الوطن العربي والصراع الدولي
د. يوسف مكي
الصراع بين البشر، قانون طبيعي منذ القدم، وبات الاجتماع، صفة ملازمة له. وكان الصراع يجري على اكتساب المياه والأراضي الخصبة. لكنه مع نشوء الإمبراطوريات وتطورها، بات محكوما بأسباب أخرى، لعل أهمها السيطرة على البحار والمعابر الاستراتيجية والثروة، وتأمين طرق التجارة.
في القارة الأوروبية، نشأ عصر القوميات، مدفوعا بكسر الحواجز الجمركية، والتوسع في الأسواق. لكن ضيق الأسواق القومية، بالنسبة للمنتجات الأوروبية، وعلى رأسها منتجات صناعة النسيج، قد أسس لبداية الاستعمار في العصر الحديث. وكان لبريطانيا الدور الكبير، في التوسع الاستعماري، الذي شمل القارات القديمة والحديثة. وليس ذلك محض الصدفة، فمنها انطلقت الثروة الصناعية، وظلت رائدها ومحتكرها لفترة تقارب القرن من الزمن.
الوطن العربي، كان دائما في القلب من صراع الامبراطوريات، قديمها وحديثها. ولم يكن ذلك غريبا. فهذا الجزء من العالم، كان طريق الحرير، الوافد من الشرق إلى الغرب. وحين بات للمعابر والممرات الاستراتيجية أهمية قصوى في التنافس الدولي، حضرت خارطة الوطن العربي، التي تشكل نقطة وصل بين قارات ثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا.
لم تكن هذه الأسباب وحدها، العامل الجاذب للقوى الكبرى للتنافس على المنطقة العربية. فهناك أهمية استراتيجية أخرى، هي تفرده بوجود ممرات لا غنى عنها في المواصلات الدولية، وبخاصة البحرية. فهذا الوطن يضم مضيق هرمز، ومضيق باب المندب، ومضيق جبل طارق. وتضاعفت أهمية ذلك بنشوء قناة السويس، التي قصرت المسافات، وألغت الدور التاريخي ل”رأس الرجاء الصالح”.
ومنذ مطالع القرن الماضي، بدأت الأنظار البريطانية ولاحقا الأمريكية، تتجه إلى ما يختزنه باطن الأرض العربية من ثروات نفطية، ما لبثت في نهاية الثلاثينات من القرن، أن جعلت من هذه البقة أهم مصدر للطاقة في العالم بأسره.
في بداية القرن الماضي، ساد شعور عام لدى الدول الأوروبية الفتية، بأهمية التهيؤ للإجهاز النهائي على الرجل المريض بالأستانة. وكانت دول البلقان وبعض الدول الأوربية، قد تمكنت بالقرن التاسع عشر من الانفصال عن السلطنة، والتحقت بشكل أو بأخر، بصداقات وتحالفات في محيطها الاوروبي. ولذلك يمكن القول إن الإجهاز على الرجل المريض بالاستانة، في الحرب العالمية الاولى، كان موجها بالدرجة الأولى للوطن العربي، وليس غيره. وكانت النتيجة هي اتفاقية سايكس بيكو التي هدفت بشكل خاص، لتقسيم بلاد الشام، والحيلولة دون تحقيق اتصال، بين مشرق الوطن ومغربه. وبقية التفاصيل باتت معروفة للجميع، ولا حاجة للاستغراق في تفاصيلها.
في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، كان الصراع بين الأوروبيين أنفسهم، على إرث السلطنة. وكان اليانكي الأمريكي يلحظ من خلف المحيط، تطورات ما يجري في هذه المنطقة. ويدرك المصاعب الاقتصادية التي عانى منها حلفاؤه الغربيون، بسبب من الكلف الفادحة للحرب العالمية الأولى. ولذلك بدأ بالإفصاح الصريح عن رغبته في الاحلال مكان الاستعمار التقليدي. وجاء الاعلان عن ذلك جليا في مبادئ الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون، التي عرفت بإعلان حقوق الإنسان، حيث اعتبر الاستعمار عملا مقيتا وغير أخلاقي. ولم يمض سوى وقت قصير إلا وتندلع الحرب العالمية الثانية، عام 1939، بعد أكثر من عشرين عاما بقليل، على انفضاض الحرب العالمية الأولى.
الحرب العالمية الثانية، وضعت قوتين دوليتين، في قمة الهيمنة على السياسة الدولية هما الاتحاد السوفييتي، الذي وصلت قواته التي اكتسحت شرق أوروبا لقلب برلين، وقسمت المدينة بين برلين شرقية هي حدود الامبراطورية الشيوعية من الغرب، وبرلين الغربية، التي مثلت حدود الامبراطورية الإمريكية إلى الشرق.
أنجزت معظم الدول العربية في المشرق استقلالها بعد الحرب، باستثناء فلسطين التي وضعت تحت الانتداب البريطاني، وبقيت كذلك حتى صدور قرار التقسيم 181 في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947. وبدأت مرحلة الانقلابات العسكرية، التي كان لسوريا نصيب الأسد فيها. وفي عام 1952 استولى الجيش في مصر على السلطة، وبدأت مرحلة جديدة في التاريخ العربي، وفي الصراع الدولي على هذا الجزء من العالم. حيث بات الحضور السوفياتي قويا في هذه المنطقة، ليشمل بلدانا عربية مركزية مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن وليبيا والسودان، واستمر ذلك حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وكان لذلك تأثيراته المباشرة، ولا يزال على شكل الهياكل السياسية والاجتماعية، وخطط التنمية في الوطن العربي، رغم تغير الأنظمة واختلال الصراع لصالح الغرب. ويبقى موضوع الصراع على الوطن العربي، ومناقشة تأثيراته على ما يجري الآن في هذه المنطقة من أحداث جسام، من المواضيع الحيوية والجوهرية التي ستكون لنا محطات معها، في أحاديث قادمة.
التعليقات مغلقة.