تساؤلات حول المقاومة والنهضة

9

د. يوسف مكي
ضمن الأطروحات التي سادت أبان حقبة الكفاح الوطني، للتحرر من الاستعمار التقليدي، إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، أطروحة الربط بين انجاز الاستقلال وتحقيق النهضة. حيث ساد في حينه أن المعوق الرئيسي لبناء الدولة الحديثة، هو الاستعمار، وأن مجرد التخلص من الهيمنة الاستعمارية سيتكفل بنقل حياة بلدان العالم الثالث، من حال إلى حال.
مثل هذا الربط، قيل، ولا زال يقال، حول العلاقة بين التجزئة والوحدة، وقيل حول علاقة الديمقراطية بالتنمية، فالبلدان العربية، لن تتمكن من إنجاز مشاريع التنمية طالما بقيت مجزئة. وقد حمل هذا المنطق، في جانب منه، وسواء بقصد أو عن غير قصد، إعفاء للأنظمة السياسية السائدة، من النهوض بمجتمعاتها.
وفي السياق ذاته، قيل إن إلحاق أي هزيمة عسكرية، بالمشروع الصهيوني، من شأنه أن يغير كل المعادلات السياسية في المنطقة، وأن يسهم في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية. وهكذا كان الربط دوما بين العناوين الرافضة للاحتلال والهيمنة، وبين مشروع التقدم والتنمية، وإلحاق أي هزيمة بالمشروع الصهيوني.
لكن ذلك لم يكن دقيقا، في الحالات التي أشرنا لها. وإذا كانت التجربة والمشاهدة والرصد، أدوات عملية وعلمية في استخلاص التجارب، وتقديم البراهين، فإن الواقع المرير الذي تعيشه معظم الشعوب في القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ومن ضمنها البلدان العربية، حيث الفقر والمجاعات والخراب والتدمير والتفتيت، ووالفساد والاستبداد، والعجز عن مقابلة استحقاقات الناس هو السائد في معظم هذه البلدان، ، رغم أنها جميعا أنجزت استقلا لها، منذ ما يربو على النصف قرن من الزمن.
لهم يسهم استقلال بلدان العالم الثالث، لا في خروجها من شرنقة التخلف والفقر، ولما تتمكن من فك خطوط تبعيتها للخارج. لقد بقيت شبكة علاقاتها البطركية القديمة، راسخة كما كانت. ولم تحدث تنمية حقيقية، أو أي تحول ديمقراطراطي، في معظم هذه البلدان، بما في ذلك البلدان التي حملت السلاح، وقدمت أغلى التضحيات، وقوافل الشهداء.
لدينا على سبيل المثال، في الوطن العربي، أمثلة صارخة، تدحض أطروحة الربط بين المقاومة بين التمدين والتنمية ومشاريع النهضة. في الجزائر، خاص الشعب العربي كفاحا مريرا ضد الاستعمار الفرنسي، وقدم على مسرح حرب الاستقلال، واالحرية أكثر من مليون شهيد. هذا البلد العريق، كان عرضة إرهاب الجماعات المتطرفة في السنوات الأخيرة. وتشير بعض الإحصاءات إلى أن كلفة مواجهة التطرف قد كلفت أكثر من سبعين ألف قتيل. ومثل هذا القول ينسحب على اليمن الجنوبي، الذي قاوم الاستعمار البريطاني، وانتزع بإرادته استقلاله وحريته. ولكنه أين يقف الآن في زمن مشاريع الفتنية والتخريب؟!, إنه حقا لوضع محزن أن تنتهي كل تلك التضحيات، وبعد سنوات طويلة، بالحال الذي وصلت إليه هذه البلدان.
ويمكن أيضا أن نذكر في هذا السياق، معركة العبور العظيمة، والتي نحتفل هذا الأسبوع، بمرور خمسة وخمسين عاما على اندلاعها، وهي ملحمة كبرى، بكل المقاييس، ملحمة زاخرة بالانتصارات والإرادة والتضحيات. لكن تلك المعركة العظيمة التي انتصر فيها السلاح، هزمت في السياسة. وكانت نقلة رئيسية في الفكر السياسي العربي، من التصدي للمشروع الصهيوني، باعتباره مشروع عدوان وحرب، إلى القبول بوجودة، والتعامل والتطبيع معه.
وفقا لأطروحة المقاومة والنهضة، كان من المفترض أن يضيف نصر اكتوبر، إلى قدرات العرب، في صراعهم مع العدو، بما يمكنهم من استعادة حقوقهم، ويسرع بتحرير فلسطين، وعودة اللاجئين في الشتات إلى ديارهم، لكن ذلك لم يأخذ مكانه. وأي تكن أسباب ذلك، فإن معناه أن الركون إلى أن أي انتصار عسكري على المستعمر، أو في مواجهة الصهيونية، سيخلق حقائق جديدة، على الأرض، يغير من الواقع العربي بشكل شامل، هي مقولة غير دقيقة.
وفي هذا الاتجاه، لا نهدف مطلقا إلى التقليل من شأن المنجزات التاريخية، التي حققها شعبنا العربي، أو شعوب العالم، في مواجهتها للظلم والاستعباد، ولكن وضع كل منجز، من هذه المنجزات في سياقها التاريخي، ووضع أليات جديدة، لتحقيق العناصر الأخرى، الضرورية، لتغيير واقع الحال، من مشاريع نهضة وتنمية، وتحولات سياسية واجتماعية، بالمعنى الشامل لهذه التحولات.
على الصعيد العالمي، هناك تجربة اقتصادية رائدة في الصين الشعبية، تنافس أكبر قوة اقتصادية عالمية، هي الولايات المتحدة الأمريكية. ولن يجادل أحدا، في أن غياب قيم الحداثة الغربية، لم يمنع الصين من النهوض باقتصاداتها، وأن تأخذ مكانا متميزا على الساحة الدولية. ومثل هذا القول، ينسحب إلى حد كبير، على روسيا الاتحادية، التي عادت عسكريا بقوة إلى الساحة الدولية، في حين لا تزال مؤسساتها التشريعية، ونظامها الديمقراطي، في طور البداية، ولم يكتمل بعد.
بل إننا نزعم، أن القوى الصاعدة عسكريا في الحرب الكونية الثانية، في الأيام الأولى للحرب، لم تكن الدول العريقة في ديمقراطيتها، بل نازية هتلر، وفاشية موسليني واليابان. وأن الذي غير من إيقاع الحرب، ومكن الحلفاء من الانتصار كان التحاق الاتحاد السوفييتي، الذي لا يمكن وصفه بالديمقراطية، إن أخذت بالتنمط الغربي، ومعه الولايات المتحدة الأمريكية.
يبقى أن نشير، إلى أن قوى لا تحمل إرثا حداثيا، كما هو الحال، مع الكنسية في أمريكا اللاتينية، ومع بعض حركات المقاومة الفسطينية واللبنانية، ومع ذلك شاركت في قيادة المقاومة للعدو.
خلاصة القول، نحن بحاجة ماسة إلى مراجعة شاملة لمنظومة أفكارنا، وخلق مفاهيم واستراتيجيات جديدة، لتحقيق التكافؤ بين مشاريع المقاومة ومشاريع النهضة، وعدم التعويل على الأوهام، ووضع كل منجز حقيقي في إطاره الصحيح، وفتح الآفاق لاسترايتيجيات أخرى، بما يضمن تحقيق النهضة والتقدم والتنمية، وتعزيز الكرامة الإنسانية.
Yousifmakki2010@gmail.com

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي