تطرف متنافر: التشدد يواجهه الإستسلام
إثر انطلاق الإنتفاضة الفلسطينية الباسلة، واستشهاد الشبل محمد الدرة في حضن أبيه على يد جيش الإحتلال الإسرائيلي، حدث التفاف شعبي فلسطيني وعربي واسع حول الإنتفاضة، التي كانت في بدايتها استنكار لتدنيس مجرم الحرب إرييل شاروون للمسجد الأقصى. واستطاعت الإنتفاضة أن تنفض غبار اليأس والخوف، وأن تعيد للأمة ثقتها بقدراتها.. وكان التأييد لها يأخذ أشكالا مختلفة، من تقديم الدعم المالي إلى المهرجانات والندوات.. إلى التظاهر، وإنعاش فكرة المقاطعة الإقتصادية التي غطى عليها غبار التراجع واللهث ركضا نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني.
ومع عسكرة الإنتفاضة، بدأ تراجع واضح في الهجرة للدولة العبرية، وتقلصت حركة السياحة، وساد كساد اقتصادي مريع، وأصيبت المؤسسات الإسرائيلية بالشلل، وجرى تصعيد استدعاء الإحتياط رويدا رويدا. ودحرت نظرية الأمن الإسرائيلي مع تصاعد العمليات في الأراضي التي احتلها الصهاينة عام 1948.وكان المؤمل أن تقربنا انتفاضة القدس من مشروع الإستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية فوق الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، وفقا لما هو متوقع من اتفاقيات أوسلو. لكن الذي حدث كان شيئا آخر… شيء مختلف تماما.
فقد جرت محاولات إحتواء الإنتفاضة من قبل أطراف عدة، وعلى أكثر من صعيد. كان الراعي الأمريكي في مقدمة الأطراف التي سعت منذ البدء إلى إجهاض النهوض الفلسطيني الجديد، وساندته، للأسف، بعض الأنظمة العربية، التي كانت ترى في الإدارة الأمريكية القدر المقدر الذي لا يمكن إغضابه والخروج على إملاءاته. وفي هذا الإتجاه تبنت الإدارة الأمريكية عدة مشاريع، ودعت إلى عدة اجتماعات، تعقد تحت رعايتها، بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ويشارك فيها أحيانا، بعض قادة دول الطوق. وعلى هذه الطريق عقدت اجتماعات في واي ريفير وكامب ديفيد ورفح وشرم الشيخ والقاهرة والإسكندرية، وتم التوصل إلى مشروع ميتشيل وتفاهمات تينيت، والقائمة في هذا الصدد طويلة، تحتاج إلى شرح، وتوضيح للشرح.
وكانت هناك، وللأسف أيضا، السلطة الفلسطينية، التي كانت تخشى من انطفاء أوار الحماس الشعبي الفلسطيني والعربي، وكانت تتعجل الحصول على ثمار الإنتفاضة، قبل أن يحين أوان قطافها. وقد أدى ذلك إلى استمرار مسلسل تقديم التنازلات لصالح المشروع الصهيوني، تنازلا يتلوه تنازل حتى لم يعد هناك شيء يجري التفاوض عليه سوى ضمان السلامة الشخصية للقادة.. أما الإستقلال وإنجاز الإستحقاقات، التي تمثل الحد الأدنى، في اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ومشروع القرار 242، فأصبحت مؤجلة حتى إشعار آخر..
وكانت هناك جوقة المنظرين للإستسلام والتطبيع، والذين استخدموا جل قدراتهم الذهنية للتحريض على المقاومة، والعمل على إبطال روح التوثب، وإجـهاض الدعـوات لمقاطعة الكيان الصهيوني ومن يقف وراءه اقتصاديا وسياسيا. وأخيرا، وليس آخرا، كان هناك الكيان الصهيوني الذي لم يتردد في استخدام ماكنة الحرب لديه بشكل غير مسبوق، في مواجهة المدنيين العزل، من الدبابات وطائرات الأباتشي، وتنفيذ عمليات اغتيال واسعة في صفوف المقاومين من القادة الفلسطينيين.
وبعد حوادث 11 سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، وإعلان الأخيرة ما أطلق عليه بالحرب على الإرهاب، حدث تناغم جلي بين السياستين الأمريكية والإسرائيلية، يصل حد التطابق الكامل. فهناك يمين مسيحي صهيوني متطرف يتربع على عرش الهيمنة العالمية، ويتخذ من البيت الأبيض مقرا له، وهنا يسيطر على الحكم في الكيان الصهيوني أعتى مجرمي الحرب، يقودهم جزار صبرا وشاتيلا. والقيادة الفلسطينية التي كانت قبل ذلك، تقدم التنازل تلو التنازل، وجدت من المبررات والأسباب ما يقنعها أن تنحني للعواصف والرياح، مادامت غير قادرة على مواجهتها، تحت يافطة جديدة هي القراءة الواعية للسياسة الدولية، والمتغيرات التي جرت عليها بعد إعلان الحرب على الإرهاب.
الواضح الآن أن هناك تساوق، بين الموقف العربي والموقف الإسرائيلي، فكلاهما يحرض عامدا على الإنتفاضة والمقاومة، كل لأسبابه. الإسرائيليون، اكتشفوا، من خلال خبرتهم الطويلة، أنهم بسياستهم المتطرفة أكثر قدرة على تشليح القيادات الفلسطينية، ونزع كل الأوراق التي بأيديها. لقد تعلموا أن يعرضوا بين وقت وآخر، جزرة تزكم الأنوف بروائحها النتنة، وما أن يهم الجياع على الإقتراب منها، حتى يجري سحبها بأقصى السرعة، لتحل محلها جزرة أخرى أكثر نتانة.
وإذا كان مفهوما، وإن لم يكن مقبولا، موقف بعض الأنظمة العربية، المقيدة باتفاقيات ومعاهدات مع الكيان الصهيوني، تعت من قدرتها على الحركة والفعل، إضافة إلى خشيتهم من تراجع الكيان الصهيوني عن الإتفاقيات التي وقعها معهم، وتعريضهم لمخاطر لا قبل لهم بها، فإن من غير المفهوم، بالنسبة لنا، نحن الذين لا ناقة لنا ولا جمل في ما يعرضه الصهانية والأمريكان من مشاريع، لماذا يسرع بعض القادة الفلسطينيين إلى جلد ذاتهم، والتنكر للدماء الزكية التي سقطت على تراب أرضهم. أن يجري إدانة عسكرة الإنتفاضة من قبل بعض القادة الفلسطينيين، فذلك يمكن فهمه ووضعه في خانة الإجتهادات. حتى وإن أكدت الأحداث أن تلك الإجتهادات لم تأخذ بعين الإعتبار السياق التاريخي الذي أدى إلى تلك العسكرة… والتي جاءت كرد عملي على عمليات القمع والإبادة التي يمارسها الصهاينة، بحق المدنيين العزل، انطلاقا من قاعدة قانونية قديمة، عرفت منذ حمورابي واستمرت حتى يومنا هذا “العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم”. قلنا أن ذلك الإجتهاد مفهوم وواضح، وأنه لا يغيب أهمية استمرار النضال الفلسطيني من أجل التحرير، ولكنه يستعيض عن برنامج سياسي ببرنامج سياسي آخر، هو العصيان المدني والمواجهة السلمية.
وحتى حين وقع ناشطون فلسطينيون مطالبين بإلغاء عسكرة الإنتفاضة، والتنسيق مع قوى السلم في الكيان الصهيوني، من أجل دحر اليمين الإسرائيلي، والإشارة هنا واضحة إلى تبني عودة حزب العمل الإسرائيلي وباراك أوشيمون بيريز جزار قانا إلى السلطة، قلنا إن ذلك تكتيك، لعل الموقعين يرغبون من خلاله شق وحدة المجتمع الصهيوني.. وغضضنا الطرف عن تاريخ طويل من المواجهات والحروب التي خاضها العرب دفاعا عن أنفسهم عام 1948 وعام 1956 وعام 1967 وعام 1973، وفي مجمل تلك الحروب كان أقطاب حزب العمل يتربعون على السلطة في إسرائيل.
لكن أن ينبري الشخص الثاني في السلطة الوطنية الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير بالقول أن الإنتفاضة من وجهة نظره كارثة بالنسبة للفلسطينيين، وأنها جلبت الويلات لهم ودمرت اقتصادهم ومؤسساتهم، ولم تحقق لهم أية مكاسب، ويطالب علنا بوقفها، دون طرح برنامج سياسي آخر، فذلك موضوع غير مفهوم وغير مقبول، إنه أقل من أن يعيدنا إلى المربع الأول.. وحتى إذا كان المقصود به مطالبة الفلسطينيين بالعودة إلى المربع الأول، فإن ذلك أمر غير متحقق، وبحكم المستحيل، لأن التاريخ غير ممكن استنساخه، وعقارب الساعة لا تعود إلى الخلف. وهو بالتالي تنكر للمكاسب التي حققتها الإنتفاضة الفلسطينية الباسلة، والتي اعترف بها الصهاينة أنفسهم، وهي أيضا تنكر للدماء الطاهرة التي روت أرض فلسطين، وعبدت الطريق لبزوغ فجرها المجيد. وهي أخيرا، تأتي متناغمة مع حملة صليبية عسكرية وإعلامية شرسة تشنها الإدارة الأمريكية ومن خلفها البريطانيين والصهاينة بحق الأمة العربية، والتلويح بشن حرب مدمرة على العراق الشقيق، لتساهم في إضعاف جذوة المقاومة ولتلحق الهزيمة في النفس تميهدا لجعلها متحققة على الأرض.
من حق الفلسطينيين أن يختاروا البرنامج والطريق التي تضمن لهم استرجاع حقوقهم، شريطة أن لا تكون على حساب التمسك بالثوابت الوطنية والمقدسات واستحقاقات الأمن العربي الجماعي، وأن لا تتسبب في طعن الأمة وخذلانها وتفتيت وحدتها، في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى التماسك والوحدة. إن مثل هذا الإختيار، إضافة إلى ما يلحقه من أذى وضرر على العرب والفلسطينيين، فإنه طريق عدمي .. وأبعد ما يكون عن تحقيق الأهداف والآمال الفلسطينية في الحرية وإقامة الدولة المستقلة.
yousifsite2020@gmail.com
تاريخ الماده:- 2002-12-02