تسريع عملية التهويد في المدينة المقدسة
وقد أتاح احتلال القدس الشرقية في حرب يونيو/ حزيران عام 1967م، فرصة أخرى، للصهاينة لاستكمال هذا المشروع، عبر العمل بشكل منهجي وحثيث لتهويد المدينة المقدسة، والعبث بالموروث الديني، بشقيه الإسلامي والمسيحي بمدينة السلام
.
الخطوة الأخيرة، القاضية بتخفيض مكبرات الصوت، بالمساجد في مدينة القدس، والأراضي الفلسطينية، التي تم السطو عليها عام 1948م، تحت ذريعة أن رفع الأذان بمكبرات الصوت، يزعج المستوطنين اليهود، هي خطوة خطيرة، وتعبير عن موقف عنصري بغيض.
لقد جرى التصديق على هذا القرار، من قبل اللجنة الوزارية للتشريع بالكيان الصهيوني. وفي هذا السياق، أعلن رئيس الحكومة، بنيامين نتياهو، تأييده الواضح والصريح للقرار المذكور، انسجاما مع مواقفه الدائمة المتعنتة والرافضة للحقوق الفلسطينية، ولحق الفلسطينيين في الاستقلال وتقرير المصير.
إن خطورة هذه الخطوة، تكمن في أنها تأتي استكمالا للمخطط الصهيوني، في القضاء على الهوية التي صنعت تاريخ فلسطين، وجعلت منها موطنا للأديان السماوية الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية. فقد مثلت المدينة المقدسة، عبر تاريخها الطويل، نموذجا متقدما للتعددية والتسامح، والتعايش السلمي، بين مختلف المكونات الدينية، حيث مارس فيها أتباع الديانات السماوية الثلاثة عبادتهم وشعائرهم بحرية كاملة.
والخطوة لا تقل في نتائجها خطورة، عن بناء المستوطنات والمعابر الصهيونية، والجدران العازلة، فكلها تصب في خانة واحدة، هي إضعاف الوجود الفلسطيني، وتذويب هويته، والتعرض المباشر لعناصر مقاوماته وصموده، .
إن رفض القرار الإسرائيلي، من قبل الفلسطينيين والعرب جميعا، ومن قبل المسلمين وجيمع الشرفاء في العالم، ليس هدفه العمل على ضمان حرية العبادة، وممارسة الطقوس الدينية فحسب، بل هو دفاع عن كل الفلسطينيين، بمختلف معتقداتهم. فمن يتعرض الآن للمآذن يتعرض مستقبلا لأجراس الكنائس. وكلاهما معلما رئيسيا من معالم الهوية الفلسطينية.
كما أن هذا القرار، هو في واقعه استكمال لمحاولة تذويب الهوية الفلسطينية، في المناطق التي أقيم عليها الكيان الصهيوني منذ عام 1948، والتي يشكل العرب المسلمون والمسيحيون فيها أكثر من مليوني نسمة، بما يعادل أكثر من 20% من حملة الجنسية “الإسرائيلية”.
وعلى الرغم من كل ما تعرض له فلسطينيو الداخل، من الحصار ومصادرة الأراضي والإقصاء والتهميش، فقد فإنهم بقوا متمسكون بأرضهم، وضربوا المثل الأعلى في الصمود والمقاومة، والتمسك بالهوية الفلسطينية عنوانا لهم، وبقوا عصيون على الذوبان. وكان التمسك بالفلكور الفلسطيني، وإعلاء شأن الفن والأدب، كما التمسك بالطقوس وممارسة العبادات الدينية، ضمن مداميك الصمود الفلسطيني الأسطوري، في مواجهة الوحشية والعنصرية الصهيونية.
إن تخفيض مكبرات صوت الأذان في المدينة المقدسة، وفي بقية المناطق التي احتلت عام 1948م، يحمل رسائل عدة للعرب والمسلمين، وللعالم المتحضر. لعل أهمها أن وصف العقيدة الصهيونية، بالعنصرية، الوصف الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة أثناء ولاية الأمين العام السابق، كورت فالدهايم، هو تعبير دقيق عن عقيدة وممارسات الكيان الغاصب.
إن القرار يفضح بشكل لا لبس فيه، زيف ادعاء الكيان الصهيوني بالديمقراطية، واحترام المعتقدات، وحرية الرأي والرأي الآخر. إنه ينضح كراهية وحقدا على ما عدى الديانة اليهودية من عقائد وطقوس وممارسات. ويضع الصهيونية في موقعها الحقيقي ككيان عنصري متخلف ومتوحش، لا تتماهى كينونته مع واقع هذا العصر، وتقاليده وثوابته، ومع خصائص الدولة المدنية. وهو محاولة لإلغاء واقع موضوعي وتاريخي، على أرض فلسطين، واستبدال ذلك بتعميم النهج الصهيوني العنصري، مما يشكل خطراً كبيراً وتهويداً واضحاً لكل المعالم والتراث الإسلامي.
إن فرض الصهاينة لسياساتهم الاقصائية، على مناطق هي بحكم القانون الدولي، أراض محتلة، يحمل في طياته رفضا واضحا لتلك القرارات، وعدم استعداد للتسليم بمشروعيتها. وهو أيضا تحد للمجتمع الدولي، وللمبادرات العربية الكثيرة، التي طالبت بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، فوق الأراضي التي احتلها الكيان الغاصب، في حرب يونيو عام 1967م، وعاصمتها القدس الشريف.
والقرار “الإسرائيلي” في صيغته ومضمونه، يتماهى مع ممارسات داعش الإرهابية، في المناطق التي استولى عليها، حيث تغلب شريعة الغاب، ويصنف الناس، على أساس من معتقداتهم الدينية والمذهبية، وليس باعتبارهم بشرا، يملكون حرية الرأي والاعتقاد. ولذلك فإن على العرب والمسلمين، والعالم المتحضر، والمؤسسات الدولية ذات الاختصاص، الاضطلاع بحماية الأماكن المقدسة والمقدسات الإسلامية والمسيحية، والعمل الفوري على دفع حكومة نتياهو للتراجع عن ممارساتها المتطرفة، وكف يدها عن المساس بالمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس. فالقرار، هو في حقيقته، إعلان حرب على قيم الأرض والسماء.
صحيح إن تغيير واقع الحال، في الصراع العربي مع الصهاينة، هو رهن بتصحيح الواقع الراهن، بالوطن العربي، وهو واقع تنبئ جل مؤشراته، إلى أنه واقع مؤلم ومرير، لكنه ينبغي في كل الأحوال، أن لا يكون سببا في الاستسلام، وتقديم المزيد من التنازلات، للغطرسة الصهيونية. فلسطين ينبغي أن تكون رافعة للواقع العربي وتغييره من حال التردي، إلى حال الوحدة، والخروج من نفق الأزمة إلى عالم أكثر أمنا وسلاما، ولتكون مدينة السلام، عنوانا للسلام، وللحرية ولتعددية المعتقدات والأديان.