تقرير فينوغراد… تهاوي أسطورة الجيش الذي لا يقهر

0 274

رغم أن التاريخ لا يعيد نفسه، لسبب منطقي وبديهي هو أن الزمن لا يعاود حركته بطرق ميكانيكية إلا أن ذلك لا يمنع مطلقا من استعادة حادثة ما من حوادثه القديمة، ومقارنتها بحادثة أخرى، تأخذ مكانها في عصرنا، وقريبا منا. إن بالإمكان صياغة قوانين ونظريات تساعدنا على فهم السياقات التي تجري فيها الحوادث الآن بطريقة تبدو وكأنها تكرار لما حدث، لكن الوعي بهذه القوانين والنظريات هو الذي يمنح القدرة على الفهم ووضع كل حادثة تاريخية في سياقها الصحيح، بحيث لا تبدو وكأنها استنساخ لحادثة أخرى وقعت في زمن آخر. من هنا ربط بعض فلاسفة اليونان، كأبقراط وجالينوس بين البيولوجيا والأخلاق والسياسة، وحركة الدولة. فقالوا بوجود دورات تعاقب في الدولة، كما هي في الكائن العضوي. وجاء العلامة العربي ابن خلدون ليعتبر الدولة تعبيرا عن عصبية ما,وليصوغ قوانين تطورها في العصبية والعمران والشيخوخة.

 

 

كل النظريات الحديثة من ديالكتيك هيجل: الفكرة والنقيض والطريحة، إلى ماركس ووحدة نضال الأضداد، وتحول الكم إلى كيف ونفي النفي، إلى ماكس فيبير ونظريته في تطور مراحل الحكم: قبيلة وقيادة كارزمية وقانونية عقلانية لم تتخل في السياق العام عن قانون التعاقب، رغم اختلافها في كثير من الرؤى حول تفسير التاريخ.

 

جالت هذه المقدمة في تفكيري، وأنا أقرأ نص تقرير لجنة فينوغراد حول حرب يوليو عام 2006 التي شنتها “إسرائيل” على جنوب لبنان. لقد أقرت اللجنة التي رأسها القاضي المتقاعد، إلياهو فينوغراد بعدة أمور جوهرية حول تلك الحرب. أهم تلك الأمور هو أن اللجنة وجدت أخطاء وإخفاقات خطيرة في عملية صنع القرار، وفي التحضير للحرب على المستويين السياسي والعسكري، وفي غياب التفاعل بين المستووين: السياسي والعسكري. وبالإضافة إلى ذلك، وجدت اللجنة أخطاء وإخفاقات خطيرة على مستويات القيادة العليا في الجيش، لا سيما القوات البرية، ومستوى استعداد وجاهزية القوات، وفي تنفيذ الأوامر… كما وجدت إخفاقات خطيرة على مستويات القيادة السياسية والعسكرية، من حيث غياب التفكير والتخطيط الاستراتيجي… بما معناه صراحة أن إسرائيل “لم تستخدم قوتها العسكرية بحكمة، وعلى نحو مؤثر، رغم أن هذه حسب منطوق التقرير “كانت حربا بادرنا إليها، وقمنا بشنها على أرض محددة”. “لقد وجدنا أخطاء وإخفاقات خطيرة في كل شيء متعلق بالدفاع عن السكان المدنيين، والتحديات التي تمثلت في الضربات التي تعرضوا لها”، من لدن صواريخ حزب الله”.

 

“نحن على قناعة بأن رئيس الوزراء ووزير الدفاع عملا على أساس تقييم وفهم سليمين وصادقين، لما اعتبراه ضروريا لمصالح إسرائيل… ومع هذا ينبغي التشديد على حقيقة أننا إذا امتنعنا عن إلقاء مسؤولية شخصية، فإن ذلك لا يعني عدم وجود هذه المسؤولية”.

 

هكذا إذن نحن أمام اعتراف واضح وصريح، أعده خمسة من كبار المخضرمين الإسرائيليين في القضاء والقانون والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بتهاوي أسطورة الجيش الذي لا يقهر. وحسب ما هو متوفر من معلومات فقد رافقت إعداده ونشره ضغوط من داخل الكيان الصهيوني وخارجه للحيلولة دون نشره دفعة واحدة ولإخفاء أجزاء مهمة منه ذات صلة بالعلاقات الخارجية خلال الحرب تحت شعار “أسرار الدولة العليا”.

 

شيء هام وخطير غيبه التقرير آنف الذكر، رغم اعترافه بتهاوي أسطورة جيشه، هذا الشيء هو الذي يمنح المقدمة التي تصدرت هذا الحديث أهمية خاصة. لماذا تصرف الجيش الصهيوني، والحكومة الإسرائيلية بالطريقة “الكارثية” التي تصرفوا بها في حرب يوليو/ تموز؟ ولماذا حادت نتيجة هذه الحرب عن نتائج الحروب السابقة التي قيل إن جميعها تكللت بانتصارات باهرة، وبتقدم المشروع الصهيوني في حيازة المزيد من الأراضي الفلسطينية وقهر الإرادة العربية؟

 

الإجابة عن هذه الأسئلة تقودنا من جديد للمقدمة التي بدأنا بها هذا الحديث. فالكيان الغاصب استولى على أرض فلسطين، في ظل أوضاع دولية بالغة التعقيد بالنسبة للمصالح العربية. وكانت كل الأوراق المتاحة على الأرض تصب في صالح مشروعه. وقد أريد له أن يكون طليعة استيطانية ِأوروبية في وطننا العربي، تكون قاعدة متقدمة لرعاية مصالح القوى الخارجية. لكن هذا الكيان كان يفتقر منذ البداية إلى أهم عناصر تكوين الدولة الحديثة. شيئان متفردان وقفا إلى جانبه، الأول كان الموقف الدولي المساند للمشروع، وغياب الوعي والتخطيط والإرادة من قبل أصحاب الحق الشرعيين. والثاني، هو قدرة أقطاب المشروع الصهيوني على حقن عصبية ماكرة، استطاعت أن تحشد يهود العالم حول اغتصاب فلسطين، تحت شعار أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.

 

الدعم الدولي، والعصبية التي تحدث عنها العلامة العربي ابن خلدون كانت سر فتوة المشروع الصهيوني، وقدرته على إلحاق الأذى بالعرب. وقد كان سر استمرار هذه العصبية لفترة قاربت نصف قرن، هو شعور القادمين الجدد بأنهم غرباء عن الأرض، من جهة وأنهم يفتقرون إلى الوحدة والتجانس من جهة أخرى. فهناك في أعلى السلم الاجتماعي المستوطنون البيض، من أوروبا الشرقية، ويليهم اليهود، القادمون من البلدان العربية، من العراق واليمن ومصر والمغرب العربي، وبلدان أخرى غير عربية كإيران.. وفي أدنى السلم الاجتماعي يأتي اليهود الذين عرفوا بالفلاشا. ويعكس مفهوما الإشكناز والسفاردم واحدة من صور التمزق في المجتمع الصهيوني. هذا التمزق هو الذي جعل من الحرب عقيدة طاردة لتفتت المجتمع الصهيوني من الداخل، من خلال تصدير الأزمة بشكل مستمر إلى الخارج. وهكذا كان المشروع الصهيوني منذ بدايته، كما كررنا ذلك باستمرار، مشروع حرب. وهذه التركيبة هي التي فرضت ما عرف في الدوائر الصهيونية العسكرية بالحروب الوقائية.

 

القراءة المتعمقة لواقع الكيان الصهيوني في الداخل، تؤكد حتمية استمرار الحروب الوقائية، لأنها هي وحدها الضامن لتماسك مجتمع لا تربط أفراده أية صلة موضوعية، سوى أسطورة تعتمد على الميثولوجيا، بدلا من العلم وحقائق التاريخ.

 

على الطرف الآخر، الجبهة العربية لم يحمل العرب مشروع الحرب الذي حمله الكيان الصهيوني، وكانت استجاباتهم، عدا في حرب أكتوبر عام 1967م، تأتي انفعالية وغير منسجمة مع ضخامة التحدي. فكانت النتيجة هزائم متواصلة أمام الخصم.. ونجاحات بدت مستمرة لمشاريع العدوان.

 

في الحرب الأخيرة، عام 2006 شن الجيش الصهيوني حربا تقليدية، تصورها نزهة لن تختلف عن شبيهاتها التي شنها ضد لبنان في اجتياح عام 1978، وأثناء غزوه لبيروت عام 1982م، ولم يكن هناك تحسب من نوع آخر. فجاءت التكتيكات في جوهرها مشابهة لحروبه التي اعتاد شنها ضد العرب في أعوام1948، 1956،1967، 1973 و1982.

 

حالة الاسترخاء والثقة بالنصر، هي التي جعلت الصهاينة، يستندون على خطط عسكرية موجودة في أرشيفهم، ومحفوظاتهم، وهي حالة استرخاء وثقة نتجت عن استهجان وازدراء لقوة الخصم. وقد سبق لتلك الخطط أن أتت بنتائج مواتية ضد العرب، دمرت الكثير من القدرات وألحقت عددا من الهزائم. وكان التصور في الحرب الأخيرة أن سلاح الطيران سيكون قادرا في الساعات الأولى للحرب على حسم المعركة، والتمهيد لدخول القوات البرية.

 

وكالعادة أيضا كان الجنود الصهاينة في غرف عملياتهم العسكرية، يتصورون أنهم سيديرون معاركهم بذات روح التندر والسخرية والازدراء التي أداروا بها معاركهم السابقة. لكن النتيجة جاءت مرة وغصة، معلنة تهاوي قوة الردع، لجيش تفاخر صانعوه بكونه الأقوى في المنطقة، قادر على إلحاق الهزيمة بخصمه في بضعة أيام. فكان هذا الجيش ضحية غطرسته.

 

قبل ما يقرب من الألف والأربعمائة عام، وتحديدا في السنة الخامسة عشرة الهجرية خاض العرب معركة القادسية ضد الفرس. في تلك المعركة تصرفت جيوش الفرس بذات الغطرسة التي تصرف بها الصهاينة, فجاءوا بفيلتهم وعدتهم وعتادهم، وتجمعوا في القرنة بين نهري دجلة والفرات، في منطقة ضيقة جدا. في الطرف الآخر، توخى العرب كافة أسباب تحقيق النصر، تدفعهم بذلك عصبية من نوع خاص، هي عقيدة التوحيد، والرسالة السمحاء. فكان النصر حليفهم.

 

إنها إذن دائما وأبدا انتصار العصبية واليقظة، على الغطرسة والاسترخاء.

 

في الحرب الأخيرة، كان الازدراء والاستهجان بالخصم من جهة , وإرادة التحدي والمقاومة لدى المقاتلين اللبنانيين من جهة أخرى قد صنعت هزيمة الكيان الصهيوني، وانتصار المقاومة الذي اعترفت به بوضوح ودون مواربة لجنة فينوغراد… وهي التي أدت إلى هزيمة الجيش الذي لا يقهر.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة د.عبدالغني الماني)

 

ألف ألف تحية وشكر واحترام .. د.عبدالغني الماني المقدسي

 

* تعليق #2 (ارسل بواسطة محمد)

 

حرب يوليو عام 2006 التي شنتها “إسرائيل” على لبنان

و ليس على جنوب لبنان

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

17 − ثمانية =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي