الوحدة واستعادة الحلم والوعي

0 259

 

 

أشرنا في الحديث الماضي إلى أن قراءة تجربة الوحدة بين مصر وسوريا، إن لم تتوجه إلى المستقبل ستصبح عدمية، كما هو الفكر عدمي حين يفتقر إلى الغاية وأكدنا على أن أمام التيار العروبي، مهمتين شاقتين، الأولى هي استعادة الحلم، وهي مشروطة باستعادة الوعي، ووجود استراتيجية قادرة على الانتقال من الحلم إلى الواقع، مستفيدة من قراءة تجربة الماضي، في عناوينه واتجاهاته وممارساته، وسبر أغواره، وكشف طلاسمه. في هذا السياق نحاول قراءة هذه التجربة، بعد خمسين عاما على تأسيسها.

وأول ما يلفت الانتباه في هذه التجربة هي قيامها بين قطرين أحدهما يقع في الجزء الشمالي الشرقي من القارة الإفريقية، والآخر يقع في القارة الآسيوية في شمال الوطن العربي. وأن القطرين لا تربطهما حدود برية أو بحرية مشتركة. وهذا كان أحد أوجه الصعوبات الفنية في الدفاع عن هذه التجربة، نظرا لافتقارها إلى رابطة الجوار. إن ذلك، في الغالب وباستثنناءات نادرة، لا ينسجم مع تركيبة الدول الحديثة، التي تفترض تواصلاً جغرافياً مع بعضها البعض ولن نأتي بجديد حين نذكر أن وجود الكيان الصهيوني، الذي يقع في نقطة الوصل بين القارتين الإفريقية والآسيوية، وبالتالي بين مغرب الوطن العربي ومشرقه هو إسفين موجه ضد أي مشروع وحدوي عربي يربط شطريه في القارتين مع بعضهما.

 

ويمكن في هذا الاتجاه، القول بمستوى يصل حد الجزم، أن وحدة مصر وسوريا ما كان لها أن تنفصل، رغم كل ما قيل عن أخطاء شابت التجربة، لو كان التواصل الجغرافي قائماً. لقد جرت محاولات انفصالية عديدة في دول كبرى وصغرى في مختلف بقاع الكرة الأرضية، ولكنها فشلت بسبب وجود الترابط الجغرافي، كما هو الحال مع الحرب الأهلية الأمريكية، ومحاولة انشقاق بعض الأقاليم في نيجيريا، وتمكن اليمن من هزيمة مشروع انفصال الجنوب عن الشمال بفعل ترابطه الجغرافي. والأمثلة في هذا السياق كثيرة. وبالمثل، نجحت محاولات الانفصال، بين دول شاب قيامها طابع الصنعة، كما هو الحال بين باكستان الغربية وباكستان الشرقية، المعروفة الآن ببنجلاديش. ورغم ما يشار له من خلافات بين البنغاليين والبنجاب والبشتون، كان لها الأثر في رغبة الجزء الشرقي من باكستان في الانشطار عن الجناح الغربي، فإن ذلك ما كان له أن يتحقق بالقوة العسكرية، لو لم تفصل بين الجناحين مسافة شاسعة، هي مساحة الهند.

 

إذا، فالدرس الأول المستفاد من هذه التجربة، هو أن أي تجربة وحدوية مقبلة بين قطر عربي أو أكثر ينبغي أن تتنبه إلى أهمية العوامل الجغرافية عند الإعداد لها.

 

النقطة الأخرى، أن الوحدة العربية، شأنها في ذلك شأن المشاريع التاريخية الكبرى، بحاجة إلى حاضن قوي لها، يملك القدرة على صيانتها، ويكون قيامها تعبيراً عن سيرورة تاريخية. بمعنى أنه لا يكفي أن يكون الحلم عاصفاً، والحضور قوياً لفكرة الوحدة في الضمير الجمعي للأمة، من دون توفير مستلزمات القوة، بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. في تجربة الوحدة بين مصر وسوريا كان هناك غياب لعاملين أساسيين في تحقيقها، الأول هو أنها لم تكن حاصل سيرورة تاريخية، ولم تأت استجابة لتراكم نضالي منظم متجه نحوها، والثاني، هو غياب الحاضن الاجتماعي، القادر بقوة ثقله الاقتصادي والسياسي على إحداث خلل في معادلة التوازن لمصلحة مشروع الوحدة ذاته.

 

لقد كان قيام الوحدة المصرية السورية، تعبيراً عن أزمة، هي التهديدات العسكرية الأجنبية، ومحاولاتها تحقيق اختراقات محلية، داخل المؤسسة العسكرية في دمشق، لدمج سوريا بالأحلاف والمشاريع الغربية التي كانت قائمة آنذاك، وفي مقدمتها حلف بغداد. هذه التهديدات، وطبيعة اللحظة التاريخية التي عاشتها مصر، بقيادة زعيم تاريخي، امتلك مقومات القيادة والجاذبية، وتسنده قرارات وطنية حاسمة، في المقدمة منها كسر احتكار السلاح، وتأميم قناة السويس، والتصدي الأسطوري الباسل للعدوان الغاشم، وتشييد السد العالي، وبناء خطط تنموية طموحة، والتزام قومي واضح المعالم، هي التي دفعت بمجموعة من الضباط السوريين، من ذوي التوجهات القومية، يدعمهم حزب قومي، له حضور قوي بالبرلمان السوري، هو حزب البعث العربي الاشتراكي، بالتوجه إلى القيادة الناصرية بالقاهرة، للضغط باتجاه تحقيق الوحدة بين القطرين. وقد انعسكت الظروف الإقليمية الصعبة والمعقدة في المنطقة نفسها على طريقة قيام الوحدة الاندماجية، حيث تم تحقيقها على وجه السرعة، في محاولة بدت منطقية ومعقولة لدرء المخاطر من خلال خلق حقائق جديدة على الأرض.

 

هكذا إذن تحققت الوحدة بين القطرين، باعتبارها مشروعاً سياسياً، لاحتواء المخاطر التي كانت سوريا تتعرض لها آنذاك، وليس كتعبير عن سيرورة تاريخية، وبروز تشكيلات اجتماعية قادرة بالفعل، على أن تكون الحاضن لمشروع الوحدة، كونها أحد تعابير مصالحها وتوجهاتها.

 

وهكذا جاءت الوحدة، ضمن الظروف التي برزت فيها تعبيراً عن واقع مأزوم. وكانت في طموحاتها، وشعاراتها أكبر بكثير من طاقة القوى التي فرضت كحاضن لمشروعها. وجرى بناء مشروعها على وجه السرعة غيبت فيه جملة من الحقائق المهمة، التي ربما شكَّل الوعي بها مصدات، تحول دون نكسة الانفصال. وأهم تلك الحقائق اختلاف البنية السياسية والاجتماعية، وضخامة المشروع، الذي وضع، منذ البداية في صراع سياسي واقتصادي، وحتى عسكري غير متكافئ مع إمكانيات الخصم. كما غيبت الامتداد الجغرافي، كما فصلناه في صدر هذا الحديث.

 

ففيما يتعلق بالبنية السياسية، نشير إلى قرار حل الأحزاب الذي اتخذته قيادة الوحدة في الأيام الأولى لقيامها، والذي كان جزءاً من اتفاقية الوحدة. هنا نلاحظ أن صانع القرار، كان متأثرا بقرار آخر مماثل اتخذته قيادة ثورة 23 يوليو/تموز عام 1952 بعد قيام الجمهورية. والقرار الأول ربما كان صائباً بالكامل، بسبب علاقة حزب الوفد، الممثل لليبرالية آنذاك، بالمندوب السامي البريطاني، والتي بلغت ذروتها عام 1943، عندما حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين، وفرضت على الملك فاروق تعيين زعيم حزب الوفد، مصطفى النحاس رئيساً للحكومة، أو التنازل عن العرش في حالة الرفض. وكانت الأحزاب الأخرى، ممالئة إما للبريطانيين أو القصر، وضالعة في عمليات الفساد والنهب التي طبعت تلك المرحلة. وحين جاءت الثورة بدا حل الأحزاب منسجماً بالكامل مع التوجهات الوطنية للنظام الفتي.

 

أما الأحزاب السياسية في سوريا في معظمها لا تحمل تركة فساد البنية التقليدية والإقطاعية التي سادت في مصر، وكان بعضها يستمد مشروعية حضوره من ايديولوجيته القومية وأطروحاته الوحدوية. وهذه الأحزاب القومية هي التي بشرت بفكرة القومية والأمة الواحدة، منذ منتصف الثلاثينات، وصعَّدت نضالها في الأربعينات من أجل تحقيقها. وكانت تقف إلى جانب العسكريين، الذين يؤمنون بالتوجه القومي من أجل إقامة الوحدة. وكان بالإمكان استثمار تراكم خبرتها النضالية من أجل حماية ودعم التجربة الوليدة. لكن اختيار قيادة الوحدة كان حل جميع الأحزاب السورية، بما فيها الأحزاب القومية فكان لذلك تأثيراته السلبية اللاحقة في العلاقة بين القوميين أنفسهم، وقد ترك ذلك بصماته على العمل القومي الشعبي حتى يومنا هذا.

 

ولعل قيادة دولة الوحدة، بزعامة الرئيس جمال عبدالناصر، قد رأت في استمرار الأحزاب السياسية، بمختلف توجهاتها، ممارسة دورها في القطر الشمالي، كيلا بمكيالين في دولة واحدة، فوجدت أن من غير المعقول حل الأحزاب السياسية المصرية، وحرمانها من ممارسة نشاطها، بينما يكرس وجود الأحزاب السورية، ويتاح لها ممارسة أنشطتها. وهي حجة منطقية ومعقولة إذا أخذت في هذا السياق، لكن هذا التعليل لا يقلل من الآثار السلبية لقرار الحل في مشروع الوحدة برمته.

 

ويبقى علينا أن نتعرض لغياب الفوارق الاجتماعية بين مصر وسوريا، والتأثيرات السلبية لتطبيبق قانون الإصلاح الزراعي في مصر، وهو إشكال يعيد تكرار معضلة حل الأحزاب السورية، وسوف نناقش إسقاطات ذلك في تعثر مشروع الوحدة بين القطرين. وسوف نتعرض بالمناقشة والتحليل السريع لنقاط أخرى مهمة ذات علاقة بهذه القراءة في الحديث المقبل بإذن الله تعالى.

 

cdabcd

 

editor@arabrenewa.com

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة ماجد الخالدي)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بارك الله في قلمك .. لا يمكن للقارئ إلا أن يقف عند هذه التحليلات متدبراً ومعيداً لقرائتها ففيها الكثير مما هو ضرورياً للمراجعة والإعتبار ومحاولة التقويم ومن ثم إعادة التصويب وفقاً للمرحلة ومتطلباتها .. المرحلة التي تعيشها الأمة وستحدد مصيرها القادم الذي نرجو الله جلت قدرته أن تكون برداً وسلاماً على الأمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

اثنان × واحد =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي