بعد أسر الرئيس العراقي صدام حسين، المنطقة إلى أين؟
بعد أكثر من مرور ثمانية أشهر على سقوط العاصمة العراقية بغداد في التاسع من نيسان/ أبريل من هذا العام من قبل قوات الاحتلال الأمريكي، وبعد مواجهات وملاحقات طويلة ومريرة كلفت المحتلين مئات القتلى، تمكن الأمريكيون، في ظروف غامضة لم تتضح ملامحها بعد، من أسر الرئيس العراقي صدام حسين، ليسدل الستار على مرحلة تاريخية، كانت أبرز خصوصياتها قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، لإدارة المجتمع والدولة في العراق الشقيق، ولتبدأ مرحلة تاريخية جديدة، سوف تتضح ملامحها من خلال ما سوف يجرى على أرض الواقع من مقاومة وكر وفر، وليس من خلال ما ترسمه استراتيجيات غطرسة القوة وجبروتها.
فما هي ملامح هذا الواقع؟ وما هي تأثيراته على الأوضاع في المنطقة بشكل خاص، ومجريات الأحداث العالمية والسياسة العالمية بشكل عام.
وابتداء يقتضي التنويه، قبل محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، إلى أن الزوبعة الإعلامية والتطبيل الذي مارسته معظم الفضائيات وأجهزة الإعلام العربية، والصخب الذي تزامن مع عملية الأسر ينبغي أن لا يغيب الموقف الأخلاقي والقانوني، والمواثيق، والهيئات الدولية، بما في ذلك مجلس الأمن الدولي الذي صوت ضد الموقف الأمريكي من العدوان، وجامعة الدول العربية التي عبرت عن موقف واضح، وبقرار من مؤتمر القمة العربي في بيروت، قبيل شن الحرب الأمريكية، بأن العدوان على العراق ليس له أي مبرر، وأنه مخالف للأعراف الدولية، وأن القادة العرب ملتزمون بمعاهدة الدفاع العربي المشترك وميثاق الأمن القومي العربي. لقد صوت العالم بأسره، ضد مشروع الاحتلال الأمريكي للعراق، واعتبره خرقا وعدوانا على الشرعية الدولية، ولم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية، رغم الضغوط القوية التي مارستها، من تسويق ذرائعها في مجلس الأمن. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن أسر الرئيس العراقي صدام حسين، أيا كان الموقف من ممارسات حكمه وسياساته، هو أحد نتائج العدوان الأمريكي الغاشم على شعب العراق الذي رفض وأدين دوليا وعربيا ومحليا، وهو على هذا الأساس مبني على مقدمات مرفوضة، وينسحب عليه ما ينسحب على مقدماته، وما بني على باطل فهو باطل.
إن التأكيد على هذه المسألة هو أمر في غاية الأهمية، بالنسبة لمحاولتنا الإجابة على الأسئلة التي أثرناها في صدر هذا الحديث، إذ أن تطور الأوضاع بالمنطقة سيكون مرتبط إلى حد كبير بالأوضاع التي تتحقق على الأرض، والتي تكتسب شرعيتها، في جانب كبير، من موقف أخلاقي وقانوني، يساهم في الإنحياز إلى موقف الشعب المقاوم للاحتلال والرافض لفكرة الاستسلام للأمر الواقع. فما سوف يأخذ مكانه، سواء كان سلبا أم إيجابيا، سيرتبط إلى حد كبير بموقف الشعب المحتل ومستوى إرادته وصلابته وقدرته على المقاومة والتصدي من جهة، والموقف العربي الشعبي الرافد للمقاومة العراقية من جهة أخرى.
هكذا فإن الإجابة على الأسئلة، محور هذا الحديث، كي لا تكون من نوع الرجم بالغيب، فإنها يجبب أن تستند على استقراء ما هو متوفر من معلومات الآن على أرض الواقع. ومن خلال قراءة هذه المعلومات وتفكيكها، يمكننا أن نتنبأ باحتمالات المستقبل والتهيؤ له وتوفير مستلزماته.
ومن المؤكد أن الحقائق التي أمامنا تشير إلى أنه خلافا لتوقعات المحتل والتابعين الذين وصلوا إلى العراق على ظهر دباباته، لم يتقبل الشعب العراقي العظيم فكرة الاحتلال، ولم تنطل عليه ادعاءات الغزاة بأنهم جاءوا إلى العراق مخلصين ومحررين. بل وجد في ذلك امتهانا له ولتاريخه، واستهجانا به، فهذا الشعب الذي علم الإنسانية الحرف، والذي خرجت من رحمه قوانين حمورابي، وفكرة الأبدية لا يمكن أن يقبل بتلق الديموقراطية ومبادئ الحرية من أولئك الذين شيدوا عصرهم على ركام الجماجم وحملات الإبادة التي ذهب ضحية لها أكثر من مئة مليون من السكان الأصليين في القارتين الأمريكيتين. وكان أن بدأت المقاومة للغزاة منذ الأسبوع الأول لسقوط بغداد، مستمرة في خط بياني متصاعد حتى بلغت أوجها مع نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم، ملحقة في صفوف المحتل آلاف الإصابات بين قتلى وجرحى.
يمعن المحتل في امتهانه واستهجانه للشعب، ويختزل تضحياته في الولاء لفرد هو صدام حسين، وينسب معظم عمليات المقاومة لما أطلق عليه بفلول صدام، ويتحول كل الشعب في الفلوجة والرمادي وهيت وبلد والموصل وكركوك وسامراء وتكريت والبصرة والناصرية والحلة إلى “فلول لصدام”، والمستعمر في تكراره لهذه المعزوفة يضع نفسه في تناقض حاد، بين توصيف النظام السياسي الذي كان قائما حتى سقوط بغداد بالديكتاتورية والفاشية والاستبداد والعزلة عن الشعب وبين اعتباره الآلاف من الرجال البواسل، الذين يتصدون له ولأرتاله ودباباته ومروحياته ومعداته ويلحقون به الخسائر الفادحة، بأنهم مجرد أتباع للرئيس السابق.
لكن عذر المستعمر في ذلك أنه لا يعي المخزون الثقافي والنفسي والحضاري لهذا الشعب. إنه لا يدرك أن ما تراكم في النفسية والموروث العراقي، لآلاف السنين، يجعل القبول بفكرة الإحتلال نوعا من التابو، وأن مواجهة الاستعمار والتصدي له هي من اليقين الراسخ في الذات العراقية حد الإطلاق.
ونكاد نجادل في هذا الصدد، أن المقاومين بعد أسر الرئيس العراقي صدام حسين سيقطعون أشواطا كبيرة وواسعة على صعيد التصدي لقوات الإحتلال الأمريكي لبلادهم. فهم أولا قد تخلصوا من فكرة “الفزاعة” وتهمة التبعية والولاء للفرد، وأصبح واضحا بما لا يقبل الشك أو الجدل أنهم لا يدافعون عن نظام سياسي تهاوى تحت سبائك الدبابات الفتاكة، وقاذفات اليورانيوم غير المنضب وقنابل النابالم والأسلحة الأخرى المحرمة دوليا، بل يدافعون عن وطن ووجود وتاريخ وكينونة…
ومن جهة أخرى، فإن الطريقة المهينة التي أبرزتها أجهزة الدعاية الأمريكية، وشاركتها فيها الفضائيات وأجهزة الإعلام العربية، للرئيس صدام حسين وهو رهن الأسر، خلافا للأعراف الدولية واتفاقيات جنيف، والتي كانت طعنة في خاصرة وضمير كل عربي شريف وغيور، قد فجرت غلا دفينا، وخلقت حقدا كبيرا على الزناة مغتصبي أرض الرافدين، لن يغسله سوى جز رؤوس أولئك الذين مارسوا المهانة للشعب العراقي البطل بشكل خاص والأمة العربية والإنسانية بأسرها بشكل عام. وهكذا فإن من المتوقع أن تشهد الأيام القادمة مقاومة ضارية واستثنائية ومواجهات عنيفة ضد قوات الإحتلال، ومطياتها من كل الجنسيات. كما ستشهد تصفيات جسدية واسعة في صفوف العناصر التي تعاونت مع الغزاة.
سوف تتصاعد أزمة إدارة الإحتلال، وسيكون عليها، منذ الآن، أن تقوم بعمل مضاعف. لقد كانت أهدافها، ميدانيا، في السابق تتمثل في القبض أو القضاء على أشخاص معلومين، عرفوا بقائمة الخمسة والخمسين. وكانت مهمتها هي ملاحقتهم وتحديد أماكن تواجدهم وقتلهم أو القبض عليهم.. أما بعد أن شارفت تلك القائمة على النهاية، وأصبح معظم من وردت أسماءهم فيها إما شهداء أو أسرى في قبضة المحتل، فإن عليها الآن أن تتواجه مع أشباح وقادة مقاومة غير معروفين.. وهي بالتأكيد مهمة أعسر بكثير من تلك التي اضطلعت بها منذ سقوط بغداد حتى لحظة أسر صدام.
ولذلك نستطيع القول، إن موسم الفرح الأمريكي، وأوهام الرئيس بوش في الفوز بدورة انتخابية ثانية، لن تطول كثيرا. سوف ينتهي موسم الفرح، وتسقط أوهام الرئيس أمام الضربات الموجعة للمقاومة العراقية. وبالقدر الذي تتكاثر فيه نعوش القتلى وأعداد الجرحى من الجنود الأمريكان، بالقدر الذي يفشل فيه برنامج الإحتلال، وتستعيد الأمة ثقتها بذاتها، ويتعزز أملها في مستقبل حر وأبي ووطن يملك مصائره ومقاديره.
أما ما يجرى من حديث عن محاكمة للرئيس العراقي صدام حسين، فإننا نميل كثيرا إلى أن ذلك لن يحدث أبدا، ولن يجرؤ الأمريكيون على الإقدام عليه. ذلك لأنها إن أخذت مكانها، ستكون محاكمة للمحتل وليس للأسير. وستكشف مدى الكذب والخداع الذي مارسته الإدارة الأمريكية بحق شعبها، حين زجت بجنودها في معركة تحت ذرائع وأسباب معلنة تكشفت زيفها وبطلانها، كالحديث عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وعلاقة مفترضة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة. كما ستؤدى مثل تلك المحاكمة إلى فضح أسرار وكشف قضايا لا يرغب الأمريكان أو الأوربيون ولا حتى كثير من الزعماء العرب تعريتها أمام شعوبهم وناخبيهم.
أما ما يقال عن إمكانية إجراء المحاكمة في العراق، من قبل مجلس الحكم المحلي، فإن ذلك أمر مستبعد. فهذا المجلس، من وجهة النظر الأمريكية المحضة، لم يبلغ بعد سن الرشد، وليس بإمكانه الإضطلاع بهذه المهمة الشاقة، إضافة إلى أن قيامه بهذه المهمة سيكون أمرا مستهجنا ومثيرا للسخرية، إذ كيف يقوم لصوص مطلوب بعضهم دوليا للعدالة وللأنتربول، بتهم السرقة، بينما يوغل البعض الآخر في عقد صفقات مشبوهة وعمليات نهب لصالح الشركات الأمريكية والإسرائيلية ولصالحهم ولصالح أفراد عوائلهم، بالقيام بهذه المهمة العسيرة، لا أحد بالتأكيد منهم يرغب في كشف سوءاته.
وعلى هذا الأساس، فإن الاحتمال الأرجح هو أن يتم تصفية الرئيس العراقي جسديا، بالاغتيال، داخل السجن، وإخراج ذلك بشكل مسرحي، كالادعاء بإقدامه على الانتحار، أو أن شخصا عراقيا ناقما عليه أقدم على قتله، أو ما شابه ذلك من الوسائل القذرة. وتاريخ الاستخبارات الأمريكية في هذه الممارسات لا يجعلنا نتردد في طرح مثل هذه الافتراضات. فقد حدث ذلك من قبل لمجموعة من زعماء حركات التحرر الوطني والقادة الوطنيين المخلصين، كالليندي سلفادور في تشيلي، وباتريس لومونبا في الكونجو ومحمد مصدق في إيران، وقادة في جواتيمالا.. وفي المنافي.. فضلا عن عمليات القتل المباشرة والمعلنة، كما حدث لتشي غيفارا في بوليفيا.. والقائمة طويلة. سيكون التخلص من أثر الجريمة بالتصفية الجسدية هو الطريق الأنجع والأسهل بالنسبة للإدارة الأمريكية، وذلك هو ما نميل إلى أنه هو الإحتمال الأكبر.
ويبقى السؤال قائما، المنطقة إلى أين؟
سوف تجيب الأيام القادمة على هذا السؤال بكل تأكيد. وسيكون في فعل المقاومة والرفد الشعبي العربي لنضالها الجواب الحاسم على هذا السوال.
ومن الواضح حتى الآن أن قوات الغزو تمكنت من الدخول إلى بغداد وإنهاء الدولة العراقية، ولكنها لم تستطع أن تهزم إرادة شعب العراق. وقد أثبت أنه لا يزال قادرا على الدفاع عن نفسه، مهما زلت به الأقدام، “وأن أقدام غربائها تندثر قبل غياب شمسها أو انبلاج صبحها، وأن ما خططه الصهاينة وعتاة اليمين في الإدارة الأمريكية، ستتهاوى بروجه في القريب العاجل بإذن الله.
“وما بين النهرين علمنا في كل مرة، أن يخرج من تمزقات التاريخ إلى التاريخ من جديد. وغدا يسطر التاريخ بمرجعية قادر ومنصف، افضل ما عنده من ملاحم اعتراض الجبابرة البغاة، وما أسس العراق لأمته، ظاهرة قبول التحدي ورفض الهزيمة.. ولن يكون بعيدا، ذلك اليوم الذي سيهزم فيه عبيد، الأرض على قيودهم وفقرهم، روما الجديدة. وقد سجلها التاريخ مرات ومرات، فاكتسب الدرجة القطعية في قانون التناوب.. فروما أو “رومات” العصور في التاريخ، ظلت تمتلك أسباب زمانها للفناء، حيث الزمن لا يتوقف.. وما من زمن إلا وسيقذف بقفاز تحديه في وجه ذروة الغطرسة والاستكبار. غدا بصدام أو بدونه نحن هنا*”
وفي حديث قادم بإذن الله سنواصل عملية التفكيك والتحليل، ومحاولة الإجابة على السؤال المركزي الذي بدأنا به هذا الحديث: المنطقة إلى أين؟.
*مقتبس من حمدان حمدان الخليج بيننا قطرة نفط بقطرة دم.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2003-12-17