انهيار خارطة الطريق سقوط آخر للأوهام
يبدو أن الستار سيسدل بشكل نهائي على الهدنة المعلنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتي ارتبطت بتنفيذ المبادرة المعروفة بمشروع خارطة الطريق الأمريكية. وبذلك ينتظر أن تبدأ صفحة أخرى من المواجهات ربما تكون أكثر قسوة وضراوة ودموية.
هذا وكنا في حديث آخر على صفحات هذه الجريدة، قبل تسعة أسابيع، قد حذرنا من أن هذه المبادرة ستنتهي بالفشل وأشرنا إلى أنها ليست سوى خطوة أخرى على طريق تكريس الأوهام، وقد كانت ضمن الأحوال والظروف التي طرحت فيها من قبل إدارة الرئيس الأمريكي جورج خطوة تكتيكية، هدفها امتصاص الإحتقان العربي التي ارتبط بالعدوان على العراق واحتلاله، واستهلاك الوقت حتى يتم استكمال المشاريع الأمريكية في المنطقة في وضع أقل توترا، وأنها بالنتيجة ليست سوى خطوة جديدة على طريق التسليم بالمزيد من التنازلات العربية والتفريط بالحقوق لصالح المشروع الصهيوني.
وحتى لا يتهمنا البعض بالتحريض والتعريض، والاستسلام لليأس والاستغراق في التشاؤم، توقفنا عن مواصلة الحديث فيما تلا، بعد الإعلان عن خارطة الطريق، وما تمخض عن قمتي شرم الشيخ والعقبة، وزيارة رئيس وزراء السلطة الفلسطينية (أبو مازن) إلى واشنطون، ولقاءاته المتكررة مع رئيس الوزراء الصهيوني، إرييل شارون، وإقامة العازل الأمني بين أراضي الضفة الغربية وفلسطين التاريخية، وقضية إطلاق سراح السجناء والمعتقلين السياسيين في السجون الإسرائيلية، مع تقديرنا بأن جميع هذه القضايا والتطورات تستحق منا وقفات وقراءات معمقة، كونها تمس سلبيا وبشكل مباشر حاضر ومستقبل المقاومة ومسار الكفاح الفلسطيني.
والمؤكد الآن أن الفلسطينيون لم يتقدموا، بعد قرابة شهرين من تحقيق الهدنة وتسليمهم بالمبادرة الأمريكية، قيد أنملة على طريق تحقيق أهدافهم التكتيكية والاستراتيجية. فعلى صعيد الأهداف التكتيكية لم تف إدارة الإحتلال الصهيوني بأي من الالتزامات التي قطعتها على نفسها كشرط للتوصل إلى توقيع هدنة مع الفلسطينيين. فحملات المداهمة والاعتقالات والاغتيالات استمرت بوتائر مختلفة منذ توقيع اتفاقية الهدنة حتى يومنا هذا، وأخذت في الأيام الأخيرة أشكالا متصاعدة. أما الانسحابات من المناطق الفلسطينية التي تقع تحت السيطرة الاسمية للسلطة الوطنية، فإنها شكلية، ولم تشمل المعابر والمناطق الإستراتيجية، وبقيت محدودة وجزئية.
وفيما يتعلق بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، فنشير إلى تصريح رئيس السلطة الفلسطينية السيد ياسر عرفات الذي أوضح أن السلطات الإسرائيلية تمارس الكذب الفاضح، وأنها قدمت قائمة بأسماء 400 معتقل تزمع إطلاق سراحهم، في ذات الوقت الذي تم فيه اعتقال أكثر من 800 فلسطيني، بما يعني أن الكيان الصهيوني، في حالة التزامه بإطلاق سراح أفراد القائمة التي تقدم بها، سيكون قد أضاف قائمة أخرى مؤلفة من أربعمائة من المعتقلين الجدد إلى سجونه.
أما على صعيد التقدم بالمباحثات بين الجانبين لتطبيق الجوانب السياسية والاستحقاقات الخاصة للفلسطينيين، باتجاه إقامة دولتهم المستقلة والاعتراف بحقوقهم في أرضهم، فلم يتم أي تطور يذكر في هذا الشأن حتى هذه اللحظة. والسلطة الفلسطينية تبدو عاجزة عن ممارسة أي ضغط بهذا الاتجاه، على الأمريكيين والإسرائيليين بعد أن ثبت بالدليل عجز النظام العربي الرسمي عن تقديم أي عون مادي أو اعتباري للفلسطينيين.
ويبدو أن الأيام القادمة ستشهد انهيارا شاملا لجهود ومباحثات التسوية، حيث أن التداعيات المحلية والعربية والدولية جميعها تؤشر بذلك. فعلى الصعيد المحلي، لن يقف الفلسطينيون المنضوون في حركات المقاومة مكتوفي الأيدي بينما تقوم قوات الاحتلال باصطياد قادتهم فردا فردا، وسوف يكونون مجبرون على العودة إلى شن عمليات استشهادية، على قاعدة مبررة ومنطقية ومأثورة تقول العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم. ولن يكون بوسع السلطة الفلسطينية مطالبة المقاومين بالتوقف عن الكفاح، بعد أن عجزت هي ذاتها عن الحصول على أي شيء. والإسرائيليون بدورهم، لن يصغوا إلى النداءات الأمريكية بضرورة التهدئة، فهم يعلمون أن الرئيس الأمريكي غارق حتى أذنيه في المستنقع العراقي، وفي مواجهة المقاومة الضارية للعراقيين في مدن العراق وقراه وأريافه ولن يستطيع فرض أي شيء عليه، بل العكس ربما يكون صحيحا، فهو بحاجة إلى تأييدهم ودعمهم في حملته الانتخابية الجديدة.
وعلى الصعيد العربي، فإن الأوضاع السائدة حاليا في المنطقة مختلفة تماما عن تلك التي كانت قائمة أثناء وبعد الحرب مباشرة على العراق. لقد كانت الإدارة الأمريكية، آنذاك، أشبه بفتوة حي مقتدر وناشط، يهدد الجميع ويأخذ الأتاوات ويفرض شروطه دون تحد من أحد. أما وقد وضع الله سره في المقاومين العراقيين، فإن ذلك الفتوة، قد تكشف على حقيقته، وبدا ضعيفا وخائبا وأضحى نمرا من ورق، لا يستطيع الصمود والمواجهة أمام مقاومة شعب محتل مصمم على انتزاع حريته واستقلاله، وقد بدأت دباباته ومدرعاته تتعرض يوميا للحرق والتفجير ورجاله للإصابات والقتل، بينما تتصاعد الإتهامات في الداخل، بالوطن الأمريكي، مشككة في الدعاوى والمبررات التي سيقت والنوايا التي حركت إدارة الرئيس بوش على احتلال العراق. ولن يكون بوسع الأمريكيين، في ظل الظروف الحالية، الضغط على أحد من عناصر الصراع في المنطقة للقبول بآرائهم ومبادراتهم، بعد أن شهدوا بأم أعينهم، عن قرب، المأزق الذي وضعت الإدارة الأمريكية جيشها وآلتها وشعبها فيه.
ليس صدفة إذن، أن تتحدى الحكومة الصهيونية مبادرة خارطة الطريق الأمريكية وتعلن تحررها منها، كما لن يكون صدفة أن يكون خيار المواجهة هو المتاح والممكن الوحيد أمام المقاوم الفلسطيني، بعد أن تكشف تمزق خرائط الطريق، وهي لما تزق مشروعات على الورق.
وإذا ما أخذنا بهذا المنطق فسوف لن نجد كبير عناء في تفسير ما يجري حاليا من مواجهة على الأرض اللبنانية، من محاولات تخريب في الداخل، ومن مقاومة للوجود الصهيوني في مزارع شبعا بالجنوب، ومواجهات في طريقها لأن تصبح يومية بين عناصر حزب الله والقوات الإسرائيلية. وسيكون مفهوما أيضا، تفسير التصريحات التي أطلقها وزير الدفاع السوري، العماد مصطفى طلاس، والتي أشار فيها إلى أن الحكومة السورية لا يمكنها القبول بالاحتلال الأمريكي للعراق، وأنها ترفض الاعتراف بالمجلس الانتقالي الذي عينه الأمريكان لإدارة شؤون الحكم في هذا البلد. كما يمكن فهم القرارات التي صدرت عن جامعة الدول العربية في هذا الشأن.
لقد أعطت المقاومة العراقية زخما جديدا للجميع، بكل ما تعني كلمة الزخم من مضامين إيجابية وسلبية في آن معا. فالصهاينة، يعلمون أن إدارة الرئيس الأمريكي المشغولة في التحضير لحملة الإنتخابات الجديدة لعام 2004، لن يكون بوسعها ممارسة الضغط عليهم بفعل جملة من الأسباب، أولها انشغالها بتبعة التحقيقات التي تجري في الداخل حول مبررات شن الحرب على العراق، وثانيها وقوع قواتها، بسبب من تلك الحرب، في مستنقع أصبح الخروج منه أمرا شائكا. وثالثها فشل الإدارة الأمريكية فيما تطلق عليه بالحرب على الإرهاب. فبعد قرابة العامين، لم تتمكن هذه الإدارة من اصطياد زعيم القاعدة ولا أي من المقربين له، ولم تستطع التخفيف من حدة العمليات التي يمارسها هذا التنظيم والتنظيمات المتحالفة معه بحق المواقع والمصالح الأمريكية، في شتى مناطق العالم، والتي كان أخرها استهداف فندق ماريوت الأمريكي باندونيسيا. ورابعها، أن هناك أزمة اقتصادية حادة، وفشلا واضحا وذريعا في المشروع الاقتصادي الذي تقدم به الرئيس بوش في حملته الانتخابية، ويزيد من حدة هذه الأزمة التكاليف الباهضة للحروب المعلنة على الإرهاب وفي العراق. وكان من المؤمل أن يعوض إنتاج النفط العراقي عن هذه الخسائر، لكن المقاومة واصلت تربصها بالمرصاد لكل محاولة لإعادة ضخ النفط وتشغيل أنابيبه والإجهاز على تلك المحاولات بالتفجير والتخريب.
وبالنسبة للأنظمة العربية، في سوريا ولبنان وأقطار عربية أخرى، فإن الجدية التي أخذت بها التهديدات الأمريكية بعد الحرب مباشرة، تراجعت بشكل ملحوظ، بعد أن تيقن الجميع بأن الإدارة الأمريكية أعجز عن الإلتزام بتنفيذ تهديداتها، بعد أن فشلت في تحقيق الأمن وإعادة ماكنة الدولة إلى العمل بالعراق. ومن هنا، تعود المقاومة الفلسطينية إلى المربع الأول، إلى خيار المواجهة والكفاح من أجل نيل الحقوق، دون تعويل على المبادرات الدولية. كما تشهد المنطقة مزيدا من الخطوات باتجاه اتخاذ مواقف أكثر استقلالية وتباعدا عن الهيمنة الأمريكية.. وفي هذه المحطات تتراجع الشرق أوسطية، ويعود دعاة سلام كوبنهاجن إلى جحورهم، وتقهقر حملات التشكيك في المقاومة والإنتماء العربي وخيار الحرية والإستقلال والكرامه، ونشهد سقوطا آخر للأوهام.. yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2003-08-12