بريطانيا بعد رحيل الملكة: استمرارية أم انقطاع
رحلت ملكة بريطانيا، اليزابيث الثانية عن عمر ناهز الستة وتسعين عاما، وتربع على العرش استمر سبعين عاما، عاصرت خلالها المملكة المتحدة أحداثا جساما، وتحولت بلادها من امبراطورية عظمى لا تغيب عنها الشمس، وتهمين على أجزاء كبيرة من المعمورة، وفي جميع القارات، إلى دولة تعيش على أمجادها الماضية، وتحتفظ بعلاقات اعتبارية جيدة مع عدد من مستعمراتها السابقة، تحت مظلة ما صار يعرف بالكومنولث البريطاني.
وكان نصيب الوطن العربي من الاحتلال البريطاني كبيرا شمل مصر والسودان والصومال والعراق والأردن وفلسطين والخليج العربي وجنوب اليمن اعتمدت خلالها السياسة البريطانية شعار فرق تسد. وخلال الحرب العالمية الأولى مارست بريطانيا المكر والخداع وقدمت وعودا متضاربة للعرب والصهاينة والفرنسيين انتهت بنتائج كارثية على العرب, كان الأسوأ بينها التطبيق العملي لوعد بلفور بجعل فلسطين وطنا قوميا لليهود.
وتعود جذور الملكية في بريطانيا إلى العصور الوسطى، ولم تنقطع عن الحكم إلا في فترات قصيرة جدا.
وخلال فترة حكم الملكة اليزابيث الثانية، استمر تداول السلطة بين الحزبين الرئيسيين: حزب المحافظين ويمثل الأولجارشية، وحزب العمال ويمثل الطبقة المتوسطة. يدير حزب المحافظين الحكم، بالطريقة التي يديرها الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، حيث تتبنى برامجه تخفيض الضرائب، والحرية الاقتصادية، وتخليص الدولة من أعباء الخدمات الاجتماعية، وتقليص أعداد موظفيها. كما تتبنى سياسات حادة تجاه المهاجرين من بلدان العالم الثالث. وتتسبب هذه السياسات بنهاية المطاف، في حدوث انكماش اقتصادي.
أما حزب العمال فهو أقرب إلى سياسات الحزب الديمقراطي في أمريكا، حيث يتبنى زيادة الضرائب، وسياسات أكثر انفتاحا في القضايا الاجتماعية. وتؤدي سياساته في الغالب، إلى تضخم في أجهزة الدولة، وتراجع في أعداد العاطلين. ويتبنى الحزبان سياسات خارجية متقاربة، وتحكم حالة الانكماش أو التضخم وصول أحدهما إلى السلطة.
تسلم الإبن الأكبر للملكة، شارلز الملك، بعد أمه. وحمل اسم شارلز الثالث. فقد سبقه ملكان يحملان اسم شارلز. كان شارلز الأول، قد أطيح به، وتم إعدامه في قصر وايت هول، في يناير عام 1649، إثر انتصار ثورة المتطهرين بقيادة الجنرال، أوليفر كرومويل، وإعلان الجمهورية، التي لم تعمر أكثر من تسع سنوات. وقد تأثرت تلك الثورة، بحركة الإصلاح الديني، التي قادها مارتن لوثر في ألمانيا، وجون كالفن في فرنسا، والأفكار الرومانسية التي بشرت بالديمقراطية، والعقلانية القانونية، التي أعتبرها ماكس فيبر، الوليدة الشرعية للبروتساتنية.
سقطت الجمهورية، وأعدم قائدها أوليفر كرومويل، وتسلم ابن الملك شارلز، والذي يحمل نفس أسمه، العرش ومنح لقب الملك شارلز الثاني، لكن مبادئ الثورة بقية حية، رغم القضاء المبرم على قياداتها. وقد فرضت تلك المبادئ نفسها على الحياة في بريطانيا، وباتت جزءا من بنائها وتاريخها السياسي، منذ ذلك الحين. وحين وصل شارلز الثاني للعرش، عام 1658م، كان تأثير السياسي لتلك الافكار واضحا في الهياكل والتقاليد الجديدة للإمبراطورية. لكن هذا التغير اتخذ طابعا تدرجيا، حيث كانت السلطة توزع بين الملكيين والبرلمانيين، وأيضا على أسس تقاسم مراكز القوة بين الكنيستين، إلى ان تحولت بعد سنوات طويلة إلى الصيغة الراهنة، التي تقضي بأن الملك يملك ولا يحكم. وهي صيغة تحجب عن الملك حق اتخاذ القرارات السياسية، وتمنعه من التدخل في الشؤون السياسية، أو الإدلاء بأي تصريح، يتضمن رأيا او موقفا سياسيا.
لا يوجد في بريطانيا، دستور مكتوب، رغم أنها تعتبر الأعرق بين النظم الديمقراطية في العالم، وإنما توجد تقاليد وأعراف، مدعومة بلوائح ونظم متفرقة، تخص تسيير أجهزة الدولة، والعلاقة بين السلطة التشريعية والعرش. وقد سار على هذا النهج، فيما بعد، عدد من الدول التي انتهجت أسلوب الحكم البريطاني. وهو أسلوب، يكون القول الفصل فيه للهيئة التشريعية، “البرلمان”، ويشكل الحزب الذي يحصد غالبية الأصوات، الحكومة. وهذا النظام يختلف كثيرا عن النظام الأمريكي، الذي يعتبر نظاما رئاسيا، يمارس فيه الرئيس المنتخب، مباشرة من الشعب، وفقا للدستور صلاحياته، وحقه في تشكيل الحكومة، وبقية الأجهزة التنفيذية، ويقتصر فيه دور الكونجرس، على التشريع، وسن القرارات، أو الموافقة أو الرفض، على المشاريع والقرارات التي يطرحها الرئيس.
ومنذ عدة سنوات، بدأت المطالبات تتصاعد، منادية بالتخلي عن النظام الملكي، باعتبار أنه شكلي، ولا يملك أي صلاحية، وأنه يشكل عبئا على خزينة الدولة، ومن ضمن الأصوات التي طالبت، في مرحلة سابقة من حياتها، بالغاء الملكية، رئيسة الوزراء البريطانية، ليز تروس، التي وصلت حديثا إلى الحكم.
وبعد رحيل الملكة، ترتفع الأصوات مجددا، من قبل عدد من أعضاء البرلمان، مطالبة بالتخلي عن النظام الملكي. لكن ذلك يبدو أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا، في الوقت الراهن. فغالبية البريطانيين، يرون في وجود الملكية استمرارية تاريخية فريدة، لنظام ساد قرابة أربعة قرون، وبات جزءا من التراث والفلكلور البريطاني، ينبغي حمايته والحفاظ عليه. الأيام القادمة ستتكفل بالإجابة على السؤال الذي طرحناه في صدر هذا الحديث: هل سيكون رحيل الملكة استمرارية أم انقطاع؟!…
د. يوسف مكي