تقرير فينوجراد تحريض على العدوان
والواقع أن موقفنا في القراءة السابقة تجاه تقرير فينوجراد لم يختلف عن معظم القراءات التي تناولتها الصحف ووسائل الإعلام العربية. فقد اكتفت بمناقشة الأجزاء التي تضمنت الاعتراف بهزيمة الكيان الصهيوني، وغضت الطرف عن جوانب أخرى في التقرير. وذلك يبدو أمرا بديهيا ومنطقيا، نتيجة اللغط والخلط الذي ساد الموقف العربي الرسمي، والانقسام الذي حصل في لبنان بعد الحرب مباشرة بين القوى السياسية. غير أن ذلك غيب مناقشة محاور أخرى، هامة وردت في التقرير، تتعلق بمستقبل الأداء، وحملت تحريضا مباشرا على العدوان.
لم يكن هناك مبرر لاحتدام الجدل حول مصداقية القول بهزيمة الكيان الصهيوني. فإذا أخذنا الحرب باعتبارها حواراً ساخناً بالسلاح، وأنها وسيلة لتحقيق هدف سياسي، في تلك الحالة كان القضاء على المقاومة اللبنانية، ونزع سلاحها وإلحاق لبنان بمشروع الشرق الجديد، كما عبرت عن ذلك في حينه وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس، فقد فشل هدف الحرب، وعجزت الحكومة الإسرائيلية، ومن خلفها القوى الدولية التي حرضت على الحرب عن تحقيق الأهداف المعلنة للحرب.
الجانب الذي ركزت عليه وسائل الإعلام، هو الجزء المتعلق بما كان، وليس بما ينبغي أن يكون مستقبلا. ما ينبغي أن يكون مستقبلا هو الجانب الذي ينبغي التنبه له، وهو في اعتقادنا الجزء الخطير في التقرير، كونه حمل معنى متضمنا، بالتحريض على الحرب، لقد مررنا عليه جميعا مرور الكرام، ولم نعره الاهتمام اللازم.
في الفقرة الثانية من تقرير لجنة فينوجراد، يشير التقرير بوضوح إلى أن الهدف من تشكيل اللجنة هو “الإحساس الشديد لدى الجمهور (الإسرائيلي) بالفاجعة وخيبة الأمل نتيجة المعركة وطريقة إدارتها. إن تقييم ما جرى يتيح الفرصة للتغيير والتحسين في مواضيع حيوية للأمن وازدهار الدولة والمجتمع في إسرائيل. خيبة الأمل والفاجعة ليست بسبب قرار الحرب، وإنما بنتائجه”.
كان الصهاينة يتوقعون كما في التجارب السابقة، حربا خاطفة، تنتهي بنصر سريع، على أمل فرض المزيد من الإملاءات على العرب. لكن النتائج جاءت مخيبة لآمالهم، فقد تمكنت المقاومة الوطنية اللبنانية من الصمود، وباشرت التعرض الميداني للقوات الغازية، وضربت العمق “الإسرائيلي” بالصواريخ.. وأوقعت عشرات القتلى والجرحى، في صفوف العدو. وكانت النتيجة فشلا ذريعا في التقدم بالقوات إلى مياه الليطاني، وهو ما كانت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تعد له، وتعتبره مقدمة لازمة لتحقيق أهداف العدوان.
إن الجانب الخطير في تقرير فينوجراد هو ما أوضحه التقرير ذاته من أن هدفه الحقيقي من تقييم الأخطاء الكارثية في حرب يوليو، هو التهيؤ لحرب أخرى، يرى الذين أعدوا التقرير أن نتائجها ينبغي أن تكون مغايرة. إنهم يأملون أن يكون تقريرهم مفيدا، لكي “تعمل المحافل ذات الصلة على عجل لإصلاح وتغيير كل ما يفترضه ذلك”. ليس ذلك فحسب، بل إن الأمر يقتضي سرعة في التنفيذ، كما تشير الفقرة السادسة. إن هذه العجالة هي التي جعلت فريق العمل المناط به إصدار التقرير يقدم موعد إصدار التقرير الجزئي الذي يركز على القرارات المتعلقة بشن المعركة.
إن الإشارة هنا واضحة وجلية، فالحرب القادمة، التي سوف يشنها الكيان الصهيوني، أيا يكون مسرحها وهدفها، لن تكون بعيدة زمنيا. ربما تأخذ مكانها في غزة أو لبنان، أو سوريا، أو ضربة جوية أو صاروخية ضد إيران، أو أي موقع آخر. لكنها لن تكون بعيدة عن وقتنا الحاضر، بل ربما هي أسرع مما نتوقع.. كما يشير إلى ذلك التقرير.
من أجل تدارك الأخطاء التي وقعت في حرب يوليو عام 2006، تقترح لجنة فينوجراد أن تكون القرارات لشن المعركة العسكرية القادمة مبنية على دراسة “جملة الاحتمالات الكاملة، وعلى رأسها مسألة ما إذا كان من الصواب مواصلة سياسة التجلد في الحدود الشمالية، أو إدراج خطوات سياسية مع خطوات عسكرية قبل حد التصعيد أو استعداد عسكري دون خطوات عسكرية فورية، للإبقاء في يد إسرائيل كامل إمكانيات الرد على حدث الاختطاف”. ويؤكد أنه “كان هناك ضعف في التفكير الاستراتيجي، الذي يقتطع الرد على الحدث عن الصورة العامة والشاملة”.
هنا يطالب التقرير بتغيير جذري في السياسة العسكرية الإسرائيلية، خلافا لما درجت عليه في الحروب السابقة. ويتناسى الذين صاغوه مسألة جوهرية في العقيدة الصهيونية، منذ تأسيس الكيان الغاصب، هي تلازم حروبه بما عرف بالحرب الوقائية، التي تعتمد على المفاجأة والسرعة. إن ذلك النوع من الحروب هو وحده الذي يلائم طبيعة الكيان الصهيوني، التي لا تحتمل حروب استنزاف، وانبثاق حقائق جديدة، غير مرغوب بها على الأرض، في الجانب العربي ربما يكون من ضمنها نشوء حالة غليان جماهيري وتحشد عربي ودولي مساند، ضد مشاريع العدوان التي كان يتم وأدها باستمرار بسبب سرعة الأداء الصهيوني، ودقته وقدرته على تحقيق أهدافه العسكرية في مسرح الحرب.
إن لجنة فينوجراد، في تقييمها لنتائج حرب يوليو عام 2006، قد ركزت على ما جرى من أخطاء في تلك المعارك، وتجاهلت بطبيعة الحال التطورات النوعية التي حدثت في الطرف المقابل، ولم يتحدث تقريرها عن طبيعة حرب الشعب، التي كانت وبالا باستمرار على الكيان الصهيوني. وحصدت نتائجها دما غزيرا في معركة الكرامة، التي وقعت بالأراضي الأردنية وشاركت بالتصدي لعدوان الصهاينة في تلك المعركة عناصر حركة فتح ومجموعة ضباط من الجيش الأردني. وتكرر ذلك مرة أخرى في الصمود الأسطوري للمقاومين الفلسطينيين، في حصار على بيروت استمر أكثر من ثمانين يوما، في صيف عام 1982.
إن تجاهل حرب الشعب من قبل لجنة فينوجراد يبدو أمرا متعمدا، لأن الاعتراف بذلك يضيف رصيدا للخصم، ويضعه في ما يقترب من الندية مع الكيان الغاصب، وهو ما يجعل من صمود المشروع الصهيوني برمته مستقبلا، موضع شك وتساؤل، من حيث صياغته لتعابير جديدة لمفهوم التوازن الإستراتيجي.
لقد عول تقرير اللجنة على أن لـ”إسرائيل” وجيشها قدرة ردع وتفوق نوعي كافيين، من أجل منع إعلان الحرب الحقيقية عليها، وإصدار إنذار أليم لمن يبدو وكأن منهج الردع لا ينطبق عليه. لكنه تناسى أن هذه النتيجة، التي أصبح العقل الصهيوني مسكونا بها منذ نكسة الخامس من يونيو، عام 1967، لم تصمد طويلا في عدد من المعارك لاحقة. فقد كانت حرب أكتوبر عام 1973، مفاجأة بالكامل للصهاينة. مفاجأة من حيث توفر الإرادة والقدرة على صناعة القرار، ومواجهة التحديات… ومفاجأة في ممارستها للمناورة والخداع، ومفاجأة من حيث الفعل الإرادي الإنساني، ومفاجأة أيضا من حيث الأداء والإبداع. وكان هناك صمود في بيروت وفي المخيمات الفلسطينية بالضفة الغربية… لعل أبرزها صمود جنين.
إنها إذن نفس لغة الغطرسة والقوة والتهاون بالخصم، حكمت سلوك الإدارة الإسرائيلية في حرب يوليو على لبنان، وبقيت حاضرة بقوة في اللغة التي صيغ بها تقرير فينوجراد. وهي استمرار لنفي آدمية الآخر، وقدرته على أن يكون كفؤا في المواجهة مع خصمه. وفي هذا السياق، يلاحظ أن تقرير لجنة فينوجراد المجتزأ، لم يتعرض كلية للكيفية التي أدار بها الخصم معركته، ولم يناقش استراتيجياته وتكتيكاته، ولا نوعية السلاح الذي استخدمه، في هذه الحالة قيادة حزب الله، مما مكنه من الصمود، وإلحاق الهزيمة بالجيش “الذي لا يقهر”.
نقاط أخرى هامة غيبها التقرير، لعل أهمها تعامله مع قرار الحرب، الذي اتخذته حكومة أولمرت بمعزل عن الإستراتيجية الأمريكية في تحقيق ما عرف بالشرق الأوسط الجديد أو الكبير. ودور تلك الإستراتيجية في مواصلة الحرب، والتي عبر عنها الموقف الأمريكي في مجلس الأمن الدولي للحيلولة دون صدور قرار أممي بوقف إطلاق النار، وتحريض أقطاب الإدارة الأمريكية على استمرار القتال.. والتصريحات المتكررة لوزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بأن تلك الحرب هي مخاض ولادة لانبثاق شرق أوسط جديد. وقضايا أخرى ذات علاقة علها تشكل محطات للمناقشة في أحاديث أخرى قادمة بإذن الله.