بعد عام على الحركات الاحتجاجية: غلبة الانتفاضة على الثورة

0 386

 

في لقاء جمعني مع بعض المثقفين المصريين، في مدينة القاهرة بعد أسابيع قليلة على تنحي الرئيس مبارك عن الحكم، دار الحديث حول التطورات التي كانت آنذاك لا تزال في بداياتها. وكان محور النقاش قد تركز على توصيف ما يجري من تحولات دراماتيكية في الوطن العربي. هل ما تشهده الأمة هو ثورة حقيقية؟،

أم أنها لحظة غضب على عجز النخب السياسية عن مقابلة استحقاقات الناس؟.

 

كان أخوتنا المصريون في قمة حماستهم، يسرفون في استخدام مصطلح الثورة، ولم يقبلوا لتوصيف ما جرى بمصر غير توصيف الثورة. ومن جانبي كنت حذرا في القبول به. لكن ذلك لا يقلل من حجم الحراك الشعبي الملحمي لأرض الكنانة. إن التعامل مع الثورة كمفهوم، هو موقف ابستمولوجي، لا يكفي في تحديده كثافة الاندفاع الشعبي، ولا الغليان والصخب الذي يصاحبه..

في المرحلة التي أعقبت سطوة الاستعمار الغربي على الوطن العربي، استخدمت الثورة في أدبيات الفكر العربي، بمعان مختلفة، ارتبطت في الغالب بالكفاح الملحمي ضد الاستعمار، بمعنى ارتباط المفهوم بالتحرر الوطني. وليس في ذلك ضير، طالما أصبح المفهوم واضحا للمتلقي. الثورة استخدمت أيضا، بمفهوم التحول في موازين القوى الاجتماعية. وتلك صفة طبعت الثورات الاجتماعية الكبرى في التاريخ الإنساني، وبشكل خاص ثورات فرنسا وانجلترا وروسيا والصين.

وحين نعود إلى الحركات الاحتجاجية الشعبية، التي شهدها الوطن العربي قبل عام من هذا التاريخ، ولا تزال أحداثها تتداعى حتى يومنا هذا، فيمكن القبول مجازا بتوصيفها بالثورة، بمعنى كسر حواجز الخوف، وعبور برزخ القنوط واليأس، وذلك ما لا جدال حوله. أما أنها تعنى كنس الترسبات الراكدة، وتحقيق تحولات اجتماعية كبرى في الواقع العربي، فذلك ما لا يزال في خانة التمنيات. ولا يوجد لدينا ما يشي بوجود برامج عملية لتحقيقه.

لقد حدث الحراك الشعبي، في البلدان العربية، التي شملها “الربيع العربي” بشكل اتسم بالطابع العفوي، ومن دون مضامين سياسية أو اجتماعية لهذا الحراك. ولذلك كان من الطبيعي أن تغيب البرامج السياسية، كما غابت هوية القوى الاجتماعية التي تصدرتها. وتلك طبيعة أي حراك شعبي عفوي.

ارتبط الحراك الملحمي في تونس بحادثة الشهيد البوعزيزي, وقد حدثت الانتفاضة التونسية، بعد تجريف منهجي للحركة السياسية الوطنية, من قبل النظام السابق. وتزامن هذا التجريف بإلغاء متعمد للطبقة المتوسطة، مبدعة الفكر وصانعة التغيير في المجتمعات الإنسانية. جاء الإلغاء في صيغ عدة، تركزت في إلحاق كتل يعتد بها، من المثقفين بالنظام البائد، وبصفقاته الاحتيالية، وربطها بشبكات الفساد. وكان إفقار هذه الطبقة وإخراجها من موقعها الاقتصادي هو الوسيلة الأخرى في الإلغاء.

أما البقية الباقية من هذه الطبقة، فقد وجدت في الإسلام السياسي ضالتها، وبشكل خاص في حركة النهضة، الوجه الآخر للإخوان المسلمين. وبسبب تقاطع الطروحات والمصالح بينها وبين مالكي القوة والثورة، فإنها لم تتعرض للتضييق الاقتصادي وشحة التمويل، بل على النقيض من ذلك تماما. وقد ساعدها ذلك، وقوة حضورها في المؤسسات والجمعيات الدينية والمساجد، على تعزيز مواقعها وبناء هياكلها، وهيأ لها شروط الانتشار، بكل مقوماتها. وقد مكنها الطابع العفوي للثورات الشعبية، من اقتناص لحظة التحول، والتقدم إلى الأمام، وقطف ثمرة تضحيات الجماهير. ولم تكن أوضاع حركة الإخوان المسلمين في مصر وبقية الأقطار العربية التي شهدت اندلاع الحركة الاحتجاجية الشعبية لتختلف عن نظيرتها في تونس.

هناك أيضا الخشية من أن تستثمر هذه الانتفاضات، والمناخ العام الذي تفرزه، في تحقيق اختراقات خارجية لتفتيت الكيانات الوطنية. فلم يعد سرا أن هناك مشاريع وخرائط معدة لتفتيت المنطقة. وأقصر الطرق لتحقيق ذلك، هو استثمار حالة الفوضى والانفلات الأمني التي ارتبطت بالحركات الاحتجاجية وسقوط رموز الأنظمة في بعض البلدان، بفعل هذه الحركات، هو تسعير الصراعات الطائفية والمناطقية، وبعث الهويات الاثنية.

لقد بدأ التلميح بمشاريع التفتيت منذ منتصف السبعينيات من القرن المنصرم. وخلال مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط أعاد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جيمس بيكر التأكيد عليها، بالحديث عن شرق أوسط كبير، يكون بديلا عن النظام العربي، الذي ساد منذ منتصف الأربعينيات من القرن الماضي.

وأثناء ذلك بدأت تسريبات أمريكية، لخرائط واستراتيجيات لشكل الشرق الأوسط المرتقب. كما أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز كتابا أوضح فيه تصوراته للشرق الأوسط الذي سيكون بديلا عن النظام العربي الرسمي. وجاءت محتويات الكتاب متماهية مع المشروع الكوني الذي تحدث عنه وزير الخارجية الأمريكي، بيكر في مؤتمر مدريد.

كان الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، ومبنى البنتاجون في واشنطون، عام 2001م، وإعلان الرئيس بوش، الحرب على الإرهاب، فرصة ملائمة لنقل المشروع من التنظير إلى التنفيذ. وكانت بوابة ذلك هي احتلال العراق عام 2003م، والعملية السياسية التي هندس لها السفير الأمريكي، بول برايمرز والقائمة على القسمة بين الإثنيات والطوائف، وإعادة تركيب المدن بالتهجير المتبادل بين الطوائف، لتؤكد دخول المشروع الكوني الأمريكي، مرحلة جديدة، بمصادرة الكيانات القطرية، وتدمير مكوناتها الوطنية، وهوياتها، التي تستمد منها حضورها التاريخي، ومقاوماتها للتغريب.

وبسبب التغير في توازنات القوى الدولية لم يعد بالإمكان تكرار السيناريو العراقي، فكان لا بد من اقتناص لحظة التحول الشعبي العربي، لحرفها عن توجهها، والمضي في تحقيق المشروع الكوني الأمريكي. ذلك لا يعني تجريم للذين اندفعوا في تيار الحراك العشبي. فالعوامل الموضوعية التي أدت إلى اشتعال الانتفاضات كامنة في رحم الأوضاع البائسة. وما نريد تأكيده هو أن هناك اقتناص غربي وتوجيه للأحداث. وذلك ما يفسر كيف برز الإسلام السياسي في معظم البلدان العربية، التي طالها هذا “الربيع” في مجتمعات فسيفسائية، تضم طوائف وأديان مختلفة. يتزامن ذلك مع فوضى المطالبات بالفيدراليات وحقوق الأقليات الدينية والإثنية، وأنواع أخرى من الفوضى، تعيد إلى الذاكرة تعابير الفوضى الخلاقة.

لكن الدعوة هذه، لأخذ الحيطة والحذر، لا تلغي الثقة في أن التاريخ لا يعيد نفسه. فأوضاع الأمة العربية رغم كل ما يعتريها من ضعف وفوضى، تحمل في رحمها بداية انبعاث جديد، يمكن أن نلحظ معالمه في مواصلة الشعوب العربية لحراكها الشعبي، بما يؤكد استحالة إيقاف عقارب الساعة. والأمل كبير في أن تستعيد القوى القومية عافيتها، وأن تقوم بمراجعة نقدية لاستراتيجياتها ومساراتها، وأن يبزع من ركام التداعي والمعاناة عروبة جديدة، تحافظ على الهوية، وتتماهى مع التحولات الكونية التي تجري من حولها، ويكون فعلها خلقا وإبداعا وعطاء وعلما.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

عشرين − 11 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي