بعد عامين على زلزال سبتمبر العالم ليس أكثر أمنا
قبل عامين، حين حدث زلزال الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، سادت مختلف دول العالم موجة استنكار وغضب ضد منفذي عمليات التفجير والقوى التي تقف من خلفهم. وكان هناك تعاطف واسع مع الضحايا الذين سقطوا صرعى جراء تفجير الطائرات التي عصفت ببرجي مركز التجارة الدولي في نيويورك وجزء كبير من مبنى البنتاغون في العاصمة الأمريكية، واشنطون.
وبالنسبة لكثير من النخب العربية، سادت حالة من الإرباك حول ما جرى. فمن جهة، كان هناك احتقان وغضب من السياسة الأمريكية التي وقفت باستمرار ضد أماني وتطلعات أمتنا في التحرر والإنعتاق، وبشكل خاص الموقف الأمريكي الداعم للكيان الصهيوني، والرافض الإعتراف بحق الشعب الفلسطيني في العودة إلى دياره وبناء دولته المستقلة فوق ترابه الوطني. ومن جهة أخرى، كان هناك الموقف الأخلاقي الذي يرفض بشدة أن يكون التصدي للسياسات الظالمة للإدارة الأمريكية بالطريقة الشنيعة التي أخذت مكانها، والتي ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء، الذين ساقتهم أقدارهم للتواجد على متن الطائرات المدنية المخطوفة، أو في برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، أو حتى في مبنى البنتاغون بواشنطون. لكن ذلك الإرباك لم يمنع أصواتا كثيرة من الوقوف بحزم وموضوعية تجاه رفض عمليات التفجير التي أودت بأرواح بشر لا ناقة لهم ولا جمل في أسباب تلك الحوادث، سوى حظهم العاثر الذي ساقهم إلى المصير المرعب. وقد استطاعت تلك الأصوات أن تميز بواقعية بين الموقف السياسي والموقف الأخلاقي، منطلقة من القاعدة المأثورة بأن الغايات، مهما تكن نبيلة، لا تبرر الوسائل.
اللافت في القضية، هو أن الإدارة الأمريكية منذ اللحظة الأولى لوقوع الزلزال، ودونما تريث وانتظار حتى للنتائج الأولية للتحقيق، قد قررت أن تنظيم القاعدة يقف وراء تنفيذ تلك العمليات. وربما كان ذلك ضروريا بالنسبة لإعادة التوازن النفسي للشعب الأمريكي، الذي ثكل في عدد لا يستهان به من أبنائه، لكن الطريقة المسرحية التي تم بها العرض، وما صاحبها من صخب وحملة تصعيد شعواء، مشبعة بالحقد والكراهية تجاه العرب والمسلمين قد خلقت شعورا واسعا عند عامة الناس وفي كل المستويات، بأن هناك قوى خفية داخل الولايات المتحدة الأمريكية تريد استثمار تلك الحوادث من أجل تصفية حسابات مع الأمة العربية، ومن أجل تنفيذ مخططات مشبوهة بهدف تحقيق المزيد من التشرذم والتشظي في الواقع العربي، الذي يئن أصلا تحت واقعه المأزوم.
وفي الوقت الذي كان الجميع يتوقع أن تقوم الإدارة الأمريكية بتركيز ما أطلقت عليه بالحرب على الإرهاب، وذلك بالتركيز على الخلايا والتنظيمات التي نفذت زلزال سبتمبر، رأيناها، ومنذ الأيام الأولى، تحرف تلك الحرب عن أهدافها عن نية وتصميم، فيعلن الرئيس الأمريكي، جورج بوش حربا على ما أطلق عليه بالحرب على محور الشر المكون من العراق وإيران وكوريا الشمالية، في حين كانت قواته المسلحة تعد العدة للهجوم على خرائب وأطلال أفغانستان، لتضيف إلى مأساة الشعب الأفعاني المسلم، المتكوى بنار الفقر والجوع والخراب، نار أخرى، أكثر شراسة وتدميرا.
والواقع أن الطريقة التي نفذت بها الإدارة الأمريكية حربها على ما تدعوه بالإرهاب، والمتمثلة في الحرب على أفغانستان ومن ثم الأحتلال العسكري للعراق ومصادرة دولته كيانا وتاريخا وحضارة، والدعم اللامحدود من قبل إدارة الرئيس بوش لسياسات مجرم الحرب، أرييل شارون، واحتضان سياسة الإغتيال للقيادات الفلسطينية والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني ووضع حركة المقاومة في فلسطين ولبنان بالسجل الأمريكي لمنظمات الإرهاب، والحملة الإعلامية الضارية بحق المملكة العربية السعودية، وتجاه سياساتها الداعمة للمنظمات الفلسطينية، والتهديد المستمر لسوريا ولبنان وإيران، كل ذلك قد فسح المجال للظن بأن هناك قوى خلفية تعمل في الظلام، وبالضد من مصلحة الأمة العربية، وأن ممارسات تلك القوى قد فتحت الطريق لمارد اليمين الأمريكي، كي يكشر عن أنيابه وينقض ليس فقط على هياكل ومؤسسات الأمة، بل وعلى تراثها ودينها وثوابتها الوطنية والقومية. ويبقى السؤال قائما عن فرضيات وفرضيات برزت في دراسات ووثائق، لعل أبرزها كتاب الخدعة المرعبة للكاتب الفرنسي نيسان.
ولعل من حق العرب، وهم لا يزالوان يعيشون عملية البحث المضني عن الهوية والحقوق، والوضع المناسب الذي يجعل منهم بشرا جديرين في أخذ مكانهم اللائق في المسيرة الإنسانية، وصناعة مستقبل واعد يضمن لهم في حده الأدنى حقوق العيش الكريم الأساسية أن يتساءلوا عما جرى ويجرى الآن على أرضهم، وهل ِأن ما يجري حقا هو حرب على الإرهاب، أم أنه مصادرة لحقوق الأمة ولهويتها الثقافية والحضارية، وتعد صارخ على كرامتها ومستقبلها، يتم تحت شعار هذه الحرب، ويكون من ضحاياه أطفال وشيوخ ونساء فلسطين والعراق، وعمل في الجانب الآخر، على إدخالنا في نفق مظلم، نحرم فيه من صياغة مستقبلنا، من خلال الإستئصال المنظم والمستمر لخيرة القيادات العربية، والتدمير المنهجي للبنى التحتية ومكونات النسيج الإجتماعي.
لقد تم تدمير منظم للقيادات الوطنية الفلسطينية ذهب ضحيته عشرات المناضلين الفلسطينيين، اللذين اختفوا من المسرح إما بالإغتيال أو بالإعتقال، وقمعت الإنتفاضة الفلسطينية الباسلة دون رحمة، وجرى هدم البيوت ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، وسويت مخيمات بكاملها، كمخيم جنين، بالأرض. ومع أن الفلسطينيين قد قبلوا بالمبادرة العربية التي تبناها مؤتمر قمة بيروت، كما قبلوا بالمبادرة الأمريكية التي عرفت بخارطة الطريق، والتزموا بتنفيذ الهدنة مع الإسرائيليين، على أمل أن تبدأ المفاوضات السياسية المتعلقة بشكل وحدود الدولة الفلسطينية المرتقبة، ووضع مدينة القدس، وقضية العودة بالنسبة للاجئين الفلسطينين، فإن الكيان الصهيوني لم يلتزم بأي من الوعود التي التزم بها كشرط للمضي قدما في تنفيذ خارطة الطريق، وقد قوبل هذا التصرف من قبل الأمريكان باللامبالاة وعدم الإكتراث.
وفي العراق، جرى تقسيم الحصص السياسية في المجلس الإنتقالي على أسساس طائفية واثنية، وهو أمر ليست له سابقة في التاريخ العراقي. ولا زالت قوات الإحتلال عاجزة، ولا تملك النية أو القدرة على إعادة الأمن والإستقرار لهذا البلد المخذول والجريح. والذي سرق منه تراثه وتاريخه ودولته وهويته، وأعيد إلى مرحلة لم يعدها حتى في الفترة التي وقفت فيها أقدام هولاكو والتتار على أرضه.
ولن يجادل أي شخص بأن السياسات الأمريكية، التي وعدتنا بشراكة شرق أوسطية، حينا وشراكة ديموقراطية في الحين الأخر، قد أدت إلى تسعير حالة الإحتقان في العالمين العربي والإسلامي، وأن حالة العنف قد انتقلت إلى بلدان في أفريقيا وآسيا، فهي الآن في البلدان العربية موجودة في كثير من الأقطار، وبضمنها بلادنا، كما هي موجودة في أندونيسيا وباكستان وكينيا والفلبين.. والقائمة طويلة.
وبدلا من التركيز على الأسباب التي أدت إلى حالة الإحتقان، يجري البحث عن أسباب أخرى واهية كثقافة التعصب والتشجيع على الكراهية، وكأن تاريخنا وثقافتنا الإسلامية قد بدأت هذا اليوم… نعم على الصعيد العملي والوطني، يجب أن تسود ثقافة التسامح، وأن يكون هناك فسحة لكل التيارات الدينية والمذاهب الإسلامية، والأطياف الإجتماعية أن تمارس دورها في أجواء من الحرية والتقدير، فذلك هو مدخلنا الوحيد للتعايش مع روح العصر، والأخذ بناصية العلم، ولكن أن تحمل الثقافة الإسلامية، وزر وآثام ليست لها علاقة بها، فليس لذلك معنى سوى الوقيعة ومحاولة خلق الفتنة، وذلك ما يجب أن يقف كل مواطن غيور وشريف في وجهه.
لا نزال أكثر بعدا عن الشراكة الديموقراطية التي وعدنا بها وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول، ولا يزال الجرح مستمرا في نزفه، عزاؤنا أن المقاوم الفلسطيني والعراقي لم تضل بوصلته، وعزاؤنا أيضا أن في أعماقنا بقية من إباء وكرامة.. ومن المؤكد أن العالم بعد عامين على زلزال سبتمبر وبدء الرئيس الأمريكي جورج بوش حربه على “الإرهاب” ليس أكثر أمنا.
ــــــــــــــــــــــ
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2003-09-17