اليمن.. خطوة على طريق الألف ميل
مبادرة مجلس التعاون الخليجي، بدعوة مختلف القوى السياسية اليمنية للاجتماع في العاصمة السعودية الرياض، للتشاور بشأن التوصل إلى حل سياسي للأزمة، يعيد لليمن وحدته واستقراره، وما تبعها من تشكيل مجلس رئاسي يقود العملية الانتقالية، هي مبادرة تستحق الثناء والتقدير.
فقد تسببت الأزمة الراهنة التي طال أمدها، في معاناة قاسية لمختلف أطياف الشعب اليمني، وأسهمت في تمزيق وحدته وحالت دون نمائه وتطوره.
لقد استمرت معاناة هذا الشعب كثيراً، ولحقب طويلة ممتدة. فاليمن العريق الذي تمتد حضارته عميقاً في التاريخ، ظل لأكثر من ألف عام مثقلاً بأزماته. فبخلاف معظم الأقطار العربية، تواصلت على أرضه أشكال الحياة الاجتماعية التي سادت في القرون الوسطى، والتي تجاوزها العصر، من دون تغيير يستحق الذكر. وكان من نتائج ذلك، انشغال البلاد بالصراعات الداخلية، بدلاً من خوض معركة البناء والتنمية.
وكانت نتيجة ذلك أن بقيت الأغلبية من أبناء هذا الشعب تعيش في فقر مدقع وحرمت من أبسط متطلبات العيش الكريم، على الرغم مما يزخر به اليمن من ثروات طبيعية كبيرة. ولم تكن في مجتمعه سوى طبقتين: الإقطاع في أعلى السلم، وجموع الشعب في أسفله. أما سفوح الهرم، فبقيت خاوية، حيث ظل وجود الطبقة الوسطى هجيناً وكسيحاً ومغيباً.
وحتى بعد قيام النظام الجمهوري في مطالع الستينات من القرن الماضي، استمر اليمن أسير هياكله الاجتماعية القديمة. ففكرة الدولة الحديثة لم تترسّخ فيه بعد، بسبب طغيان هيمنة القبيلة وشبكة العلاقات البطركية.
وفي وضع كهذا، يبدو منطقياً صعوبة الحديث عن قيام دولة حديثة، مع أنها الملاذ الأخير لإنقاذ اليمن من أزماته. وفي غياب برنامج للنهوض السياسي والاجتماعي تستمر المناكفات والصراعات، عاكسة موازين القوى القبلية، ومتسبّبة في انتقال سريع، ودموي في معظم الأحيان، في موقع رئاسة الدولة، حيث شهدت اليمن في أقل من ثلاثة عقود، تناوب عشرة رؤساء على السلطة، بعضهم رحل عنها بطريقة مأساوية ودموية.
وخلال عقود طويلة ظل اليمن مقسماً بين شطرين، شمالي وجنوبي. ولم يكن توحيد الشطرين نتاج فعل تراكمي، وتكامل اقتصادي وسياسي؛ بل جاء حلاً لأزمة سياسية عاناها النظامان في الشطرين. فقد استمر انفصالهما عن بعض لأكثر من 150 عاماً. وحين تحققت الوحدة كان اليمن، ينوء بقوافل العاطلين عن العمل، وبمشاكل اقتصادية وسياسية مستعصية، إضافة إلى انتشار المحسوبية والفساد، وضعف المراقبة والمساءلة. فكانت النتيجة أن الدولة بقيت عاجزة عن تلبية حلم المواطنين.
وأياً يكن الموقف من الانقلاب الذي حدث في اليمن، وأوصل الحوثيين للسلطة في صنعاء، وأودى بالبلاد إلى الحال التي هي عليها الآن، فإنه لم يكن مقدراً له النجاح لولا البنية الهشة لمؤسسات الدولة اليمنية. فتلك المؤسسات بحكم وظيفتها المعلنة بطبيعتها انتقالية، ريثما يُستكمل الحوار الوطني، ويعلن دستور جديد للبلاد، وفقاً للمبادرة الخليجية للخروج من الأزمة التي عاشها اليمن منذ بداية 2011، والتي رعتها حينها القيادة السعودية. وقد حال انقلاب الحوثيين في سبتمبر/أيلول عام 2014، دون استكمالها لمهمتها.
لقد كانت انتفاضة 2011، رداً على نهج غيبت فيه الشفافية، وتغوّلت فيه السلطة، ومارست الاستبداد، وهدرت مصالح الناس، واتسعت فيه الفجوة بين المركز والأطراف، فكان من الطبيعي أن تعم حالة الاحتقان، المناطق المحرومة، وأن تنتشر ظواهر التطرف والإرهاب، وتستثمر القوى الإقليمية الطامحة لمدّ أذرعها في القلب من الوطن العربي، وتهديد مصالحه وأمنه.
إن استمرار الانفلات الأمني في اليمن، سيجعل منه مطمعاً لتدخلات أكبر، من القوى الإقليمية، كما أن عدم وجود حكومة قادرة على بسط سيطرتها على جميع الأراضي اليمنية، سيجعل منه معقلاً لتنظيمات التطرف والإرهاب، بما يتسبب في تهديد أمن المنطقة بأسرها.
ما طرحته مبادرة مجلس التعاون الخليجي، في ترك اليمن لأهله، هو موقف واقعي وصحيح. فالحل ينبغي أن يكون يمنياً بالدرجة الأولى، دون إقصاء أو تهميش لأي من مكوّنات المجتمع، وبعيداً عن التدخلات الخارجية والاختراقات الإقليمية.
صحيح أن هناك مشاكل كبيرة تواجه بناء الدولة اليمنية الحديثة، لعل الأهم بينها، إعادة إعمار ما خلّفته الحرب، والاهتمام بعائلات الشهداء من كل الأطراف، والاهتمام بشؤون الجرحى والمعاقين.
إن تجاوز تبعات الأزمة الراهنة ممكن جداً، متى ما توفّر التصميم والإرادة السياسية، وجرى التوجه حثيثاً نحو استخدام العلم، للنهوض بالزراعة اليمنية، وولوج عصر التصنيع، واستبدال ثقافة القبيلة بثقافة المواطنة. فذلك وحده ما يلجم نزعات التخريب والتفتيت والفوضى، ويضع اليمن على السكة الصحيحة.
.. إنها فعلاً لخطوة مهمة وواعدة على طريق الألف ميل.
التعليقات مغلقة.