجهات عدد كبير من أعضاء الكونجرس الأمريكي. لقد أصبح انتقاد مواقف إدارة بوش من العراق والمطالبة بوضع جدول زمني للانسحاب، أمرا مألوفا. وقد عبر عن هذا التحول بشكل واضح استجواب وزير الدفاع الأمريكي، رامسفيلد وكبار القادة العسكريين أمام الكونجرس. والجدير بالانتباه أن هذا التحول قد شمل نوابا في الكونجرس من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، وأن بعضا من هؤلاء النواب كانوا سابقا من أشد المؤيدين للاحتلال الأمريكي للعراق.

 

ولا شك أن هذا التحول، في جانب كبير منه، هو انعكاس للتحول الواسع في توجهات الرأي العام. فقد قال نواب بالفعل، إن المواطنين في دوائرهم يمارسون عليهم ضغوطا شديدة كي يضعوا حدا لما تقوم به إدارة بوش في العراق، وأن يوقفوا شلال الدم الأمريكي الذي يفقد فيه عدد من الأمريكيين حياتهم كل يوم. ومن التطورات البالغة الأهمية، في هذا الاتجاه، والتي لم تحظ بتغطية إعلامية واسعة، أنه قبيل جلسات المساءلة التي عقدها الكونجرس لرامسفيلد وقادة عسكريين أمريكان، قام وفد يضم عددا من آباء وأمهات وأهالي الجنود الأمريكيين الذين سقطوا قتلى في العراق بزيارة للكونجرس، والتقوا بعدد من نواب المجلس وقدموا لهم عددا من المطالب المحددة، بضمنها المطالبة بأن يعقد الكونجرس جلسات استماع حول التقارير التي تم الكشف عنها في الفترة الماضية، وخصوصا ما سمي بمذكرة داوننج ستريت البريطانية، والتي تثبت أن أمريكا وبريطانيا اتفقتا على شن حرب العراق قبل عام من الغزو، إثر حوادث سبتمبر عام 2001 مباشرة، وأن إدارة بوش تعمدت الكذب وفبركة معلومات تبرر بها الحرب، بما يعني صراحة أن أبناءهم أرسلوا إلى العراق، وفقدوا أرواحهم بناء على كذب وبلا مبرر. بعض أهالي الضحايا الأمريكيين طالبوا الكونجرس بالتحقيق فيما أسموه ووترجيت بوش. وطلب آباء وأمهات القتلى من الجنود الأمريكيين من الكونجرس الضغط على إدارة بوش لتحديد جدول زمني محدد للانسحاب من العراق وتجنيب الشعب الأمريكي سقوط المزيد من القتلى من أبنائه.

 

إن المعلومات المتوفرة في أسباب الانقلاب الجديد في السياسة الأمريكية كبيرة وثرية، وهي معلومات مهمة تستحق التقديم والقراءة، ومن حق القارئ الاطلاع عليها، لأنها تشكل المفتاح الرئيسي لفهم مغزى هذا الانقلاب. وسوف يكون لنا معها وقفة في الحديث القادم بإذن الله.

 

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2005-07-06

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

2 × أربعة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي