تقرير باتريوس وكروكر أمام الكونجرس اعتراف آخر بالهزيمة

0 235

إثر احتلال بغداد في التاسع من أبريل عام 2003، وفي مؤتمر صحفي، مع نظيره وزير الدفاع البريطاني، بدى وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد منتشيا بالنصر السريع الذي حققته قواته بالعراق. وعند سؤاله عما إذا كانت هناك دول أخرى، مرشحة بعد احتلال العراق، لمواجهة الحرب مع أمريكا، أجاب باعتداد أن القائمة طويلة وأن حروب أمريكا لن تنتهي إلا بالقضاء على بؤر وقواعد الإرهاب في العالم. وقال إن هناك اثنتي عشرة دولة في العالم على القائمة، وإنه لا بد من وضع حد لرعاية تلك الدول للأعمال الإرهابية. من جانب آخر، قال الرئيس بوش، من على ظهر السفينة الحربية أبراهام لينكولن، لدى احتفاله بالنصر في الحرب على العراق، إن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تشن حروبا استباقية بحق عدد من الدول، في مسلسل ما دعاه بالحرب على الإرهاب.

 

لم تكن رحلة الحرب “على الإرهاب” كما تصورها الصقور في الإدارة الأمريكية. كانت خيبات متواصلة بكل المعاني.. خيبات للذين قالوا إن احتلال العراق سيكون فرصة للأمريكيين للتخلص من عقدة فيتنام، التي ظلت جاثمة على صدورهم ما يقارب الأربعة عقود… وخيبات للذين تصوروا أن الحرب الأمريكية على بلاد ما بين النهرين، ستحسم الصراع الدولي بقوة، لصالح التفرد الأمريكي، من خلال الهيمنة على منابع النفط في العالم.. وخيبات للذين اعتبروا احتلال العراق، محطة أولى تنطلق منها جحافل الغزو لاحتلال بقية بلدان المنطقة، والتأكيد على أن القرن الواحد والعشرين هو الآخر قرن أمريكي.

 

الآن بعد أكثر من أربع سنوات تتراجع مفاهيم الفشل والنجاح، وبالتالي مفاهيم النصر والهزيمة بالنسبة لصانع القرار الأمريكي، لتصل حد اعتبار تراجع نسبة أعمال المقاومة في محافظة الأنبار انتصارا باهرا للسياسة الأمريكية، بعد أن كان مفهوم النجاح في السابق يعني السطو على الدول، وإلغاء كياناتها وهوياتها، بهدف الانتصار في معركة “الحرب على الإرهاب”.

 

في هذا السياق، يناقش هذا الحديث الشهادة التي أدلى بها قائد القوات الأمريكية في العراق، الجنرال ديفيد باتريوس والسفير ريان كروكر أمام الكونغرس بشأن الوضع في العراق. لقد تحدث باتريوس عن نجاح الخطة الأمنية التي تبنتها قواته إثر صدور تقرير لجنة بيكر- هاملتون، لكنه استدرك بالقول إنه سيكون من الصعب على الولايات المتحدة إبقاء تعزيزاتها العسكرية التي أرسلتها في مطلع 2007 إلى العراق العام المقبل أيا كان الوضع ميدانيا. وأكد أنه يمكن سحب هذه القوات الإضافية البالغ تعدادها 30 ألف جندي الصيف المقبل، و حذر من أن انسحابا كبيرا وسريعا ربما تترتب عليه عواقب “كارثية”.

 

لم تكن ردود الفعل تجاه هذه الشهادة، من قبل أعضاء الكونجرس، إيجابية، وبخاصة في أوساط قيادات الحزب الديموقراطي، رغم حملة الترويج التي صاحبتها. وحتى في أوساط الناس العاديين لم تلق آذانا صاغية من الأمريكيين، ولم تتمكن من إقناعهم بمصداقيتها. فبعد جلسات استماع الكونجرس لهذه الشهادة، اعتبر 70% من الأمريكيين، سياسة الرئيس الأمريكي في العراق فاشلة، وطالبوا بانسحاب فوري للقوات الأمريكية من هذا البلد.

 

وعلى صعيد القيادات التشريعية، انتقدت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي تقرير باتيريوس كروكر، وقالت إنه يمهد الطريق لوجود طويل الأمد في هذا البلد. وطالبت بيلوسي عقب اجتماع مع الرئيس جورج بوش بسحب القوات الأميركية مما وصفتها بالحرب الأهلية في العراق، مشددة على ضرورة القتال من أجل تبني توجه جديد يختلف عن ذلك الذي عرضه باتريوس وكروكر. وقالت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي “لدي انطباع بأن الجنرال باتريوس قدم خطة لوجود عسكري قوي لمدة عشر سنوات على الأقل في العراق”. وأضافت “… سوف نقاتل من أجل تبني توجه جديد، وما شهدناه أمس الاثنين لم يكن أبدا توجها جديدا”. من ناحيته قال زعيم الأغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ هاري ريد إن “هذه الحرب في العراق ليست حرب باتريوس، إنها حرب بوش”. أما السيناتور الديموقراطي جوزيف بيدن الذي يرأس لجنة العلاقات الخارجية فدعا إلى تغيير مهمة القوات الأميركية قائلا “لقد حان الوقت للخروج من الأزمة، ينبغي وقف الزيادة والبدء في إعادة جنودنا إلى الوطن”. وأضاف بيدن أن الشيء الوحيد الذي يبدو أن الكل متفق عليه الآن هو أنه لا يمكن أن تكون هناك تسوية عسكرية فقط،… إن الاستقرار الدائم يتطلب تسوية سياسية أيضا. وفي نفس الاتجاه طالب باراك أوباما، أحد المرشحين الديموقراطيين للانتخابات الرئاسية بسحب القوات الأمريكية من العراق بحلول نهاية 2008م.

 

ومن جانب الجمهوريين قال مرشح الرئاسة الجمهوري السيناتور جون ماكين إن شهادتي قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال ديفد باتريوس والسفير الأمريكي هناك رايان كروكر أثبتا وجهة نظره بأن سياسة الإدارة الأمريكية التي كانت متبعة في هذا البلد مصيرها الفشل. وأضاف أنه سبق أن أدان قبل سنوات عدة هذه السياسة لكن كلامه قوبل بانتقادات من الجمهوريين وآخرين. لكنه رحب بالسياسة الأخيرة التي انتهجتها الإدارة الأمريكية بعد صدور تقرير بيكر- هاملتون. كما انتقد السيناتور الجمهوري تشاك هاجل باتريوس وكروكر لعدم تناولهما العنف بين الجماعات المتنافسة في الجنوب مثل جيش المهدي الموالي للزعيم مقتدى الصدر، وحزب الفضيلة والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي الذي يسيطر جناحه المسلح على الشرطة في أجزاء كبيرة من الجنوب.

 

لكن الرئيس بوش أصر في خطابه الذي ألقاه بعد يومين من استماع أعضاء الكونجرس لشهادة باتريوس وكروكر على أن سياسته تحقق نجاحا بالعراق، مؤكدا على أن الانتصار في العراق هو أمر حاسم لأمن الولايات المتحدة”، موضحا أن “العراق الحر سوف يمنع القاعدة من الحصول على ملاذ آمن. وسوف يتصدى لمطامع إيران التدميرية، ويهمّش المتطرفين، وسيكون ركيزة استقرار في المنطقة، ومثلا للشعوب عبر الشرق الأوسط. وسيجعلنا أكثر أمنا في الداخل.” وقال “إن الهزيمة بالعراق تعني أن الإرهابيين سوف يتشجعون، وستكسب القاعدة مجندين جددا وملاذات جديدة. وستستفيد إيران من التشوش وتتشجع في جهودها للحصول على أسلحة نووية والسيطرة على المنطقة. وسوف يتمكن المتطرفون من السيطرة على جزء رئيس من إمدادات الطاقة العالمية.”

 

خطاب بوش هذا تجاهل أن العراق لم يكن قبل الاحتلال مأوى للمتطرفين، ولم يكن به موطئ قدم لمقاتلي القاعدة، وأن وجود التطرف والاحتراب الطائفي هو أحد إفرازات الاحتلال الأمريكي. تجاهل أيضا أن وجود عراق قوي مستقل، في السابق كان هو الضمانة للجم المطامع الإيرانية في المنطقة بأسرها. الإشارة الوحيدة التي كشفت عن مكنون سياساته هي الإشارة إلى إمكانية سيطرة المتطرفين على إمدادات النفط.. فهذا السائل الأسود، باعتراف وزير الدفاع الأسترالي هو المحرض على الحرب على العراق، وتلفيق تهم امتلاك أسلحة الدمار الشامل وإقامة علاقات مع القاعدة، للنظام الذي كان يقود العراق حتى تاريخ احتلاله.

 

جرى الحديث في شهادة باتريوس وكروكر، وفي خطاب الرئيس بوش عن نجاحات باهرة في العراق، باتجاه تحقيق المصالحة الوطنية، وعن تقدم على صعيد جبهات القتال في الأنبار. لكن الشهادة والخطاب لم يتطرقا إلى الجهات التي تمت المصالحة معها ولا إلى الكيفية التي تمت بها وكثير من الأمور المتعلقة، وهل شملت المصالحة قيادات حركة المقاومة العراقية؟. وما هو المدى الذي قطعه برنامج المصالحة في إلغاء قانون اجتثاث البعث؟. غيبت في الشهادة كما في الخطاب مشاكل وتحديات قائمة مثل مصير كركوك والصراعات الطائفية وفرق الموت، وقانون النفط. ورفع علم النصر في الأنبار.. وللأنبار قصة أخرى ليس لها علاقة البتة بنجاح الخطة الأمنية الأمريكية بالعراق.

 

الصراع في الأنبار بالأساس، هو صراع بين القاعدة وبين أطراف المقاومة الأخرى والشعب العراقي. والأساس فيه هو رفض العراقيين لتغيير بنيتهم الثقافية، ورفضهم أفغنة العراق. وهو خلاف له علاقة مباشرة باختلاف الرؤية الاستراتيجية لكل من المقاومة ومقاتلي القاعدة. وكما اتفق العراقيون على رفض تغيير بنيتهم الثقافية، ومصادرة هويتهم من قبل الأمريكيين.. فإنهم وقفوا بحسم أيضا تجاه محاولة القاعدة إقامة إمارة لطالبان فوق ترابهم الوطني.

 

يهدف العراقيون ومن ضمنهم المقاومة الوطنية إلى طرد قوات الاحتلال من بلادهم وإقامة نظام سياسي ديموقراطي تعددي. ويرفضون جملة ما رشح من مؤسسات وترتيبات وقوانين صدرت إثر احتلال العراق، ويتمسكون بعدم شرعية الاحتلال، وبالتالي يرفضون المشاركة في العملية السياسية في ظل وجوده. لكنهم من جهة أخرى لا يهدفون إلى الاستمرار في محاربة الأمريكيين إلى ما لا نهاية. إن الهدف هو القتال من أجل التحرير، وعندما تتحقق للعراق حريته واستقلاله ويرحل جنود الاحتلال عن بلاد الرافدين، فإن المقاومة، وخلفها شعب العراق، لا تمانع من إقامة علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول.. فالبرنامج هو مشروع حياة، وليس استشهاداً.. بمعنى أن الشهادة ليست غاية نهائية، وليست هدفا مستقلا قائما بذاته. أما القاعدة فإن برنامجها لا يستهدف تحرير العراق من المحتل، بل استنزاف الأمريكيين. وقد جاء ذلك صراحة في خطابات زعماء القاعدة. إن تحقيق السلام حتى بعد التحرير، هو خروج على ثوابت الجهاد. ويبدو هنا أن استمرار حرب الاستنزاف يبدو هدفا عدميا، وغير واضح. وهنا يتصادم برنامجان ويتحقق التضاد بينهما: برنامج التحرير وبرنامج الاستنزاف.

 

كيف بدأ التصادم بين البرنامجين، وما تبعات ذلك على تراجع فعل المقاومة في محافظة الأنبار، وكيف برز فجأة دور زعماء العشائر في محافظة الأنبار، وما هي حقيقة النجاح الذي حققته الإدارة الأمريكية في تلك المحافظة؟ هذه الأسئلة، وأخرى ذات علاقة ستكون موضوع حديثنا القادم بإذن الله.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

خمسة × أربعة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي