بعد خمسة عشر عاما من اتفاقية أوسلو: مبادرات السلام إلى أين؟!

0 186

في الثالث عشر من سبتمبر عام 1993، وفي العاصمة الأمريكية واشنطون، وبحضور الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون جرى توقيع اتفاقية أوسلو، بين منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بأمين سر اللجنة التنفيذية آنذاك، السيد محمود عباس والكيان الصهيوني، ممثلا بوزير خارجيته، شمعون بيريز. وقد اعترفت المنظمة بموجب تلك الاتفاقية بالكيان الغاصب، مقابل موافقة الصهاينة على قيام سلطة فلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة، سميت بسلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية. وكانت الاتفاقية قد استمدت عنوانها من مدينة أوسلو النرويجية التي جرت فيها المفاوضات السرية بين الطرفين: الفلسطيني والإسرائيلي.

 

لقد كان الاتفاق في أساسه أحد ثمرات تداعيات حرب الخليج الثانية، عام 1990، ووعود جورج بوش الأب بإيجاد تسوية للصراع بـ “الشرق الأوسط”. وكانت المقدمة لذلك الاتفاق هي انعقاد مؤتمر مدريد، الذي وافقت فيه الوفود العربية، بضغط من الوسيط الأمريكي على فصل المسارات العربية، بعضها عن بعض.

 

خلال مفاوضات مؤتمر مدريد، تمسك المندوبون الفلسطينيون ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية، رغم كونهم جزءا من الوفد الأردني وحضروا باعتبارهم شخصيات مستقلة لا تتحدث باسم المنظمة. وكان للراحلين الكبيرين، الدكتور حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني دور لا يستهان به في تصليب الموقف الفلسطيني في تلك المفاوضات، والتنسيق مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بالعاصمة التونسية.

 

كان توقيع اتفاق أوسلو، هو أول اعتراف فلسطيني علني رسمي بالتخلي عن تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، كما كان انتقالا نوعيا في أهداف واستراتيجيات منظمة التحرير الفلسطينية، التي أقرها الميثاق الوطني الفلسطيني، من الكفاح المسلح إلى الوسائل السياسية، ومن التحرير الكامل لفلسطين، إلى القبول بوجود دويلة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.

 

ورغم أن الاتفاقية المذكورة نصت على استمرار المفاوضات، على مراحل، حتى الوصول إلى مفاوضات الحل النهائي، وإعلان قيام الدولة الفلسطينية في موعد أقصاه عام 2000، فإن إعلان قيام هذه الدولة لا يزال حلما بعيدا. إنه اليوم أبعد ما يكون عن التحقق، بسبب غياب البرنامج السياسي المستند على الإرادة والإبداع والمبادرة، والتمسك بالثوابت الوطنية، وأيضا بسبب غياب وحدة قوى الممانعة، ونتيجة لتغليب لغة التخوين والاحتراب، ووجود سلطتين فلسطينيتين، إحداهما في الضفة، بقيادة حركة فتح، والأخرى بالقطاع بقيادة حركة حماس.

 

ورغم وضوح لغة التسويف والخداع والمماطلة التي يمارسها الكيان الصهيوني، تجاه تلبية القليل من الاستحقاقات الفلسطينية، التي نصت عليها اتفاقية أوسلو، لم تتراجع السلطة الفلسطينية عن نهجها بل واصلت توجهاتها فيما عرف باستراتيجية “هجوم السلام”، تحت ذريعة أن أي تراجع عن المفاوضات مع الصهاينة، سوف يجرد الفلسطينيين من المكاسب التي حققوها خلال الفترات السابقة.

 

وهكذا استمر التعايش مع الوهم، واستمرت معه محاولات التوصل إلى حل مقبول للصراع، في مفاوضات ماراثونية، كانت تأخذ دائما من حصة الفلسطينيين، ووقعت عدة اتفاقيات جزئية في القاهرة وشرم الشيخ وواي ريفر لم ينفذ الإسرائيليون منها أي بند.

 

لم يتردد الصهاينة في استثمار الوقت لتنفيذ مخططاتهم التوسعية، من خلال بناء المزيد من المستوطنات الإسرائيلية بالأراضي الفلسطينية التي جرى احتلالها عام 1967. وكانت النتيجة هي تقلص الأراضي التي كان من المفترض قيام السلطة الفلسطينية فوق مساحاتها. وعلى أرض الواقع، لم تتمكن السلطة الفلسطينية من فرض سيطرتها، حتى ضمن الأراضي التي نصت اتفاقيات أوسلو على وضع إدارتها ضمن صلاحياتها. وبدلا عن ذلك، بلغت الدبابات الإسرائيلية تخوم المقاطعة في مدينة رام الله، عاصمة السلطة. وانتهى الأمر بمحاصرة الرئيس الفلسطيني الراحل، السيد ياسر عرفات، واغتيال عدد من زعماء المقاومة الفلسطينية، كما هو الحال مع الشهيد أبو علي مصطفى والشيخ الشهيد أحمد ياسين، و الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، واعتقال لزعماء آخرين، كأحمد سعدات ومروان برغوثي، ولا يزال الحبل على الغارب.

 

لقد تحولت الوعود بالحرية وبالدولة المستقلة إلى كوابيس وجدران ومعازل. وكان ذلك أمرا بديهيا ونتاجا لواقع موضوعي في ظل غياب توازن القوة، وعدم التكافؤ بين الفرقاء المعنيين بالتفاوض، خاصة بعد أن تخلى الجانب الفلسطيني عن خيار المقاومة، وقبل بنزع سلاحه، ولم يعد يملك أية أوراق ضاغطة لفرض شروطه فيما يتعلق بعروبة القدس وحق العودة وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.

 

بعد خمسة عشر عاما على توقيع إتفاق أوسلو، نلاحظ تزايد العربدة الإسرائيلية، وتضاعف الأطماع التوسعية للحركة الصهيونية. ولعل خير مثال على استعار النهج التوسعي العنصري الصهيوني هو انعقاد المؤتمر الأول للصهيونية المسيحية بسويسرا الذي يطالب بانتقال جميع يهود العالم إلى فلسطين، ودعوة التيار اليميني بحزب الليكود، بزعامة بنيامين نتنياهو للكنيست “الإسرائيلي” لعقد جلسة وصفت بـ “المهمة” دون حضور رئيس الحكومة، إيهود أولمرت للمطالبة بوقف أي تفاوض “إسرائيلي” حول الحل النهائي بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية، ووقف أي تفاوض مع سوريا حول الجولان، لتعارض ذلك مع “المصالح الوطنية الإسرائيلية”.

 

لقد أصبح واضحا لكل ذي بصيرة أن الهدف الإسرائيلي هو الإجهاز، وبشكل نهائي، على ما يدعى ب”عملية السلام” انطلاقاً من قناعة الصهاينة بأنه لا يوجد ما يجبرهم على تقديم أي تنازل للقيادة الفلسطينية وللزعماء العرب المعنيين مباشرة بالصراع، طالما أصبح بالإمكان فرض الأجندة الإسرائيلية عليهم دون مقابل. إن البديل عن ذلك من وجهة نظر المؤتمر الأول للصهيونية المسيحية، وحسب نص إعلانه النهائي هو “تشجيع هجرة جميع يهود العالم إلى الدولة العبرية التي يجب أن تتوسع حدودها لتشمل “إسرائيل التوراتية”. إن تجمع كل يهود العالم في أرض “الميعاد” هو الشرط الموضوعي لتحقيق نبوءة “عودة السيد المسيح” وفقا لآخر عهد ليوحنا اللاهوتي. إنها استمرارية لشعار “أرضكم يابني صهيون من النيل إلى الفرات”، وهي بالتأكيد الجسر الذي يربط بين الصهيونية المعاصرة، وبين الرؤية العنصرية والتوسعية التي عبر عنها المؤتمر التأسيسي الأول الصهيونية العالمية الذي عقد في مدينة بازل في نهاية القرن التاسع عشر تحت رئاسة تيودور هرتزل. وهل صدفة أن تكون سويسرا حاضنة للمؤتمر التأسيسي الأول للصهيونية العالمية، وأن تكون مرة أخرى، حاضنة للمؤتمر التأسيسي للصهيونية المسيحية، أم أن ذلك استعادة للموروث الصهيوني القديم في الاستيلاء الكامل على أرض فلسطين، وتثبيت لمنطلقاته.

 

الآن وبعد مرور خمسة عشرة عاماً على توقيع اتفاقية أوسلو، يتراجع الفلسطينيون إلى الخلف عن المربع الأول، حيث بداية نضالهم، ويقضم الصهاينة معظم أراضي الصفة والقطاع، ولا يتبقى من أراضي الدولة الموعودة سوى القليل القليل الذي لا يتجاوز الـ 45% من الأراضي الفلسطينية التي احتلها الصهاينة في عدوانهم عام 1967م، والتي هي بحكم القانون الدولي وشرعة الأمم وميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن أراض محتلة.

 

لقد تنازلت القيادات الفلسطينية عن أوراق مهمة وقوية، وفوتت على نفسها فرصة استثمارها على طاولة التفاوض، وأهم تلك الأوراق، التمسك بالبندقية وعدم الاعتراف للعدو بمشروعية اغتصابه لأرض فلسطين، ورفض التخلي عن مبدأ المقاومة بكافة أشكالها. وكانت نتيجة ذلك إنشاء سلطة فلسطينية هشة، مجردة من جميع عناصر القوة، وتجزئة القضية الفلسطينية وتقسيم الأرض إلى مناطق ا ب ج، وتقطيع أوصال الشعب الفلسطيني، عن طريق الفصل بين المدن والبلدات والقرى الفلسطينية، وغياب الارتباط الجغرافي بينها، وتراجع الحلم الفلسطيني في الحرية والسيادة وحق تقرير المصير. كما هيأت تلك الاتفاقية الأرضية للانقسام الداخلي، وقيام كيانين هزيلين في الضفة والقطاع، وأضعفت الصلة النضالية بين الفلسطينيين في المخيمات خارج فلسطين، في لبنان وسوريا والأردن، والفلسطينيين في الداخل، مما أضعف من وحدة الشعب وأسهم في تراجع قضيته أمام الرأي العام العالمي، وفي المحافل الدولية.

 

فهل حان الوقت لمراجعة تلك الاتفاقية، وإعادة تقييمها، والخروج بمبادرة شجاعة تعيد للفلسطينيين وحدتهم، وتؤكد تمسكهم بالثوابت الوطنية، وفي المقدمة منها عروبة القدس، وحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم؟!.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

20 + 10 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي