الوحدة للخروج من نفق الأزمة
يتفق الجميع على أن النظام العربي الرسمي، يمرّ بأزمات مستعصية عدة، لا يبدو بصيص أمل لتجاوزها في الوقت الراهن. فالدولة القطرية، التي باتت أمراً واقعاً، منذ تمكنت البلدان العربية من إنجاز استقلالها، لم تتمكن من مقابلة استحقاقات الناس وآمالهم في التقدم والحرية والنماء. وقد بات التمسك بالوحدة الوطنية/ الدولة القطرية، في وجه محاولات التشظي والتفتيت، أمراً جوهرياً وملحّاً، لأن البديل عنها هو قيام كانتونات الطوائف والقبائل.
وفي سياق مناقشة سبل الخروج من أزمة الشرعية الراهنة للنظام العربي، يبدو الحديث عن وحدة العرب، في ظل الواقع المعيش، أمراً مستغرباً، وغير مُجد، وسط الخراب واليأس اللذين يعمّان معظم البلدان العربية. لكنه يبدو أمراً لا مفر منه، بعد أن اتضح دور التجزئة في تكريس واقع الفساد والاستبداد، واستمرار التشكيلات البطركية، ومنع قيام نظم سياسية قوية، وتهديد المستقبل والوجود العربيين.
فالوضع الراهن لا يشي بقدرة أي بلد عربي بمفرده على الخروج من نفق الأزمة، والولوج بقوة واقتدار في العصر الكوني الذي نحياه. وقد أدرك قادة حركات التحرر الوطني العربية هذه الحقيقية، أثناء مقارعتهم للاستعمار، فأكدوا على أهمية الكفاح العربي المشترك. بل إن دساتير معظم الدول العربية المستقلة نصت على انتماء بلدانها للأمة العربية، وعلى أن من أهدافها الرئيسية تعزيز العمل المشترك، وصولاً إلى تحقيق الوحدة العربية.
ولعل الذاكرة لا تزال تحتفظ بسعي العرب الحثيث في الأربعينات لتحقيق الوحدة فيما بينهم، وبشكل خاص في بلاد الشام، وكيف أن الاستعمار البريطاني، قام بعملية استباقية، للحيلولة دون تحقيق ذلك، بتشجيع القيادات العربية على تأسيس جامعة الدول العربية، كوسيلة لمنع قيام الوحدة، وتكريس واقع التجزئة بادعاء أن ذلك سيساعد على التقريب بين الدول العربية، ويقوّي أواصر التعاون فيما بينها.
إن الدعوة لوحدة العرب، في ظل الوضع الراهن، هي دعوة للقضاء على الفوضى، وتجاوز الضعف، وأن يكون لهذه الأمة مكانتها اللائقة بين الأمم، وسط التشكل المرتقب الجديد للنظام العالمي، وفي زمن لا يحترم فيه سوى الأقوياء.
وتشكيل نوع من الاتحاد العربي، في هذه اللحظة التاريخية المصيرية الحرجة، سيمكّن العرب، من إقامة علاقات متوازنة ومتكافئة، مع النظام الدولي، والقوى الكبرى، ويساعدهم في استخدام ثرواتهم ومدخراتهم في بلادهم، بما يحقق التكامل الاقتصادي فيما بينهم. وبهذا لا تضطر الدول الفقيرة لرهن سيادتها واستقلالها، لقاء الديون التي تحصل عليها من صناديق الدول الكبرى. ولا تكون اقتصادات الدول العربية الغنية، رهناً للتقلبات المالية في الأسواق العالمية.
إن أي دولة عربية، بمفردها، في ظل الوضع الاقتصادي العالمي الراهن، مهما بلغت قوة اقتصادها، لن تكون قادرة على التعامل مع المتروبولات الكبرى بصورة متكافئة، أو أن تمارس الضغط ليكون التبادل التجاري معها أكثر توازناً، وأقل إجحافاً.
وبالمثل، ليس بمقدور البلدان العربية منفردة، رسم وتنفيذ خططها الاقتصادية اللازمة لتجاوز حالة التخلف، وتحقيق تنمية اقتصادية، لأن إمكاناتها المالية أو قواها البشرية، لا تسمح لها بذلك. إن رفع الحصار الاقتصادي والجمركي بين البلدان العربية، وتأمين الحماية للمنتجات العربية، وقيام السوق العربية المشتركة سيساهم بشكل رئيسي في حل مشكلة تصريف المنتجات العربية، التي تفتقر في ظل الواقع الراهن، إلى التنافس مع صناعات الدول المتقدمة حتى في أسواقها المحلية، نتيجة لعدم وجود الحماية الجمركية الكافية، ولصغر حجم رقعة السوق. وقيام شكل من أشكال الوحدة العربية، سيتكفل بإعادة تشكيل الخريطة السكانية والاقتصادية للبلدان العربية، بما يعالج هذه الاختلالات، ويخدم مصلحة جميع البلدان العربية.
إن قيام شكل من أشكال الوحدة بين البلدان العربية، في ظل ما تعانيه الأمة من مخاطر وتحديات، يأتي ضمن سياق تاريخي، لكونه لا يمنح قوة كبيرة للعرب في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية فقط ، بل إنه يسهم في تعزيز استقلال العرب، ويأتي متسقاً مع اتجاهات العصر.
والعمل الوحدوي، أمر ملح وجوهري، ولا ينبغي تركه لتغير الظروف السياسية، كما ليس من شروطه أن تلتحق به جميع البلدان العربية دفعة واحدة. وهو ليس تعارضاً أو تضاداً مع الولاء والإخلاص والانتماء الوطني، بل إنقاذ وترسيخ لهما، حيث تضع الجزء في مكانه الصحيح من الكل، وحيث يستطيع البلد العربي الواحد، أن يكون فاعلاً ومؤثراً، ضمن مجموعة بلدان عربية فاعلة ومؤثرة.