بين استشراقين…

0 250

صادف يوم أمس مرور 6 سنوات على أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، حيث جرى، في ذلك اليوم، تفجير برجي مركز التجارة الدولية في نيويورك، ومقر البنتاجون في العاصمة الأمريكية، واشنطون، بطائرات مدنية… وكانت أول هجمة تتعرض لها مدن أمريكية، بعد القصف الياباني لمدينة بيرل هاربر في الحرب العالمية الثانية. وكان ذلك الحدث قد طوى فصلا من التاريخ، وفتح حقبة جديدة في العلاقات الدولية، اتسمت بسيادة ما عرف باستراتيجية “الحروب الاستباقية” من قبل الإدارة الأمريكية. فكانت عودة للاستشراق، ولكن بأزياء جديدة.

 

لقد بدأ الاستشراق الجديد في التعبير عن نفسه بقوة في خطابات بوش ورامسفيلد، حين أكدا على أهمية مهاجمة الإرهابيين في أوكارهم، قبل أن يهاجموا المدن الأمريكية الآمنة.. وحين اعتبرت الثقافة العربية الإسلامية مسؤولة عن تبعة ما جرى في أمريكا بالحادي عشر من سبتمبر.. وحين تلفعت الحرب على العراق وأفغانستان بلبوس الديموقراطية والتحديث والقضاء على الاستبداد.

 

ارتبط الاستشراق الكلاسيكي، بشكل عام، بعصر الاستعمار القديم في الشرق، وبضمنه الوطن العربي، حيث جرى اهتمام الطلائع الاستشراقية بتقديم صياغة جديدة لعوالم العرب الروحية والاجتماعية والثقافية، وقد أريد لتلك الصياغة أن تكون تمهيدا للهجمة الاستعمارية الغربية على المنطقة. وبدقة أكثر، يمكن القول إن الاستشراق القديم هو جزء من الموقف التنفيذي السلطوي للاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكان المستشرقون الأوائل قد مثلوا طليعة الزحف الاستعماري الغربي للمنطقة العربية.

 

لم يختلف الاستشراق الجديد عن سابقه، فقد ارتبط هو أيضا بالنزوع الهستيري والعدواني الذي عبرت عنه أفكار المحافظين الأمريكيين الجدد. بمعنى أن كليهما كانا طليعة تمهيد للعدوان، حيث كان الأخير تجسيدا حقيقيا لانتهاء الحرب الباردة، وسيادة الأحادية القطبية بالزعامة الأمريكية. وكان احتلال أفغانستان والعراق، والسلوك العدواني الذي صاحب عمليات الاحتلال، أبرز إفصاحاته. في هذا السياق، يحبذ الأستاذ فاضل الربيعي، في كتابه “ما بعد الاستشراق: الغزو الأمريكي للعراق وعودة الكولونياليات البيضاء” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، استخدام تعبير “ما بعد الاستشراق”، بدلا عن الاستشراق الجديد، وهو تعبير يقترب في معناه من “ما بعد الحداثة”، حيث المطلوب هو تذويب الهويات القومية والثقافية للشعوب المستهدف إخضاعها.

 

إن الاحتلال الأمريكي، قد مارس، شرقنة للشرق، من حيث استعادة إنتاج الصور التي اختزنها مخيال الاستشراق القديم. وكانت الحرب التي شنتها الإدارة الأمريكية على العراق، في عناوينها، وأنماطها والقسوة المفرطة التي صاحبتها، قد كشفت بجلاء عن الكيفية التي تمت بها صياغة الصور الذهنية للاستشراق الجديد.

 

فالحرب الأمريكية، وعلى لسان الرئيس بوش هي استمرار للحروب الصليبية، موجهة نحو الشرق.. وهي حرب ضد “الإرهاب” القادم من الشرق، والذي يهدد الأبرياء الآمنين في منازلهم، داخل الوطن الأمريكي. وهي في هذا السياق، موجهة ضد وحشية “الآخر” وضد تاريخه وثقافته ومعتقداته الروحية.

 

وكما حملت الكشوفات الاستشراقية الأولى تحريضا للكولونيالية التقليدية لفتح الشرق بالقوة العسكرية، فإن الأبحاث الاستشراقية الجديدة، حملت تحريضا هستيريا، على غزو العراق تضمن صياغة قصص وأساطير عن برنامج العراق النووي وعلاقته بالقاعدة وبابن لادن. وتمثلت قمة التحريض في دمج ماكر للعراق بأفغانستان، وبما جرى في 11 سبتمبر عام 2001، حيث أبرزت صور بلدين وجماعتين بشريتين مختلفتين من بلدان العالم الثالث وكأنها صورة بلد واحد، وشعب واحد، مصدر للعنف ضد الغرب، تكاملا ونضجا داخل لوحات متخيلة لغول أخطبوطي، شرير وشيطاني قادر على الانتشار بين بغداد وكابول.. كان ذلك مماثلا بالدقة للدور الذي لعبه الاستشراق القديم، طليعة الاستعمار البريطاني، حيث قام بتصميم صورة زائفة للعراق، جعلت منه امتدادا مماثلا للهند البريطانية، رغم اختلاف ثقافته وخصائصه الروحية والحضارية.

 

إن ما يجمع بين الاستشراقين، القديم والجديد، هو وحدة مجالهما الحيوي. فكلاهما يقع في صميم برامج السياسة الاستعمارية، وليس خارجها أو بمحاذاتها. إن عملهما ليس مقتصرا على حقل الثقافة، بل صياغة المقدمات الثقافية والنفسية والإعلامية، لشيطنة الخصم وإفساح الطريق وتعبيده لبرامج الإخضاع والهيمنة، وعبور جحافل الغزو.

 

لقد بلغت الصور الذهنية لهذا التماثل مستوى مرعبا، خلال السنوات التي انقضت على احتلال أفغانستان والعراق، ساهمت فيه وسائل الإعلام الغربية بدهاء، وفي صور كثيرة… ميزانية حرب واحدة، قائمة واحدة للخسائر في الأرواح على الجبهتين الأفغانية والعراقية. وحتى صور القتلى من جنود الاحتلال، التي تعرض على وسائل الإعلام بعد موافقة البنتاجون على نشرها، بدت صورا مدمجة، يصعب تمييز ما إذا كانت لقتلى أمريكيين في أفغانستان أو العراق. وبذات الإيقاع بدت وسائل التعذيب في جوانتانامو وأبو غريب متماثلة إلى حد كبير. ولم يكن هناك من فرق بين التوابيت القادمة من العراق وتلك القادمة من أفغانستان. وبالتأكيد لم يكن هناك من فرق بين المصحف الذي تم تدنيسه وتمزيقه في سجن جوانتانامو، والمصحف الذي مزق ورسمت عليه شارة الصليب في مسجد القدس بالفلوجة. إنه “المصحف نفسه في مكانين مختلفين وزمنين مختلفين”. وهما حسب تعبير الرئيس الأمريكي جورج بوش خندق أمامي من خنادق الحرب العالمية ضد الإرهاب.

 

كان هناك تماثل أيضا بين خطابي الاستشراقين القديم والجديد، فكلاهما اعتبر احتلال العراق تحريرا من الاستبداد إلى نشر قيم الحرية والمدنية، ونقل بلاد ما بين النهرين إلى مصاف الأمم الراقية. الفرق بينهما أن الحديث عن التمدين في الاستشراق القديم قد عنى تهنيدا للعراق، وتحويله إلى امتداد جغرافي وثقافي لمستعمرة أخرى هي الهند، أما الخطاب الأمريكي الذي ارتبط باحتلال العراق عام 2003، فإنه في الوقت الذي كشف فيه عن استمرارية الخطاب الاستعماري القديم الذي بدأه الجنرال مود حين دخل العراق منتصرا، نجد ارتباط نزعة التحرير الشريرة بالتلاعب بتركيبة العراق الثقافية والتاريخية، وإلحاقه بمستعمرة أخرى، هي أفغانستان…

 

لقد اختلطت حاجة المجتمع إلى المدنية والتحديث، التي وعد بها الجنرال البريطاني مود في القرن الماضي، والحاكم العسكري الأمريكي جرينر عند دخوله بغداد في مطلع هذا القرن، بمفاهيم أخرى تفضي بمجملها إلى سياسة تسويق أو تكريس التخلف… كانت مفاهيم التحرير والديموقراطية والتحديث تختلط بمفهوم الاحتلال، ومصادرة الحريات والحقوق.

 

لقد أدرك الناس بحسهم الفطري أن للاستعمار مطالب أخرى، لم يكن بينها تحقيق الحرية والحداثة للمجتمع الذي جرت محاولة إخضاعه،. إنها الاستيلاء على الثروة، والتحكم في المناطق والمعابر الاستراتيجية. ولأن هذه الأسباب لها القابلية على التكرار مع كل استعمار جديد، فإن الوقائع تكون متماثلة.. كاشفة عن خيبات أخرى لليبراليين العرب الذين قدموا أنفسهم للمجتمع العراقي مع سقوط بغداد عام 2003 كمناصرين لجحافل الغزو.

 

وكما تعرضت ليبرالية عصر الاستشراق الأولى لنكسات متواصلة، نتيجة تكشف حقيقة دعاوى الاستشراق في التحديث، ونتيجة لعدم قدرتها على استيعاب وقائع التاريخ، وفهم حدود التناقض بين مصالح المستعمر، وتطلعات الناس العاديين في البلدان المستعمرة. فإن الليبرالية العربية الجديدة تتعرض الآن لخيبات أخرى مماثلة. فالغرب قد عاد مرة أخرى ولكن ليس للاستمتاع بسحر الشرق، لم تكن الدوافع للعودة، رومانسية المكان، وقصص شهرزاد، أو الإصلاح وحقوق الإنسان، بل شبكة من المصالح الاستراتيجية، يعززها تراث ميثولوجي، هو على نحو أخص نزوع توراتي، في عودة ظافرة إلى أورشليم القدس.

 

مرة أخرى، خطأ تاريخي آخر، ووهم زائف يسقط فيه الليبراليون “الأحفاد” بتصورهم أن الغرب الديموقراطي أقوى من حيث ميوله الإصلاحية في الخارج، من نزعاته الكولونيالية في مستعمراته الشرقية. إن فحوى هذا الوهم باختصار هو المراهنة على فرض الإصلاح في الداخل بقوة الغزو الخارجي، تحت ذريعة استحالة تحقيق الإصلاح من دون معونة الغرب الاستعماري، حتى وإن كان بقوة التدخل العسكري.

 

إن الليبراليين العرب الجدد يخلقون عالما خاصا مزيفا، فيراهنون على سلام مع الكيان الصهيوني.. إن هذا “السلام” كما يرونه سيكون مصدر الازدهار في المنطقة. ويتناسون أن هذا السلام هو هدر الحقوق، وحرمان الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم وضياع القدس.

 

تغيب القراءة الواعية لطبيعة المشروع الصهيوني، كما تخيله الاستشراق. كيان غربي يقوم خارج حدوده حاملا تجربة إمكانية تطبيق أفكار الاستشراق على بلد عربي بواسطة قوة التخيل، تفرض على شعب آخر رواية مشوشة وغامضة عن تاريخه، يزعم فيها السارق الغاشم وجود تاريخ آخر، لشعب آخر، أو كيان آخر لا فرق. إن قدوم المستعمر، يهدف إلى تحقيق ثنائية السطو والكشف في آن معا، ومن ثم إعادة صياغة الخارطة السياسية للمنطقة لتتوافق مع القراءة التاريخية الجديدة. هكذا يسقط الليبراليون العرب في هذه الأحابيل والأوهام، ويصبحون جزءا من صناعة الترويج لمشاريع ما بعد الاستشراق..

 

فهل نأمل في عودة وإن تكن متأخرة للوعي، لليبراليين العرب الذين ألهبونا بسياط الحرية والديموقراطية، قبل أن يتحول نهارنا إلى ليل دامس؟!.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

*أجرى الصديق الأستاذ فاضل الربيعي في كتابه “ما بعد الأستشراق” المشار له أعلاه تحليلا عميقا بين محاولات تهنيد العراق، بعد احتلاله من قبل البريطانيين في مطلع القرن الماضي، وأفغنته من قبل الأمريكيين في الاحتلال الأخير. وقد استرشد في هذه الحديث بكثير مما ورد في هذا الكتاب.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إحدى عشر − تسعة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي