بوادر انبثاق نظام دولي جديد

0 372

 

لكل مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني، بصمة خاصة بها. لكن ذلك لا ينفي وجود عناصر ناظمة للعلاقات الدولية، تمتلك صفة الثبات النسبي، في كل مراحل العصر الحديث. فالانتقال من نظام دولي لآخر، محكوم باستمرار بتوازنات القوة. وهذه التوازنات تعبر عن ذاتها، في صيغة حروب يشنها الطرف الأقوى، ضد الطرف أو الأطراف الأضعف ، ليحسم بشكل لا لبس فيه، موقعه في خارطة الصراع الدولي.

 

بموجب هذه العناصر الناظمة، تشكل في القرن المنصرم نظامان دوليان، الأول هو أحد إفرازات الحرب الكونية الأولى، وفيه هزمت ألمانيا وتركيا وخرجت روسيا من الحرب، وكانت الريادة في هذا النظام للاستعمار الغربي التقليدي، ممثلا في بريطانيا وفرنسا. وقد بقيا كذلك، رغم أزماتهما الاقتصادية، حتى نهاية الحرب الكونية الثانية.

توجت نتائج الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، كأعظم قوتين عسكريتين، على وجه الكرة الأرضية. لكن اكتشاف السلاح النووي، من قبل الأمريكيين، ولحاق السوفييت بهم في هذا الكشف بعد فترة قصيرة جدا، خلق حقائق جديدة غيرت من طبيعة المواجهات العسكرية بين القوى العظمى. فمواجهات كهذه في ظل امتلاك هذه القوى للسلاح النووي والقنابل الذرية تعني فناء محتما للبشرية. ومن هنا ساد منطق جديد وبسمات جديدة في الصراع.

السمة الأولى للصراع، هي طبيعته الأيديولوجية فهو صراع بين معسكر رأسمالي، يقوده الأمريكيون، يؤمن بالحرية الاقتصادية، وبفوضى السوق، وبين معسكر شيوعي، يضيق الخناق على الحرية، ويجعل من الدولة مالكة لوسائل الإنتاج. وكان الصراع في جانب منه يجري على امتلاك العقول، ودعم القطبين المتنافسين للأنظمة الموالية لهما في كل القارات.

ولأن العلاقات بين الدول، تقوم بالأساس على صراع الإرادات، وليس على التعاون الدولي. برزت محاولتين رئيسيتين، لترصين الصراع، وتعضيد السلم في العالم. الأولى تشكيل عصبة الأمم بعد الحرب الكونية الأولى، وتشكيل هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بعد نهاية الحرب الكونية الثانية. وإعلان مواثيق تؤكد على ضمان السلم العالمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة. لكن ذلك بقي دائما حبرا على ورق. يدلل على ذلك ما شهدته كرتنا الأرضية من حروب دامية ذهب ضحيتها الملايين من البشر.

والحديث عن الحروب، يجرنا إلى سمة أخرى، في العلاقات الدولية ارتبطت بالنظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب. هذه السمة ارتبطت بعدم قدرة أي من أقطاب المعسكرين على خوض معركة مباشرة ضد القطب الآخر. بمعنى، عدم إمكانية قيام تصادم عسكري مباشر بين السوفييت والأمريكان، حتى مع استمرار حالة التوتر في العلاقات بينهما. لقد كان البديل عن ذلك هو استبدال الحروب التقليدية، بما أصبح متعارف عليه بالحرب الباردة. وهو تعبير أخذ مديات مختلفة. وقف الاتحاد السوفييتي يناصر حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا. وحرصت الإدارة الأمريكية على ضمان تبعية “حديقتها الخلفية” لها، وابتعادها على المعسكر الشيوعي، وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير. وكانت كوبا هي البلد الوحيد الذي خرج عن الهيمنة الأمريكية.

ومن جهة أخرى، عمل الأمريكيون، في الخمسينيات على تطويق السوفييت بقوس عسكري، يمتد من باكستان شرقا إلى تركيا جنوبا، ويضم بالإضافة إلى باكستان، إيران والعراق وتركيا. كما تشكل حلف الأطلسي، الذي أسس السوفييت في مواجهته حلف وارسو، من الدولة السوفييتية ودول شرق أوروبا، الاشتراكية.

واقع الحال، أن هذه الترتيبات أكدت، من جهة، طبيعة الصراع بين القوى العظمى. ومن جهة أخرى، أوجدت تفاهما ضمنيا بين الغرماء الأمريكيين والسوفييت أقرت بوجود مناطق نفوذ للمعسكرين، يعتبر التعدي عليهما تجاوزا للخطوط الحمراء. وكانت بداية القسمة والتفاهمات بين القطبين قد تمت في يالطة بعد الانتصار في الحرب، لكن ترتيبات لاحقة أضيفت لها أثناء الحرب الباردة. وقد التزم الأمريكيون والسوفييت بتلك الترتيبات، ولم يتجاوزا حدود الاتفاق الضمني بينهما.

ذلك ليس نهاية المطاف، فقد بقيت مناطق أخرى، خارج الاتفاق استمر الصراع عليها بين القطبين المتنافسين. فالبلدان التابعة للاستعمار العربي التقليدي، والتي شهدت محاولات حثيثة للانعتاق من الفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين والبرتغاليين والأسبان، بقيت خارج القسمة. وأصبح التنافس عليهما من قبل المعسكرين حادا وشرسا. ولما كان من المستحيل أن تتحقق مواجهة عسكرية مباشرة بين القطبين، دخل في القاموس السياسي والعسكري، تعبير الحروب بالوكالة. فكانت هناك حرب في كوريا دعم فيها الأمريكيون الشطر الكوري الجنوبي، ودعم السوفييت الشطر الشمالي. وانتهت الأمور بتقسيم البلد إلى شطرين، شطر في الجنوب تبنى النهج الرأسمالي، وشطر في الشمال تبنى النهج الشيوعي، ولازالت الأوضاع على حالها حتى يومنا هذا رغم مرور قرابة ستة عقود على هذا الانشطار.

حدثت حرب كبرى، في فيتنام، بعد انسحاب الفرنسيين منها. كان الصراع المباشر فيها هو بين الأمريكيين والفيتناميين في الشمال وقوات الفيتكونج الموالية لهم. كان الأمريكيون يقاتلون بأنفسهم دفاعا عن استراتيجية التوسع، وخوفا من تحقق ما أطلق عليه كيسنجر بنظرية الدومينو، التي ترى أن سقوط دولة من دول جنوب شرق آسيا في أحضان الشيوعية ستؤدي إلى سقوط بقية الأنظمة، في تلك المنطقة. وقد اعتبر قتال الفيتناميين في هذه الحرب، هو من نوع الحرب بالوكالة لصالح السوفييت. وفي ذات الاتجاه، يرى كثير من المحليين أن الحروب العربية الإسرائيلية، هي أيضا حروب بالوكالة بين الأمريكيين والسوفييت.

مع سقوط جدار برلين، وانهيار الجهوريات الاشتراكية في شرق أوروبا، وتفتت الاتحاد السوفييتي، تربعت الولايات المتحدة على عرش الهيمنة الأمريكية. وكان عليها أن تعزز موقعها، بالاستعانة مجددا بنظرية القوة، كما صاغها كيسنجر في السبعينات من القرن المنصرم. على الولايات المتحدة أن تؤكد دائما حضورها وقوتها العسكرية، وليس هناك ما يستدعي أن تكتشف أمريكا وجود الخطر أو حتى تتوقعه لكي تندفع بقوتها العسكرية. تمثل القوة وتأكيدها أمام الجميع هو سبب كاف لشن الحرب. وقد واتتها فرصة حرب الخليج الثانية، لتؤكد هذا التمثل، بتأييد وإجماع دوليين. وكانت تلك هي نهاية النظام الدولي الذي ساد منذ نهاية الحرب الكونية، وبداية نظام دولي جديد قائم على الأحادية القطبية، الذي اعتبر حالة استثنائية في العلاقات الدولية، ولم يعمر أكثر من عقدين، حيث بدت تطل من جديد رياح حرب باردة جديدة، بين ممثلين جدد.

ما هي مؤشرات هذه الحرب؟ وما علاقتها بانبثاق نظام دولي جديد؟

*****

لم يعد موضع جدل أن النظام الدولي، الذي ارتبط بنهاية الحرب الباردة، بدأ مؤخرا في لفظ أنفاسه، وأن رياح حرب باردة جديدة تلوح بالأفق. ما هي مؤشرات بروز النظام الدولي الجديد؟ وما علاقة ذلك بعودة الحرب الباردة للمسرح الدولي؟ ذلك ما سوف نحاول مناقشته في هذا الحديث.

لن نأت بجديد، حين نذكر أن الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، بدأت في الإفصاح عن ذاتها بعد أزمة الرهن العقاري، بالولايات المتحدة الأمريكية. وقد تسببت هذه الأزمة في أن تصبح أمريكا أكبر دولة مثقلة بالديون على ظهر هذا الكوكب. وكان أن لحقت بها بشكل سريع، دول الاتحاد الأوروبي. في هذه الأزمة، بدت الصين قوة عظمى لا تضاهى من حيث النمو الكاسح لاقتصاداتها. وقد مكنها ذلك لأن تصبح أكبر دائن، وأكبر مالك لمخزون الذهب في العالم، وأيضا أكبر مقرض للمال للدول التي بحاجة للإقراض، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. ولاشك أن ذلك ساعدها في إثبات حضورها على المسرح الدولي.

من جهة أخرى، يؤكد ما هو متوفر من معطيات اقتصادية واجتماعية، خروج روسيا الاتحادية، من الهبوط العميق الذي عاشته إبان سقوط النموذج الشمولي للاشتراكية. وعودتها مجددا لاستخدام خطاب منافس ومتحد للسياسات الأمريكية. وقد فجرت هذه التطورات مشاعر عميقة بالانتماء القومي لدى الروس، الذين سادتهم مشاعر الخيبة بعد سقوط إمبراطوريتهم الكبرى، بتفتت الجمهوريات السوفييتية.

إن الصعود الكبير للاقتصاد الصيني، والتعافي السريع لروسيا، ونمو القدرات العلمية الهندية، والأزمة الاقتصادية التي مرت بها أمريكا ومعها دول الإتحاد الأوروبي، في السنوات الأخيرة، تشي بقرب نهاية النظام الدولي، الذي ساد خلال العشرين سنة الماضية، بعد انهيار الإتحاد السوفيتي وبروز ظاهرة “القطب الواحد”.

ذلك لا يعني، على أية حال، أن الدور القيادي للولايات المتحدة سوف ينتهي، ولن يستمر قويا في صياغة وتقرير السياسة الأممية، لكنه بحسب صامويل هانتنجتون، رغم كونه الأول، فإنه سيكون ضمن عالم متعدد الأقطاب. وسيكون دورا مختلفا، من حيث تسامحه وتوازنه، وقبوله بقانون الشراكة مع الأقطاب الأخرى في مجلس الأمن الدولي، بعد أن تأكد خلال العقدين الماضيين، من خلال الحروب التي شنتها الإدارة الأمريكية في العراق وأفغانستان، عجز القطب الأوحد بمفرده عن الحفاظ على الاستقرار العالمي.

رؤية الباحث الأمريكي، هانتنجتون، هذه ينبغي النظر لها بحذر، لأنها تنطلق من فرضية خاطئة، تفترض التفاهم والرضا بين القوى الكبرى، ومن متصور أن توازنات القوة، يمكن الاتفاق عليها فوق طاولات التفاوض، وليست انعكاسا لواقع القوة، كما هي على الأرض. فالواقع يشير إلى أن اللاعبين بالمسرح الدولي، هم أقرب إلى مصارعي ثيران، منهم إلى لاعبي كرة قدم. في الأخيرة، هناك قوانين واضحة للعبة، تقوم على وجود عدد متساو من اللاعبين، وتكافؤ في الفرص. والهدف من اللعبة ليس القضاء المبرم على الخصم، بل تحقيق الغلبة عليه. أما في مصارعة الثيران، فهناك قاتل وقتيل، الأول غالب والثاني مغلوب. وليس هناك مجال للتفاهم بين الفرقاء، سوى ذلك الذي فرضه واقع الرعب النووي على الجميع. إنه إذا صراع إرادات وتوازنات في القوة، وفي هذا الصراع، يتنازل الأضعف للأقوى، ليس عن رضا وطواعية، بل عن قسر وتقهقر، واعتراف بالهزيمة. ,إذا ما جرت التواقيع في قاعات مخملية، فإن خلف الستار، صور سريالية كثيفة معمدة بالدمار والدم، تعكس واقع الفجيعة.

وعلى هذا الأساس، قد يكون بإمكان الولايات المتحدة مواصلة دورها إلى حين، بلعب دور المركز في صياغة مجرى العلاقات الدولية، لكن ذلك لن يستمر طويلا. فهناك قوى جديدة تنشأ وهناك قوى أخرى قطعت شوطا طويلا، في مجال إثبات قوة حضورها. إن “منظمة شنغهاي للتعاون” التي تضم روسيا والصين والهند والبرازيل، وخلفهما دول أخرى في العالم الثالث، تسابق الزمن لتحقيق الندية والتكافؤ ليس مع الولايات المتحدة فحسب، بل ومعها الاتحاد الأوروبي مجتمعين، لتصل، في خط متواز ومتعادل، معهما في القوتين الاقتصادية والعسكرية، ولتبلغ في نهاية المطاف متسوى الحسم في قانون التنافس لصالحها.

ولكي نرسم صورة أكمل وأكثر وضوحا، لصراع الإرادات، ومستقبل السياسة الدولية نشير إلى برنامج الرئيس الروسي القادم فلاديمير بوتين الانتخابي، فيما يتعلق بإعادة الاعتبار للقوة العسكرية الروسية.

فقد كتب بوتين مؤخرا، بصحيفة “روسيسكايا غازيتا” في 20 فبراير 2012 مقالة أشار فيها إن القوات المسلحة الروسية ستجهز خلال العقد القادم بأكثر من 400 صاروخ باليستي حديث، تطلق من الأرض والغواصات، وبـ 8 غواصات صاروخية استراتيجية وحوالي 20 غواصة متعددة الأغراض، وأكثر من 50 سفينة حربية، ونحو 100 جهاز فضائي للأغراض العسكرية، وأكثر من 600 طائرة قتالية، بما في ذلك المقاتلات من الجيل الخامس، وما يزيد على ألف من المروحيات، و28 منظومة صاروخية مضادة للجو من طراز “اس – 400″، و38 منظومة صاروخية مضادة للجو من طراز “فيتياز”، و10 مجمعات صاروخية من طراز “اسكندر – أم”، وأكثر من 2300 دبابة حديثة، وحوالي 2000 من المدافع الآلية، إضافة لما يربو على 17 ألف قطعة من الآليات العسكرية”.

ويبرر بوتين، الهدف من هذه التجهيزات، بأنها استعداد لمواجهة قوى مدمرة، تعلن عن نفسها بشكل عدائي، في بعض أنحاء المعمورة. إن هذه القوى، تشكل خطرا على أمن جميع شعوب العالم. ويشير إلى الغرب تحديدا، باعتباره الممثل لهذه القوى، متهما دوله بأنها تعمل على تصدير أنموذجها في الحكم تحت شعار تصدير الديمقراطية، عن طريق القوة والأساليب والاستفزازات العسكرية. إن وجود هذه المخاطر، وتهديدها للأمن الروسي، يمنح وجاهة لإحياء “أسطول المحيط” الروسي. وذلك يشمل بناء القوات البحرية في الشمال والشرق الأقصى، لضمان مصالح البلاد في منطقة القطب الشمالي. إن التقدم العلمي والتقني في مختلف المجالات، وظهور أنواع جديدة من الأسلحة والمعدات العسكرية، وانتهاء بتكنولوجيا الاتصالات، أدى إلى تغيير نوعي في طبيعة الصراع. لذا وبالارتباط مع درجة التسليح الشامل للقوات بأسلحة بالغة الدقة، غير النووية وبعيدة المدى، فإنها تصبح سلاحا أساسيا لنصر حاسم على العدو، بما في ذلك النزاعات الشاملة.

في هذه الظروف لا يمكن لروسيا الاعتماد على الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية فقط لحل الأزمات.لا بد من تطوير الكفاءة العسكرية، في إطار استراتيجية الاحتواء وعلى مستوى الكفاءة الدفاعية المطلوبة.. وعلى القوات المسلحة والقوات الخاصة ووحدات الجيش أن تكون مستعدة للقيام برد سريع وفعال على التحديات الجديدة.. إنه شرط أساس لتشعر روسيا بالأمان ويأخذ شركاؤنا موقف بلادنا بعين الاعتبار في المنظمات الدولية المختلفة.

تلك بعض من مؤشرات الحرب الباردة الجديدة، التي سيخرج من رحمها النظام الدولي الجديد. وتبقى محاور أخرى بحاجة إلى الكثير من التحليل والتفصيل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

تسعة − أربعة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي