تحديات كونية

0 393

لن نبتعد كثيرا عن تشخيص واقع الحال، حين نؤكد أن سمة عصرنا هذا، أنه عصر تقدم علمي وتكنولوجي، وعصر ثورة معلوماتية ورقمية. لقد اختزلت هذه الثورات العلمية المسافات وأحالت كوكبنا الأرضي إلى قرية صغيرة، توحد معها الزمن وحققت تواصلا إنسانيا غير مسبوق. أصبحت الفواصل بين الأقاليم لا تتحدد بالمسافات أو الجغرافيا والتاريخ ولكن بمستوى التقدم والتطور.

وجاءت الفضائيات التي تبث إرسالها عبر أرجاء هذا الكون، لتختزل الزمن، محررة الفرد، من قيود حجمه وزمانه ومكانه وجنسه. لقد كان من نتائج هذا التطور، اهتزاز منظومة التقاليد والقيم وأنظمة المعارف في كوكبنا، ونشر مفاهيم العولمة المعاصرة، وتعميم قوانينها وضوابطها.

ومن الطبيعي أن تحاصرنا هذه التطورات، وتطرح علينا بقوة منهج التعامل معها. وأول ما يواجهنا، أننا لا نزال أسرى في السلوك والممارسة لحالة انفصام شديدة بين الماضي والحاضر. بعضنا يتصرف وكأن الثورات العلمية الهائلة تحدث في كوكب آخر.. كوكب بعيد عنا بآلاف السنين. إن زماننا، حين نضعه في ميزان سلوكنا وردود أفعالنا، منفصل ثقافيا وحضاريا تماماً عن الزمن الكوني الذي نحياه. إنه زمن غابر يرفض التعامل مع الحاضر، متجنباً كل ما هو جذري وحديث بذريعة الدفاع عن التقاليد والأصالة، مكرساً هيمنة سلطة الإكراه وأنساق التخلف.

البعض الآخر، يعيش افتتانا مطلقا بالحاضر، يشطح بعيدا، مع أنه لا يزال أسير تقاليده، قافزا فوق الواقع، متناسياً أن الجديد في الثورات العلمية قد تحقق بفعل قانون التراكم، وأن منجزات العلم ليست في عزلة عن الحراك والصراع مع الكون والطبيعة. إن غياب قوانين التحول من وعينا، تجعلنا نقتحم الزمن الجديد بشكل مسطح، ومن دون الأدوات والمستلزمات الضرورية لذلك، وبالتالي دون قدرة على التفاعل والحركة. ويتناسى دعاة الحداثة الكاريكاتورية أن من شأن ذلك أن يجعل منا إمعات وتابعين، لا عناصر مبدعة خلاقة. وبالتالي تكون النتيجة غربة جديدة من نوع آخر.. نوع ربما يكون أقسى وأمر مما نحن فيه الآن.

لا بد إذن من ضبط إيقاع حركة الولوج في الزمن الكوني الجديد، بتحقيق التراكم الثقافي والعلمي المطلوب، والتجانس الواعي مع الحراك الكوني كي نكون بالفعل ترساً فاعلاً في عملية التطور الإنساني التي تحث السير بسرعة تفوق سرعة الصوت. لكن كيف يتحقق ذلك؟

كي نكون فاعلين في هذه المحطة من تاريخ البشرية، لا مناص من تحديد أهدافنا واستراتيجياتنا وأدواتنا. ينبغي التركيز على الحوار والتفاعل مع مختلف التيارات الإنسانية، والتثاقف مع الحضارات الأخرى، ولن يتحقق ذلك إلا بملء الفراغ العربي المعلوماتي، بما يسهم في خلق التواصل، وتجسير المسافة بين الزمن الحقيقي والزمن الكوني الاعتباري لهذا العصر.

إن ذلك يفترض وجود مهمات أخرى لأجهزة الاتصال المتوافرة، من فضائيات وإنترنت وصحافة، تتجاوز ترسيخ الرؤى البليدة بأدوات وتقنيات جديدة، وصناعة ما يتجانس مع ضرورات الحاضر. وباختصار، نحن في حاجة لتوحيد زمننا العربي وجعله زمناً واحداً، محرراً من رتابة ماضيه ومعلوماته وأن يكون متصلاً في قدرته وفعله بهذا الزمن الكوني.

جميل أن نمتلك مؤسسات إعلامية قوية، لكن الأهم هو وضعها في خدمة مشروع النهضة. إن هناك خطراً جدياً يكمن في سيادة الصوت الواحد وتغييب مختلف النداءات الأخرى غير المجانسة مع الأوضاع القديمة. إن ذلك هو التجسيد العملي لسيادة خطاب قديم مستعاد، يتسم بالقهر والإقصاء، وهو خطاب مناوئ للخطاب الثقافي التنويري المعاصر المتسم بالتسامح والإيمان بالعلم وحرية الفكر. إن خطاب المستقبل يجب أن يكون مفتوحاً ومنفتحاً على كل الأصوات والألوان، واحترام الرأي والرأي الآخر. وهو خطاب، يجب أن يرفض بحزم دعاوى الخصوصية الثقافية، إن الخطاب المطلوب في هذه المرحلة هو خطاب يتجاوز بوعيه السياسي حدود الجغرافيا والوحدانية التاريخية، وتدابير الأنظمة ولوائحها البيروقراطية.

وينبغي التمييز بين نوعين من الاندماج بهذا العصر: اندماج إيجابي يرفع في وجه الثقافة العربية تحدي الانخراط في الحداثة والمعاصرة والإبداع، والمساهمة في مجالات الثقافة والفنون، وإصلاح الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية باتجاه تحقيق مزيد من الاحترام لحقوق الإنسان، وبين اندماج سلبي يرفع في وجه الثقافة العربية تحدي الرضوخ للتبعية والتهميش وإلغاء الذات والتنازل عن الحقوق والهوية أمام قوى الهيمنة العالمية الجديدة.

الثقافة المطلوبة، مدعوة للدخول بالاختراق والتفاعل والاستجابة لهذا الزمن، لأن مبادئه المعلنة تستجيب للحاجات التاريخية للشعوب المقهورة، ومن ضمنها شعبنا العربي. ونحن من أكثر الشعوب مصلحة في تحقيق الاندماج مع العالم، لأنه سيعجل في قطع المسافات التي ينبغي علينا تجاوزها. إنها جدلية الضرورة التي فرضت علينا من قبل الالتزام بمفاهيم العدل الاجتماعي وتحقيق التكافؤ، هي ذاتها التي تفرض علينا الآن التنازل عن مظاهر الانعزال أو العداء للآخر، والدخول في رحاب عالمي إنساني أوسع، دون أن يعني ذلك تنازلاً أو ارتماء أعمى في أعتاب النظام العالمي الجديد، أو تحت أقدام جياده التي تفننت في هزيمتنا وسحق كرامتنا.

ما نتطلع إليه، هو التسليم بأهمية وجود نظام عربي تحديثي، قادر على مواجهة التنافس في مجالات العلوم والتكنولوجيا والقوة العسكرية. وهو نظام ينبغي أن يجعلنا داخل النظام الكوني الجديد، بعيداً عن حواجز الخوف والشك والارتياب والشعور بالدونية إزاء تفوق الآخر. إن من شأن التحول في ثقافة النظرة إلى التاريخ والآخر والذات، أن يضيف كثيرا من عناصر القوة إلى استراتيجيات الدفاع عن الوجود. ولن يتحقق ذلك إلا بإضافة صراع إيجابي مع الذات من أجل الإصلاح والتنمية والحداثة، تستطيع من خلاله الأمة العربية النهوض من كبوتها من جديد، مستندة إلى عمق حضاري وثقافي أصيل متعدد ومتنوع، يتيح استعادة الدور الحضاري المفقود، ويسهم بفعالية في ركب التطور الإنساني الصاعد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إحدى عشر + 13 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي