تعليق على التعليق
لم يحدث أبدا أن أثار حديث من الأحاديث التي نشرتها على صفحات هذه الجريدة الغراء ما أثاره الحديث الماضي “الفتنة نائمة فلماذا إيقاظها الآن!؟”، فقد وصلت مجموعة كبيرة من الرسائل، واتصل بي مجموعة من الإخوة، غالبيتها ترفض ماجاء في برنامج قناة المستقلة، وتدعو إلى تحقيق التقارب، وتعميم مبدأ المواطنة، منعشة الأمل في النفس بأن محاولات التخريب وخلق الفتنة لم تلق آذانا صاغية من الخيرين والواعين من أبناء هذه الأمة. لكن ذلك لا يعني أنه لم يكن هناك شذوذ عن القاعدة. فقد وصلت عدة رسائل، نحمد الله على أنها قليلة في عددها، تستنكر الدعوة إلى التقارب والوحدة، وتحمل تعاطفا مع هذا المحاور أو ذاك.. أو هذا الفريق أو ذلك.
وكم كنت أتمنى أن أكتفي بما جرى ذكره في ذلك الحديث، وأن نقفل هذا الباب إلى غير رجعة، باعتبار أن الصخب إذا استمر حتى لو كان دعوة إلى الوحدة من شأنه أن يثير صخبا آخر مضاد. لكن جملة الرسائل التي تسلمتها، والمعارضة لما جاء في الحديث السابق، وإشارة بعض الإخوة الأعزاء إلى أن ما ورد لم يكن كافيا لتسليط الضوء على مكونات التقارب والدعوة إلى الوحدة بين المذاهب الإسلامية قد شجع على معاودة الحديث عن الموضوع ذاته، على أمل أن يكون ما يطرح اليوم هو فصل الختام.
وما دمنا نتبنى الدعوة إلى التقارب والوحدة، ومادام دعاة الدعوة إلى التشرذم والفرقة يلجأوون في مهاتراتهم إلى انتقاء الحوادث وعزلها عن سياقها التاريخي والموضوعي، فإننا نجد أنفسنا مضطرون لاستخدام التاريخ كبوصلة لتثبيت دعوتنا وإيماننا بالتقارب بين المسلمين، منطلقين في ذلك ليس فقط من اعتبارات وطنية وقومية، ولكن أيضا من اعتبارات دينية وتاريخية وأخلاقية.
فالخلاف بين السنة والشيعة يرتكز في جوهره على موضوع الخلافة، وما حدث في سقيفة بني ساعدة حين اجتمع الأنصار لينتخبوا من بينهم خليفة للمسلمين، بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وجاء الخليفة أبو بكر الصديق ومعه الخليفة عمر بن الخطاب وأبو عبيدة الجراح، وحدث جدل بين المجتمعين في السقيفة انتهى ببيعة أبي بكر خليفة للمسلمين. وكان أن اعترض الشق الهاشمي، وبضمنه الإمام على بن أبي طالب والسيدة فاطمة الزهراء على هذه البيعة. ولكن الأمام علي بايع أخيرا..
يستند الشيعة في تبنيهم للإمامة على القول بوجود وصية من الرسول بتعيين الإمام علي خليفة للمسلمين بعد وفاة الرسول، ويوردون في ذلك أحاديثا نبوية ويشيرون إلى حادثة تاريخية في غدير خم جرى النص فيها من قبل النبي بموالاة علي بن أبي طالب على المسلمين، وأن الإشارة إلى ذلك وردت في مسند الإمام أحمد بن حنبل وتاريخ الطبري وابن كثير وصحيح البخاري ومسلم، بينما تقول الغالبية من المذاهب الإسلامية أنه لم يكن هناك نصا نبويا صريحا بمبايعة الإمام علي، ويضعفون الروايات التي وردت في هذا الشأن، ويرون أن الرسول ترك الأمر شورى بين الصحابة، فاختاروا الخليفة أبابكر لأنه أول من أسلم من الرجال، ولأنه صاحب النبي في الغار ولأن الرسول أمر، أثناء مرضه، أبا بكر بأن يؤم الصلاة نيابة عنه.
وأيا تكن الرواية الصحيحة، فالثابت أن الصحابة الأجلاء قد تجاوزوا تلك الحقبة، والتقوا جميعا تحت راية لا إله إلا الله حين استنفرت فيهم عوامل الخير. وبتلك الوحدة تمكنوا من مواجهة الفتن والإنقسامات التي حدثت في جزيرة العرب إثر وفاة الرسول مباشرة، واستطاعوا خلال حقبة قصيرة توحيدها من جديد. واتجهوا إلى شمال الجزيرة، وفتحوا جبهتين عسكريتين في آن واحد، في ظاهرة قل أن يوجد لها نظير، جبهة اليرموك في فلسطين وجبهة القادسية. وقد تمكنوا من إلحاق الهزيمة بالبيزنطيين والساسانيين. وكان الإمام الخليفة عمر والإمام علي بن إبي طالب أول من شهد نتائج انتصارات المسلمين على الفرس، وأهدى الخليفة عمر للإمام الحسين بن علي ابنة يزدجرد ملك الفرس التي أسرت في القادسية، وتزوجها الحسين وأنجبت منه الإمام على بن الحسين زين العابدين.
في عهد الخليفة عمر بن الخطاب تعززت، مرة أخرى أواصر القربي بينه وبين الإمام على بزواجه من أم كلثوم ابنة الإمام علي، وتزوج الإمام علي فاطمة أخت الخليفة عمر. بمعنى أن العلاقة بين الخليفتين قد تطورت إلى أواصر قربى متينة لاتنفصم. وهذا يعني أن الصحابة الأجلاء، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون، لم يضعوا كبير اعتبار لما حدث من تباين وجهات نظر في الأيام الأولى بعد وفاة الرسول، وأصبحوا يعملون معا وفي صف واحد من أجل نصرة الإسلام، فهل يجوز أن نزايد عليهم وعلى سيرتهم؟!.
نقطة أخرى جديرة بالإهتمام هي أن جميع المذاهب الإسلامية، بكل فروعها وتشعباتها، نشأت أثناء الخلافة العباسية، بدءا بعصر أبي جعفر المنصور الذي أوصى الإمام مالك بكتابة الموطأ، فجاءت المالكية ومن ثم الجعفرية والحنفية فالشافعية فالحنبلية. وحين جاء عصر الخليفة المأمون كانت تلك المذاهب الفقهية قد اكتمل تأسيسها.
وفي الحقبة الأولى لتأسيس هذه المذاهب طرح المذهب الشيعي فكرة التقية، وكانت هدنة مع السلطة العباسية فرضتها الحاجة لتدوين الفقه على مذهب الإمام جعفر الصادق، في جو سلمي، ولم تكن جزءا أساسيا من مكونات مذهبه كما يجري تصويرها من قبل خصومه. ولا شك أن العودة للتاريخ توضح بما لا يقبل الشك أن معظم الثورات التي حدثت في صدر العصر الأموي قادها نفر موالون للعلويين، ابتداء من واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين وصحبه فيها، وثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي، وحركة المختار بن عبيدة الثقفي وثورة زيد بن علي بن الحسين.. وفي جميع تلك الثورات لم تكن القوة في العدد والعدة متوازنة بين الثوار والجيوش التي تصدت لها، وانتهت جميع تلك المحاولات بهزائم عسكرية. ولكنها بقيت دليلا على أن التقية ليست من صفات أهل البيت، بل دخيلة عليهم.
ولا بأس من الإشارة إلى أن تعدد المذاهب الإسلامية لم يفسد للود قضية بين الفقهاء، فهناك أقوال للإمام الشافعي وللإمام أحمد بن جنبل تثني على الإمام جعفر، وهناك أقوال للإمام جعفر تحمل الثناء بحق مجموعة من الفقهاء الذين اختلفوا معه في الرأي، وكتب التاريخ حافلة بالإشارات إلى ذلك.
الجانب الآخر والمهم أن جميع المذاهب الإسلامية جاءت بعد أكثر من قرن من بزوغ الإسلام، وكان المسلمون قبلها قد مروا بعهد الرسول الأعظم وعهد الخلافة الراشدة، والعهد الأموي والتزموا بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، دون أن تكون هناك مذاهب فقهية. بل كانوا يرجعون للنبي الكريم وبعد رحيله للصحابة الأجلاء، ومن بعدهم التابعين. واستمر ذلك حتى نهاية العهد الأموي. وحين جاء العباسيون، وتوسعت الحركة الإقتصادية وتعددت فئات المجتمع وأقلياته القومية، نشطت حركة التصنيف والتدوين ووضعت اللغة بأكملها في أنظمة عقلية ومنطقية، وتحرك العلماء باتجاه حفظ وحماية الموروث من التراث الديني، وجرى تسجيل أيام العرب وأشعارهم وفتحت أبواب الإجتهاد على مصاريعها. وبرزت المذاهب الفقهية لتعين الناس على إدارة شؤونهم الخاصة والعامة بما ينسجم مع منطوق الشريعة. كضرورات دنيوية ودينية، لكن ذلك لا يعني بأية حال، أن المسلمين الذين عاشوا قبل فترة بروز هذه المذاهب الإسلامية أقل إيمانا وتمسكا بالدين الصحيح. بل ربما يكون العكس أقرب للمنطق، كون أولئك الصحابة قد عاشوا حقبة الطهر الديني قريبا من الرسول، يأخذون عنه مباشرة، ويعلمون عن القرآن ومتى نزلت آياته الكريمة وفي أي مكان وسبب نزولها. والخوض في هذا الموضوع يتطلب جهدا طويلا ليس هنا مجاله.
خلاصة القول، أن الإنتماء لأي مذهب من المذاهب الفقهية هو خيار شخصي، ولاحق أكثر من قرن من الزمن على بزوغ الإسلام. وهو على كل، يدخل في باب الإجتهاد وحل الإشكالات الفقهية، وليس له علاقة البتة بالإيمان بالله وكتبه ورسله. وكان النبي العربي عليه أفضل الصلاة والسلام، هو المعلم الأول وفاتح أبواب الإجتهاد، وقد جسد تلك الفضائل والشمائل بأحلى صورها حين جعل، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، من الصحابة الأجلاء مقربين ومستشارين له في إدارة شؤون الحرب والسلم.
ولذلك فإن من غير المنطق السماح لدعاة التشكيك في التقارب والوحدة، كي يلحقوا الضرر بمصلحة الأمة وإتاحة الفرصة لخصومها لاختراق مقاوماتها، داعين لقفل أبواب الإجتهاد، ومركزين على اجترار مقيت لخلافات مذهبية مزعومة، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة والتعاضد، يدفعنا إلى ذلك إيمان عميق بتاريخنا وموروثنا، باختلاف تجلياته وتفرعاته، ورغبة إلى التماسك والوقوف صفا واحدا في وجه المحاولات التي تضمر الشر بأمتنا ووطننا. وصدق الله العلي العظيم حيث يقول: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب).
yousifsite2020@gmail.com
تاريخ الماده:- 2002-12-20