بعد أربع سنوات من احتلال العراق: المنطقة إلى أين؟

0 217

في التاسع من نيسان/ ابريل عام 2003 دخلت طلائع الجيش الأمريكي لمدينة بغداد، عاصمة العباسيين. وكانت تلك هي المرة الثانية التي تطأ فيها أقدام قوة غاشمة هذه المدينة التاريخية العريقة التي أسسها الخليفة العباسي، أبو جعفر المنصور، ليتخذ منها عاصمة له، ويطلق عليها مدينة السلام. كانت المرة الأولى التي يتم فيها احتلال بغداد قد حصلت أثناء غزو المغول، وإسقاط الدولة العباسية. وفي كلا الإحتلالين مارس الغزاة ذات السلوك، من حرق وتدمير ونهب واعتداء على الأعراض والتاريخ والمواريث.

 

كان الغزاة قد أعتمهم غطرسة القوة، فتصوروا أن احتلال العراق، سيكون مقدمة لقرن أمريكي جديد يسيطرون فيه على اقتصادات العالم بأسره، من خلال تحكمهم في منابع واستخراج وإدارة وتسويق النفط… وكانت النوايا واضحة ومعلنة. لكن العراقيون البواسل، بقانونهم القطعي كانوا يقظين، وجاهزين لهم بالمرصاد. وقبل انبلاج شمس بغداد، في اليوم التالي لاحتلال عاصمة الرشيد، كانت المقاومة العراقية قد بدأت بالفعل. وكانت منازلة أسطورية فريدة من نوعها.. فالمقاومون اعتمدوا، بعد الإتكال على الله، على قوتهم الذاتية. ورغم الحصار المفروض عليهم إعلاميا وتعبويا وماديا، فإنهم استطاعوا الإندفاع بقوة في تحقيق برنامجهم.

 

ومنذ الإحتلال، قبل أربع سنوات حتى هذا التاريخ سالت مياه كثيرة، وتغيرت معادلات سياسية على الصعيد الإقليمي والدولي، بما ينبىء أن هزيمة المشروع الأمريكي، التي أكدنا حتميتها، في منبر التجديد العربي آنذاك، في عدد من المقالات، أصبحت حقيقة واقعة. وغدى السؤال المطروح الآن يتعلق فقط بموعد انسحاب القوات المحتلة. هل يكون في سبتمبر عام 2008، أم بعد هذا التاريخ. وتحديد هذا التاريخ ليس فقط مرهونا بارتفاع وتيرة المنازلة العسكرية بين المقاومين والمحتلين، ولكن لحسابات داخلية محضة أيضا. فبينما يسعى الديموقراطيون إلى إنهاء الإحتلال الأمريكي للعراق، قبل إعلان فوز مرشحهم لرئاسة الجمهورية، في نوفمبر عام 2008، وهو ما يتوقعه محللون سياسيون كثيرون، لكي لا تحسب عليهم أخطاء الإحتلال، أو ينشغلوا به، وأيضا من أجل أن يتفرغوا لتحقيق برنامجهم الإنتخابي، يسعى الرئيس الأمريكي، جورج بوش إلى توريط الديموقراطيين، وجعلهم يشربون من ذات الكأس التي تجرعها.

 

مما لا شك فيه أن هذا الأمر سيتقرر قريبا على ضوء جملة من الحقائق، لعل أهمها هو استمرار تصاعد التقابل بين الجيش الأمريكي والمقاومة الوطنية في العراق. ومن جهة أخرى، فإن تصاعد حملات المعارضة للحرب في أمريكا، وبريطانيا، والدعوات المطالبة بالإنسحاب من العراق ستجد لها أصداء مختلفة عن سابقاتها. إنها هذه المرة ستكون مدعومة بضغوط شديدة من داخل المؤسسات الأمريكية الرسمية، في الكونجرس ومجلس الشيوخ، وأيضا في الحزبين الرئيسيين، الديموقراطي والجمهوري لتسهم في ترجيح كفة المطالبين بالإنسحاب الفوري، واكتماله قبل سبتمبر عام 2008.

 

هناك أيضا مسائل أخرى، لا تقل أهمية، لها تأثير مباشر على الأوضاع في العراق، بشكل خاص، وعلى المنطقة عموما. ربما نضع قضية المشاريع النووية الإيرانية، في أعلى لائحتها. ولعلنا لا نأت بجديد حين نشير إلى أن القوى العراقية الموالية لإيران تشكل العمود الفقري في المشروع الأمريكي. فهي تتصدر الحكومة العراقية، وتشكل عناصرها، من حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية والتيار الصدري، قوام الجيش والشرطة العراقيين. وهي التي تقود فرق الموت التي تواجه المدنيين المناصرين للمقاومة الوطنية العراقية. إن المواجهة العسكرية الأمريكية لإيران تقتضي واحدا من أمرين، إما الإعتراف بفشل المشروع الأمريكي في العراق، والخروج منه بخفي حنين، وذلك يبدو غير منطقي، ويضع صانع القرار الأمريكي في مآزق وإرباكات أخرى، أو تغيير خارطة التحالفات السياسية، بشكل جذري ودراماتيكي، ليس فقط في العراق، وإنما بعموم المنطقة، وقلب الطاولة رأسا على عقب وذلك أقرب للمنطق والعقل.. وقد بدأت ملامحه تلوح في الأفق.

 

نسجل في هذا الإتجاه عدة ملاحظات، لعل أولها حدث قبل عام من هذا التاريخ حين زار الأمين العام لجامعة الدول العربية، السيد عمرو موسى العراق في سابقة لم تحدث لأمين للجامعة العربية منذ عام 1990 حين غزا الجيش العراقي الكويت، ودعوته لمؤتمر للمصالحة العراقية. ثم تتالت تصريحات المسؤولين والقادة العرب عن هلال شيعي، ومخاطر إيرانية، وعن عروبة العراق.. وكان المحزن في بعض تلك التصريحات أنها لم تدرك المخاطر على عروبة العراق، إلا في وقت متأخر جدا، وحسب التعبير العراقي “بعد خراب البصرة”. وكان محزنا أيضا، أن القادة العرب، تفرجوا على تدمير منهجي للتراث وللتاريخ، والهوية دون أن يحركوا ساكنا.

 

مؤتمر القمة العربي الأخير، الذي عقد بالعاصمة السعودية الرياض، بدعوة من خادم الحرمين الشريفين، كان هو الإستثناء بين المؤتمرات العربية التي عقدت منذ احتلال العراق، من حيث تبنيه للمسألة العراقية، واعتبارها أحد المحاور الرئيسية لاجتماعات القمة الأخيرة، وهو أمر جيد، ينسجم مع العبارة الأثيرة: “أن تصل متأخرا خير من أن لا تصل أبدا”. عقد المؤتمر وسط متغيرات دولية موحية بتراجع القبضة الحديدية الأمريكية على القرار الدولي، واحتمالات بروز تكتلات دولية منافسة للتفرد الأمريكي. وكان من الطبيعي أن يستثمر المؤتمرون المأزق الأمريكي الداخلي، وبروز النزعات الإستقلالية في الحديقة الخلفية، في أمريكا اللاتينية، وأن يستوعبوا حقائق المتغيرات الدولية.. وجاء البيان الختامي لمؤتمر القمة العربية مجسدا وعيا لهذه الحقائق, ومتماهيا معها.

 

نسجل أيضا، زيارة زعيمة الأغلبية في الكونجرس الأمريكي للمنطقة، وما تمخض عنها من حديث عن تحريك لعملية السلام، انسجاما مع ما ورد في المبادرة العربية. ويبدو أن الهدف من هذه الزيارة هو تحقيق شيء من الإسترخاء بالمنطقة، وأيضا تغيير خارطة التحالفات، وإعادة الحيوية للمحور الثلاثي: السعودي المصري السوري، ليس فقط فيما يتعلق بعملية السلام. وربما هدفت الزيارة إلى فرض نوع من العزلة على إيران، كجزء من سياسة الإحتواء، أو الإحتواء المزدوج.. الشعار الأثير للديمقراطيين، تمهيدا لتبني أسلوب آخر في المواجهة مع طهران، يستبعد الخيار العسكري، ويفضل سياسة الحصار الإقتصادي، وفرض طوق من العزلة. وينتظر أن يكون لذلك تداعيات مباشرة على الأوضاع الداخلية في لبنان.

 

سيسعى الأمريكيون لتحقيق طلاق بين القيادة السورية وحزب الله، أو إقناع حزب الله لأن يتحول إلى حركة سياسية مدنية، لا تحمل السلاح. إن ذلك من وجهة النظر الأمريكية سيحقق هدفين رئيسيين: الأول، تقديم خدمة للكيان الصهيوني، بإبعاد سلاح المقاومة اللبنانية عن حدودها إلى الأبد، من خلال العمل على إحداث تغييرات جوهرية في هيكلية الحزب واستراتيجياته وطريقة أدائه، وأيضا حرمان طهران من دور عسكري يمكن أن يقوم به حليف لها، في حالة حدوث أية مواجهة عسكرية معها، أو على الأقل التلويح بذلك واستخدامه كواحد من أدوات الضغط على إيران لكي تستجيب للمطالب الأمريكية بإيقاف العمل في مفاعلاتها النووية.

 

في الداخل العراقي، تشير مواجهات الديوانية بين الجيش الأمريكي والتيار الصدري إلى بداية تغيير في الخارطة السياسية. ويبدوا اختيار مواجهة التيار الصدري أمريكيا، كمقدمة لتغيير الخارطة السياسية منطقيا وبديهيا، من أجل إدخال التيار السني التقليدي في العملية السياسية. فهذا التيار هو الذي تصدر قيادة فرق الموت، التي ذهب ضحية أفعالها الآلاف من المدنيين العراقيين، من مختلف مكونات النسيج العراقي. وهو أيضا متهم بقتل السيد عبد المجيد الخوئي، وهناك أيضا اتهامات له بالضلوع في عملية اغتيال السيد محمد باقر الحكيم. واختيار الإبتداء به يبدو في المنطق العسكري الإستراتيجي هو الأسلم، فهو غير مأسوف عليه من قبل جميع الأطياف والفصائل العراقية، على كل حال. هناك أيضا، حادث عدم السماح لطائرة رئيس الوزراء العراقي المعين من قبل الإحتلال، السيد المالكي من عبور الأجواء الإيرانية.. ويحمل هذا القرار أبعادا عديدة منها أن هناك خشية من استخدام الطائرة لأخذ صور دقيقة عن مواقع المفاعلات الإيرانية، كما تحمل إشارات أخرى، لعل أهمها أن خارطة التحالفات في الداخل قد بدأت فعلا..

 

هناك أمور كثيرة، لا يتسع هذا الحديث القصير لاستعراضها، وربما نقوم بتناولها في أحاديث أخرى، لكن المؤكد أن ثمة تحولات دراماتيكية تجري الآن في المنطقة وسوف تتضح معالمها خلال الأيام أو الشهور القليلة القادمة، ينبغي التقاطها ورصدها واتخاذ القرارات المناسبة بحقها، ضمانا لاستمرار الإستقرار في منطقتنا، والإبتعاد عن مخاطر الحرب، وهي جديرة بالمناقشة في أحاديث أخرى بعون الله تعالى.

 

cdabcd

 

yousifsite2020@gmail.com

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ستة عشر + 4 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي