تقسيم العراق أعلى مراحل الفوضى الخلاقة
فقد صوت الكونجرس الأمريكي الأربعاء الماضي، بأغلبية خمسة وسبعين مقابل ثلاثة وعشرين صوتا، على خطة تقضي بتقسيم للعراق، تقدم بها أحد المرشحين الديمقراطيين للرئاسة، ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس، السيد جوزيف بيدن. قضت الخطة بتقسيم العراق إلى كيانات كردية وشيعية وسنية، تحت ذريعة وضع حد للعنف والحيلولة دون تحول هذا البلد إلى دولة تعمها الفوضى. إن تطبيق هذا القرار من وجهة نظر الذين صوتوا عليه سيساعد على إعادة نشر القوات الأمريكية، وشن حرب بفاعلية أفضل “على الإرهاب”، وجعل أمريكا أكثر أمانا. وفي هذا السياق، أعربت عضوة الكونجرس، من الجمهوريين، السيدة كاي بايلاي هونشينسون عن أملها أن يحقق هذا القرار ما نجحت في تحقيقه اتفاقات دايتون حول البوسنة التي اقرت تقسيمها إلى ثلاثة كيانات هي صربيا وكرواتيا وبوسنيا.
لم يكن القرار مفاجئا بالنسبة للمتتبعين للشأن العراقي، وللسياسات الأمريكية بالمنطقة خلال أكثر من ثلاثة عقود مضت. فقد كانت مقدمات الإفصاح عن الرغبة في تفتيت الوطن العربي إلى كانتونات صغيرة قد برزت إثر حرب اكتوبر عام 1973 مباشرة. فأثناءها برزت عدة وقائع جديرة بالرصد من قبل صانع القرار الأمريكي. أولاها أن العرب قادرون على الحرب، وإلحاق الأذى بالمشروع الصهيوني، متى ما تحقق التضامن بينهم. وأن بإمكانهم استخدام ثرواتهم لخدمة مصالحهم الوطنية والقومية. وكان استخدام النفط كعنصر ضغط سياسي في المعركة قد أوحى، وبغض النظر عن أسبابه الحقيقية التي تكشفت لاحقا، أن بإمكان العرب انتهاج سياسة مستقلة، إذا ما تحققت لديهم الإرادة. آنذاك، صرح وزير الخارجية الأمريكي، ومستشار الرئيس نيكسون للأمن القومي، هنري كيسنجر بأنه ينبغي العمل على جعل “إسرائيل” أكبر قوة إقليمية في المنطقة، بعد أن أثبتت نتيجة الحرب أنها أقوى قوة إقليمية. ومر التصريح، دون أدنى اهتمام، من القادة العرب، ولم يلتفت إليه أحد، واعتبر مجرد إسناد سياسي أمريكي آخر، للكيان الصهيوني.
كان الخبراء الأمريكيون قد توصلوا، بعد حرب أكتوبر عام 1973م إلى أن تفتيت البلدان العربية سوف يحقق جملة أهداف في آن واحد. فهو من جهة سوف يحول دون تشكيل قوة عسكرية عربية قادرة على التصدي للمشروع الصهيوني. ومن شأن تحقيقه أن يخلق أسبابا جديدة للصراع بين العرب أنفسهم، حول مناطق ومصالح متنازع عليها. كما أنه سيجعل الهيمنة على منابع النفط تتحقق بسهولة ويسر. ومن جهة أخرى، فإن تسعير النزعات الطائفية والمذهبية والدينية والعرقية سيكون من شأنه تفكيك النسيج الوطني للمجتمع، وإشغال العرب باحترابات داخلية طويلة المدى، تجعل بعض العرب يلجأ إلى القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية طلبا للعون والحماية. وأخيرا، فإن تفتيت الوطن العربي، سيبقي المنطقة إلى ما لا نهاية سوقا استهلاكية، ويسهم في إعادة تدوير الأموال المتأتية من مبيعات النفط ومشتقاته، إلى مصادرها الأصلية… إلى الدول المستهلكة له بالمركز…
لكن إدارة الرئيس الأمريكي، جيمي كارتر، التي تسلمت الحكم لاحقا، هي التي بدأت في التحضير لوجستيا لمشروع التفتيت الأمريكي، فشكلت قوة التدخل السريع. وبدأت الأنباء تتسرب عن تدريبات عسكرية في صحاري أريزونا ونيفادا، في مناطق مشابهة في طبيعتها للأماكن التي تتواجد بها حقول النفط بالبلدان العربية. ولاحقا بدأت على الأرض العربية مناورات أمريكية أطلق عليها تسمية “عمليات النجم الساطع في نهاية السبعينيات، شاركت فيها بعض القوات العربية. ومع هذه التطورات بدأت بعض الدوريات “العلمية” المقربة من صناع القرار الأمريكي، تتحدث عن العراق، كمنطقة رخوة بفعل شكلها الفسيفسائي، وأن احتلالها ربما يشكل نقطة الانطلاق لتنفيذ مشروع التفتيت، والاستيلاء نهائيا على آبار النفط.
في بداية التسعينيات، وتحديدا في شهر يناير عام 1990، تحدثت دورية The Nationعن حرب محتملة في نهاية العام، ستدور رحاها حول آبار نفط الخليج، وستكون حرب البترول الثانية. وإثر انتهاء حرب الخليج، وأثناء التحضير لمؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، صرح وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر، بإنه سوف يعاد تشكيل الخارطة السياسية لدول المنطقة بشكل أكثر دراماتيكية من تلك التي شهدها الشرق الأوسط بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي تمثلت في فرض اتفاقية سايكس- بيكو ووعد بلفور بقوة الأمر الواقع. ومضى التصريح دون غضب عربي، ودون إدانة، ودون سؤال… وكان خلط الأوراق والتعتيم على النوايا الحقيقية يجري على قدم وساق. فقد تزامنت تصريحات بيكر مع صدور دراسة سربتها الاستخبارات الأمريكية تحت عنوان “الخلافة بالسعودية” تشي بنوايا شريرة، تجاه المملكة، وتتحدث عن مشاريع لتفتيتها… ومرت تلك الدراسة، كما مرت تصريحات جيمس بيكر دون أدنى اهتمام من قبل العرب.
كانت الإدارة الأمريكية قد بدأت فرض حظر جوي على العراق، أريد منه أن يكون المقدمة لرسم الخارطة الجديدة “للعراق الجديد”. واتضحت تفصيلات هذه الخريطة فيما بعد، حين وسع الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون مناطق الحظر في الجنوب والشمال، تحت ذريعة حماية الأكراد والشيعة لتكون مسطرة دقيقة للخريطة السياسية المرتقبة لعراق ما بعد الاحتلال. وكانت مناطق الشمال، قد أصبحت عمليا وفعليا خارج سيطرة الدولة المركزية، في بغداد، منذ مطلع التسعينيات.
وكان التحضير العملي والمباشر لاحتلال العراق، إثر عاصفة سبتمبر عام 2001، قد ارتبط بالحديث عن فوضى خلاقة، وعن حروب ضد “الأرهاب” تفاوتت في تصريحات المسؤولين الأمريكيين اعداد المشمولين بها، بلغت في أقل التقديرات ثلاثة بلدان، ووصلت في أحيان أخرى إلى أكثر من خمسة عشر بلدا عربيا وإسلاميا. وتزامن ذلك مع صدور تقرير خطير من معهد راند للدراسات الإستراتيجية تحت عنوان “الإستراتيجية الكبرى”، ناقش بالتفصيل مخطط تفتيت المشرق العربي، واعتبر احتلال العراق، مجرد محطة على طريق إخضاع البلدان العربية بأسرها، وأشار تحديدا إلى السعودية ومصر كهدفين محتملين للعدوان.
واحتل العراق، وبشر المحتلون بفجر ديمقراطي جديد، تكشف أنه إعادة بعث وتمجيد لظواهر التخلف التي ودعها العراقيون لقرون مضت. أعيد للنعرات الطائفية والمذهبية والعشائرية والانتماءات العرقية اعتباراتها، وتشكل أول مجلس انتقالي بهدي تلك النعرات. وقسمت المناصب السياسية بموجب محاصصات وضعت جل حساباتها، تفتيت العراق، ومصادرة هويته العربية الإسلامية، وعلى النحو الذي تبناه الكونجرس الأمريكي في قراره الأخير. وجاءت صياغتا الدستور والفيدرالية فيما بعد متماهيتين مع هذا التوجه.
وكانت الشهور القليلة المنصرمة قد شهدت بروز سلسلة من الكتابات وتقارير لبعض مراكز الابحاث في امريكا تطرح مباشرة تقسيم العراق وتدفع بتنفيذه باعتباره الحل العملي المتاح أمام إدارة الرئيس بوش للخروج من المأزق. وبالتأكيد فإن المهم في تحديد خيارات الإدارة الأمريكية، من وجهة النظر الداعية إلى التقسيم، ليس مستقبل العراق ولا مصلحة شعبه، ولا هويته وتاريخه، بل أمن الاحتلال وسلامته وكيفية الهروب من المستنقع العراقي. وكانت مجلة القوات المسلحة الأمريكية قد كشفت عن هذا المخطط في عددها الصادر في شهر يوليو من العام الماضي،عندما تحدثت عن “خريطة الدم” التي تحوي خطة تقسيم الوطن العربي وإعادة رسم خارطته بما يحقق قيام دويلات على أسس طائفية وعرقية، في أرجاء الوطن العربي. وأشير في حينه من قبل بعض الخبراء الاستراتيجيين إلى أن وضع هذا المخطط الجهنمي موضع التنفيذ قد بدأ فعليا في فلسطين ولبنان والسودان والصومال وأنه مرشح للتمدد إلى عدد آخر من البلدان العربية والإسلامية التي ما زالت مشاريع تقسيمها تحت السطح إلى مراحل لاحقة.
تقسيم العراق هو أعلى مراحل الفوضى الخلاقة وهو عمل إجرامي يفوق، بخطورته وأثاره المدمرة كل ما قامت به الإدارة الأمريكية حتى الآن من جرائم في العراق، ويفتح الطريق واسعا أمام تنفيذ المشاريع المشبوهة الأخرى، وفي المقدمة منها ما ورد في تقرير “الإستراتيجية الكبرى”، ومواجهته عربيا ليست مسؤولية قومية فحسب، بل هي دفاع عن أمن الوطن وسلامته واستقراره، ومسقبله.
لماذا تم اختيار هذا الوقت بالتحديد لاستصدار قرار الكونجرس، وما هي تبعاته وآثاره السياسية أمريكيا، وعربيا.. ذلك ما سوف تكون لنا معه وقفه في الحديث القادم بإذن الله.
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة مستخدم مجهول)
في السياسة كما في الحياة ، المواقف القائمة على حسابات خاطئة لها ثمن. يدفعه طبعا بالدرجة الاولى صاحب القرار, الطرف المعني، ولكن ذلك لايعفي شركاءالمصلحة والمصير، لاشقاء قبل الاصدقاء من عواقب التقصير عن المساعدة . المساعدة في تجنب الخطأ او في تصحيحه, حتى لو كان الاجراء متاخرا افضل من ان لايحصل
* تعليق #2 (ارسل بواسطة علي الرمضان)
هكذا الامريكان د.يوسف يريدون الفوضى والعربدة من قبل فلسطين وهاهم الامريكان يحكمون السيطرة على العراق ولا ادري على من ياتي الدور ولكن اتمنى أن لايحقق الامريكان مرادهم بفضل العرب الخونه وهذا هو حال السياسة المصالح السخصية والابتعاد عن المشاكل داخل بلادهم وتصدير الحرب فقط خارج امريكان حتى يشغل الشعب الامريكي عن قضاياه الداخلية بالخارج سياسة بوشية حقيرة