بعد مؤتمرها السادس: فتح إلى أين؟
بعد اثني عشر يوماً من الاجتماعات المتواصلة، بمدينة بيت لحم في الضفة الغربية، أعلن مساء يوم السبت المنصرم انتهاء أعمال المؤتمر السادس لحركة فتح، ومعه أعلنت نتائج انتخابات “المجلس الثوري للحركة”. واللافت للنظر هو فوز 70 عضواً جديداً، بين الـ 81 بمعنى أن أغلبية أعضاء المجلس الثوري الجديد يتبوءون هذا الموقع لأول مرة.
في هذا الحديث نحاول قراءة المتغيرات التي حدثت في حركة فتح، وموقعها في سياق سعي السلطة الفلسطينية، بزعامة “أبو مازن”، للدخول في المفاوضات النهائية مع الكيان الصهيوني، على قاعدة خارطة الطريق والمبادرة العربية. وفي هذا الاتجاه، وكمقدمة لهذه القراءة نسجل بعض الملاحظات.
إن حركة فتح بدأت نشاطها ضد العدو الصهيوني، من المنفى. وكان اللاجئون الفلسطينيون، في المخيمات بلبنان وسوريا والأردن هم عمودها الفقري. جاء تأسيس الحركة رداً على رؤية القوميين، التي سادت في حقبتي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، والتي ترى في الوحدة العربية شرطاً لازماً للتحرير. لقد انطلق القوميون من نظرة كلية للصراع الدائر بالوطن العربي بين القوى الخارجية وأبناء هذه الأمة، حيث الصراع في حقيقته مواجهة بين قوى تصبو إلى الحرية والاستقلال والانعتاق، وبين قوى أجنبية تحاول تكريس سيطرتها على الوطن العربي عن طريق الاحتلال والهيمنة واستنزاف الثروة.
من هذه الرؤية، نظر حملة الفكر القومي في الوجود الصهيوني على أرض فلسطين تحدياً مباشراً للأمة بأسرها. ولذلك فإن مسؤولية التحرير، مسؤولية عربية جماعية. إن خطورة التهديد الصهيوني للعرب لا تقل بأي شكل من الأشكال عن اغتصاب أرض فلسطين، خاصة أن جسما غريبا غرس خنجرا في القلب من الوطن العربي، ليكون عازلا بين مشرقه ومغربه، حائلا دون وحدة الأمة ونموها وتقدمها، ومهددا وجودها وأمنها. من هنا رأت حركة القومية العربية أن تحرير فلسطين سيتحقق في معمعان النضال الوحدوي.
رأى قادة فتح أن ربط قضية تحرير فلسطين بقضية الوحدة، هو تذويب للهوية الفلسطينية، وتأجيل للمواجهة مع الصهاينة إلى أجل غير محدود. إن ذلك سيكون هدرا للوقت وتضييعاً للفرص المتاحة أمام النضال الفلسطيني. وقد شكلت تلك الرؤية القاعدة الأيديولوجية لحركة فتح، حيث اقتصر التركيز في أدبيات الحركة الأولى ونشراتها على تثبيت الهوية للإنسان الفلسطيني، والاعتماد بالدرجة الأولى على الفلسطينيين في مشروع التحرير. وكان الاعتقاد لدى قادة فتح الأوائل أن الصراع في المنطقة ليس صراعاً عربياً – صهيونياً، بل صراع فلسطيني – “إسرائيلي”، وأن دور النظام العربي الرسمي فيه، هو دور ثانوي.
أكدت التطورات اللاحقة عدم دقة تحليل فتح، لعلاقة الأمة بالصراع مع الصهاينة. وكانت حقائق الصراع، قد صدمت بعنف مفردات تلك القراءة. فقد كان في السلم الأول من الحقائق أن البندقية انطلقت من المخيمات الفلسطينية بالوطن العربي. وكان على الحركة لكي تستمر أن تؤمن قواعد حماية في الخلف لعملياتها العسكرية ضد الكيان الغاصب، وذلك لن يتحقق في غياب التنسيق والتكامل بينها وبين النظام العربي الرسمي والجماهير العربية. وكانت تلك واحدة من المعضلات الكبيرة التي واجهتها الحركة في بداياتها، علاقات مشحونة ومتوترة دائما مع أجهزة الأمن العربية، في الأراضي التي تنطلق منها.
كان الموقف السياسي لدول المواجهة العربية: مصر وسوريا والأردن، هو الموجه دائما للحركة السياسية الفلسطينية. فتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، كان شعاراً استراتيجياً للنظام العربي الرسمي، كما هو بالنسبة للفلسطينيين في حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، إلى أن حدثت نكسة حزيران/يونيو عام ،1967 آنذاك أقر القادة العرب في قمتهم التي عقدت بالعاصمة السودانية الخرطوم تخويل مصر والأردن بالعمل على استرجاع الأراضي التي احتلتها “إسرائيل” في حرب حزيران/يونيو بكافة السبل، بما في ذلك الحلول السياسية. وقد حكمت تلك القرارات، بدايات رحلات العرب المكوكية نحو التوصل إلى حلول سلمية للصراع مع الصهاينة، ورفع شعار إزالة آثار العدوان بدلاً عن شعار التحرير التي استمر لعقدين كاملين، بعد اغتصاب الصهاينة لفلسطين.
منذ منتصف السبعينات عمت حالة نهوض شعبي عارم الضفة الغربية، وقطاع غزة، وانتقلت جاذبية الصراع مع الصهاينة من المخيمات الفلسطينية في الشتات إلى الأراضي التي احتلها الصهاينة عام ،1967 وقد ترك ذلك بصماته واضحة على مجرى النضال الفلسطيني.
فالفلسطينيون في المنافي، حين التحقوا بحركة فتح، كانوا يصبون إلى تحقيق حلمهم في تحرير فلسطين والعودة إلى ديارهم: دير ياسين ويافا وحيفا والناصرة، وبقية الأراضي التي تشكل الآن الكيان الغاصب، وهؤلاء يحلمون بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر. ويشكل هؤلاء العمود الفقري، لحرس فتح القديم. أما سكان الضفة الغربية، فكانوا يتطلعون بشكل مباشر إلى إزالة آثار العدوان الذي لحق بهم، جراء احتلال الكيان الصهيوني للضفة والقطاع. والفارق كبير بين المطلبين.
لقد انطلقت حركة فتح، كما قلنا من المخيمات بهدف التحرير الكامل لأرض فلسطين التاريخية، بما يفترض وجود استراتيجية بعيدة المدى لتحقيق هذا الهدف، ويومها كانت الضفة الغربية جزءاً من الأردن، وقطاع غزة جزء تابع للإدارة المصرية، ولم يكن هدف التحرير على قائمة أولوياتها. وحتى بعد احتلال الضفة والقطاع من قبل الصهاينة، كان الفلسطينيون بالأراضي المحتلة يعولون على قرارات مجلس الأمن والضغوط الدولية في تحرير أراضيهم، ويرون في رفع شعار التحرير الكامل لفلسطين، تأجيلاً لخلاصهم من الاحتلال.
كان الفلسطينيون في المنافي دائماً جزءاً من الواقع السياسي، في البلدان العربية التي يقيمون فيها. وقد أدى ذلك إلى ارتباط المنظمات الفلسطينية في الخارج، بشكل أو بآخر، بالنظام العربي الرسمي، ولذلك كان للتغيرات المستمرة في استراتيجيات النظام العربي تجاه الصراع مع الصهاينة تأثيراته المباشرة في استراتيجيات وبرامج حركة المقاومة الفلسطينية.
في هذا السياق، يمكننا الاستنتاج بأن أي انتقال رئيسي في استراتيجيات دول المواجهة، يتبعه بالضرورة انتقال آخر، في سياسات حركات المقاومة الفلسطينية، وفي المقدمة منها حركة فتح، الفصيل الأكبر والأكثر فاعلية وحضوراً، ضمن منظمات المقاومة، حتى قيام السلطة الفلسطينية في منتصف التسعينات.
الملاحظة الأخرى، هي أن انعقاد المؤتمرات الفلسطينية بشكل عام، وفي المقدمة منها حركة فتح، والفاصلة الزمنية بين المؤتمر والآخر، غير محكومة بلوائح أو قوانين، بل تحكمها الحاجة، وطبيعة اللحظة التاريخية. بالنسبة لحركة فتح، موضوع حديثنا هذا، شهدت الحركة، انعقاد ستة مؤتمرات، في مدة تجاوزت الخمسين عاماً. وقد عقدت المؤتمرات الثلاثة الأولى في الستينات: الأول عقد بالكويت عام ،1962 وثبت فيه الهيكل التنظيمي للحركة، ووزعت فيه مهمات القيادة، وعقد مؤتمر آخر في دمشق أواخر عام 1963 حيث ركزت على تأمين الدعم للحركة. وعقدت اجتماعات مكثفة بعد ذلك لإقرار موعد الانطلاقة أواخر ،1964 وتشير أدبيات فتح لتلك الاجتماعات باعتبارها المؤتمر العام الأول للحركة.
ومنذ ذلك الحين ارتبطت مؤتمرات فتح، بالأزمات التي مر بها الواقع العربي والفلسطيني. ففي 13 حزيران/يونيو عام ،1967 بعد أربعة أيام من الإعلان عن النكسة، عقد بدمشق مؤتمر حضره 35 كادراً أكد على أهمية مواصلة العمليات العسكرية ضد “إسرائيل”. وبعدها بأقل من عام عقدت فتح مؤتمرها الثاني بالزبداني قرب دمشق في تموز ،1968 وبرزت في المؤتمر الدعوة لإحياء إطار المجلس الثوري لمراقبة عمل اللجنة المركزية العليا، وتم في هذا المؤتمر انتخاب لجنة مركزية جديدة من 10 أعضاء.
وبعد أيلول الأسود، عقدت في أوائل أيلول/سبتمبر 1971 عقد المؤتمر العام الثالث لحركة ” فتح”، والذي التهبت فيه النقاشات حول أسباب الأحداث الدامية بالأردن والخروج منها. وجاء عقد المؤتمر الرابع، بالعاصمة السورية دمشق عام ،1980 في ظل ظروف متأزمة بعد تصاعد التهديدات الصهيونية بضرب البنية الأساسية لمنظمة التحرير في لبنان. وفي شهر آب/أغسطس ،1988 عقد المؤتمر العام الخامس لحركة فتح بالعاصمة التونسية، بحضور أكثر من 1000 عضو، وفيه وسعت اللجنة المركزية، وكان المقدمة لإعلان بيان الاستقلال الفلسطيني، والتطورات اللاحقة التي حدثت بعد ذلك وانتهت بتوقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993.
وهكذا فمؤتمرات فتح تعقد دائما تحت ضغط اللحظة التاريخية، وتشكل قراراتها محطة انتقال رئيسية في سياسة الحركة. وكانت النتائج للأسف، منذ منتصف السبعينات، حتى يومنا هذا تأتي على حساب سقف المطالب الفلسطينية المشروعة. فأين نضع المؤتمر السادس للحركة في هذا السياق، هذا ما سوف تركز عليه المناقشة في حديثنا القادم بإذن الله.