تبدلات سريعة فوق لوحة الشطرنج
أم أن أوضاع أمريكا المتردية سياسيا واقتصاديا، تسمح بالمجاهر علنا بنقد سياساتها.
أتت هذه الاتهامات، مع تغيرات سريعة بالسياسات الدولية، لعل أبرز ملامحها التحول المفاجئ بالسياسة الأمريكية، تجاه المسألة السورية، والعلاقة مع إيران، والصدامات بين الجماعات المسلحة في سوريا، وانتزاع ما يدعى بالدولة الإسلامية بالعراق والشام، مناطق من الجيش الحر، مما أضطر أعدادا كبيرة من مقاتليه للجوء إلى الأكراد وجيش النظام بعدد من المحافظات هربا من القتل.
في هذا الحديث نعمل على قراءة لوحة الشطرنج، ومن يحرك بيادقها، ونحاول فك طلاسم المشهد السياسي على رقعتها. ولا مفر من نقطة بداية نرتكز عليها. وفي هذا السياق ربما يكون خطاب الرئيس الروسي بوتين، بمجموعة العشرين أهم مظاهر التغيير في التوازن الدولي، بالأسابيع الأخيرة. فهذا الخطاب هو الأول من نوعه، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. ففيه إعلان صريح بعودة روسيا بقوة للمسرح الدولي، ليس كشريك لأمريكا، بل كمنافس وقائد لكتلة قوية، تتصارع معها في المصالح والمواقف والاستراتيجيات، وتستعيد روح التعددية القطبية.
مسلسل الأحداث طويل ومتشابك، ويحمل في تمظهره كثيرا من الطلاسم، لكن السياسة هي في النهاية وعي بما يجري وصراع إرادات وقدرة على الفعل, والاستراتيجية الصحيحة هي التي تفي بمتطلبات الإرادة والفعل.
الموقف الروسي الصلب من المسألة السورية، وإعلان بوتين الصريح، عن استعداده للذهاب في المواجهة مع الغرب لأخر الشوط، دفع بالأمريكان والروس للخروج بصفقة، نزع السلاح الكيماوي السوري، مقابل إيقاف الضربة العسكرية، وبهذا اختزلت الأزمة بنزع هذا النوع من السلاح. لكن للسياسة والمصالح أحكامهما.
مكالمة الرئيس أوباما مع الرئيس روحاني، نقلة استراتيجية، تحقق جملة من الأهداف الأمريكية. فهي تعيد تشكيل القوس المحيط بروسيا، بما يجعلها مهددة مباشرة في خاصرتها. وإيران تشكل منطقة عازلة بين الدب القطبي والمياه الدافئة في الخليج العربي، وتؤمن الطريق البري لشرق آسيا، وأخيرا، توجد بديلا عن مصر، في حال وجود عوامل مانعة من استمرار التحالف الذي مضت عليه قرابة أربعة عقود بين مصر وأمريكا.
التحالف مع إيران، لن يكون مكلفا اقتصاديا لأمريكا، فثرواتها تتكفل بصيانة أمنها القومي، في حين أن العلاقة مع مصر، ليست فقط مكلفة بسبب وضعها الاقتصادي المتردي، وأزمة أمريكا الاقتصادية، ولكنها ليست مضمونة النتائج أمام التحولات التي تجري سريعا، واحتمال عودة الجيش المصري بقوة للواجهة السياسية، حيث تشير التقديرات إلى أن الرئيس القادم لمصر، هو الفريق عبدالفتاح السيسي، ما لم تحدث تغيرات مفاجئة في الخارطة السياسية المصرية.
يجرنا ذلك للموقف الروسي من المشروع النووي الإيراني. لقد بدت إدارة بوتين بالأيام الأخيرة، أكثر تشددا تجاهه من نظيرتها الأمريكية، رغم أن ما قدمته سابقا من تسهيلات لحيازة طهران هذا النوع من التكنولوجيا، ليس قليلا. لكن الفرق كبير، بين أن تكون إيران صديقة لروسيا ومعادية للغرب، وبين أن تنعكس الصورة.
إن ذلك يعني بداهة، أن روسيا ستكون محاطة من الجنوب بقوة نووية، وهو ما لن تسمح به مطلقا إدارة الرئيس بوتين. في هذه النقطة تحديدا تلتقي سياسة دول الخليج العربي مع الموقف الروسي. وسيجد الكيان الصهيوني في موقف روسيا الحاسم من امتلاك إيران للسلاح النووي إنقاذا لتفرده بامتلاكه.
موقف روسيا من الأزمة السورية، لن يضيف جديدا لخارطة الصراع الدولي، ما دامت القوى الكبرى، أعلنت صراحة أن لا حل عسكري للأزمة، وأن الطريق المتاح هو مؤتمر جنيف 2، بما يجعل الموقفين الأمريكي والروسي متوازيين، بفارق أن الأمريكيين يرون تحقق مصلحة المعارضة، من خلال الالتحاق بمؤتمر جنيف.
في الأيام الأخيرة أيضا، نلحظ تطورين هامين: إعلان الاتحاد الأوروبي عن استحالة انضمام تركيا له. يأتي ذلك بعد فشل جماعة الإخوان المسلمين، في تأسيس إمبراطورية، تكون تركيا قطب رحاها. ويتزامن ذلك مع انهيار سريع لحلفاء تركيا في سوريا، واستلام الإسلاميين المتشددين لمدينة عزاز على الحدود التركية.
لقد فشلت إستراتيجية تركيا في سوريا. فلا هي التحقت بالاتحاد الأوروبي، ولا تمكنت من إقامة الخلافة العثمانية، ولا قضت على النظام السوري. وليس من المستبعد تغيير تركيا لسياستها، تجاه إيران والأزمة السورية. ولعل رفضها إقامة زعيم حماس فوق أراضيها، مؤشر على ذلك. ويذكر أن زعيم حماس، السيد خالد يسعى لإعادة علاقة حماس بإيران وحزب الله، بما يفهم منه أنه تمهيد لإعادة العلاقة مع سوريا.
الحدث الآخر، دعوة قطر للرئيس الإيراني لزيارة الدوحة، وقبول روحاني للدعوة. الدعوة تبدو غريبة، لكن الأغرب هو ما تسرب عن اتصالات تقوم بها الدوحة مع دمشق، وعن احتمال قيام مسؤول قطري بزيارة سرية إلى سورية، خلال الأيام القليلة القادمة. الواضح أن الدوحة تسعى للارتباط بالخارطة الدولية الجديدة قبل فوات الأوان. فهي تدرك أن العلاقة بين تركيا وإيران في الصراع السوري، ستتحول من صراعية، إلى تكاملية. وأن اهتمام المجتمع الدولي، الآن ليس الإطاحة بالنظام السوري، بل القضاء على العناصر المرتبطة بتنظيم القاعدة، المتواجدة على الأراضي السورية. وسوف تستخدم خبرات الجيش السوري لهزيمة هذه التنظيمات، باعتبارها تمثل تهديدا مباشرا للسلام والأمن الدوليين.
في غضون ذلك، يبدو الشلل واضحا على أكبر قوة عسكرية واقتصادية في التاريخ، حيث تنشغل الإدارة الأمريكية بأزمتها الاقتصادية، مدللة على شيخوخة مبكرة، وتراجع عن الحراك الدولي، تاركة الساحة، لقوى صاعدة، تستعد لتسلم مفاتيح صنع القرار في مجلس الأمن وكافة المؤسسات الأممية.
لا يمكن للعرب، أمام هذه التحولات السريعة، في لوحة الشطرنج الانكفاء، فذلك ليس الخيار الإيجابي. لا بد من تنويع خارطة التحالفات، ووعي اتجاه التحولات في موازين القوى الدولية، واستخدامها بذكاء بما يخدم أهداف أمتنا، ويعيد الاعتبار للقرارات الأممية، ويسهم في ترصين العلاقات الدولية، ولا يجعلنا تائهين على أرصفة الطريق، وهامش التاريخ.