الواقع العربي معكوسا: من التمدين إلى الترييف
وتبنى موقفا حداثيا بامتياز، أما الآخر، فرأى في الموروث ما يكفي لكي يستعيد العرب دورهم، ويشاركوا بفعالية بالحضارة الإنسانية.
وقد ناقشنا إشكالات هذه الحقبة في عدد من المواضيع التي نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية، ولن نعود لها مجددا في هذه القراءة. فما تهتم به في هذا الحديث، هو البعد الاجتماعي وتأثيره، على حالة التردي الراهنة، التي تمر بها الأمة، وبشكل خاص تغول ظاهرة الإرهاب.
في البعد الاجتماعي، يمكن القول، بقليل من التحفظ، أن معظم رواد عصر النهضة، هم من أبناء الطبقة المتوسطة، الذين مكنتهم أحوالهم المعيشية من إرساء أبنائهم إلى الخارج للدراسة. وكانت مدينة الضياء، باريس، مركزا هاما تجمع فيه هؤلاء الرواد، ونهلوا من المعارف السياسية والاقصادية، في جامعاتها المرموقة. وعادوا إلى بلدانهم ينافحون الاستعمار العثماني، ويبشرون بعهد جديد.
السمة الأخرى، لمعظم هؤلاء أنه كانوا أبناء الأسر الارستقراطية والطبقة المتوسطة في المدن العربية الكبرى: في بيروت ودمشق والقاهرة وبغداد، بحيث يمكن القول أن هذه المدن غدت مركز إشعاع حضاري، لعصر التنوير العربي.
انتهت الحقبة الأولى، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، ووضع اتفاقية سايكس- بيكو ووعد بلفور قيد التنفيذ. لقد مثلت نتائج تلك الحرب، ضربة قاصمة لمشروع التنوير، مفسحة المجال لما بات معروفا بالإسلام السياسي، لأن يأخذ مكانه، منذ نهاية العشرينيات من القرن المنصرم، وليشكل هذا التيار إسفينا في خاصرة التوجهات الليبرالية، التي مثلها رائد الاستقلال، حزب الوفد آنذاك، ومن خلال التحالف مع حكومة إسماعيل صدقي، المعادية للتوجهات المدنية.
عكست التمظهرات السياسية الجديدة، تراجعا واضحا لدور المدينة، ولمشاريع التمدين، وبروزا لدور الأطراف. فرواد التوجهات الجديدة، هم في الغالب قد وفدوا من الأطراف، بعيدا عن المدن التي انطلقت منها حقبة التنوير. ويمكن التأكد من هذه الطريحة، بقراءة السير الذاتية لرواد الإسلام السياسي، منذ حقبة تأسيسه، حتى يومنا هذا. فهؤلاء في غالبيتهم ينحدرون من الأرياف ويعادون نمط العيش بالمدن، ويقفون بالضد من كل ما يمت للتمدين من أفكار.
جرت في هذه الحقبة مزاوجة بين التيار السياسي، وبين بعض السياسيين، الذين دخلوا في السياسية من بوابات العجز عن مواجهة الاحتلال الأجنبي، وشكلوا قوى رديفة له. وانتهت هذه الحقبة بنكبة فلسطين عام 1948م. لتتبعها مرحلة الانقلابات العسكرية.
أما الحقبة الثالثة، فهي حقبة الانقلابات العسكرية، وقد استمرت حتى نكسة الخامس من يونيو عام 1967م, وخلالها تزايد عدد سكان الأقطار العربية، وحدثت هجرات كبرى من الأرياف إلى المدن العربية الكبرى. وبدأت مرحلة ترييف حقيقية لهذه المدن. وكانت معظم القيادات السياسية الجديدة، نتاج تلاقح بين الريف والمدينة.
لقد نشأت القيادات السياسية الجديدة، في الريف والمدينة في آن واحد، ولهذا فهي في التحليل الاجتماعي فئة هجينة، مرتبطة ثقافيا واجتماعيا بأصولها المركبة. إنها تشكل كيانا تاريخيا نابعا من ظروف التبعية . وهي فئة غير منتجة اقتصاديا، وتتجه اتجاها سريعا نحو الاستهلاك, أما وضعها في سياق الإنتاج فهامشي، وذلك ما يفسر جزئيا على الأقل ازدواجيتها وفشلها وعدم استقرار اتجاهاتها السياسية والاجتماعية.
كانت هزيمة يونيو 1967م، فاجعة كبرى للأمة، وبداية للحقبة الرابعة في التاريخ العربي، وللأسف فإن البديل عن الحقبة السابقة لم يكن عودة لعصر التمدين، بل إيذانا بانتعاش جديد لتيارات الإسلام السياسي. وحين شن الكيان الصهيوني هجومه على الفلسطينيين في لبنان واستباح مدينة بيروت، أحد المعاقل المتبقية من عصر التنوير، تضاعف حضور الإسلام السياسي في المنطقة العربية.
لقد اختمرت ردود فعل غاضبة عنيفة في بنيان الأمة، واستمدت الشعب العربي حيله من ماضيه، لتحقيق توازنه، في وجه محاولات تغريبه. وكانت ردة الفعل هي الانخراط في الحفل المعمد بالدم، والهادف إلى تحقيق انتحار جمعي. وكان موسم ربيع التطرف، قد بدأ يتحرك بقوة منذ تلك الحقبة، متخذا من أفغانستان مركزا انطلاقه.
في الحقبة الخامسة، تغيرت الخارطة السياسية العالمية، سقط الاتحاد السوفييتي وانتهت الحرب الباردة، وتوجت الولايات المتحدة قطبا وحيدا، على عرش الهيمنة الدولية. ولأن ذلك نشاز في التاريخ الإنساني، والكون لا يقبل الفراغ، وحقبة الانتقال من نظام عالمي لنظام آخر، فكان لا بد أمام هذا الفراغ، أن تملأه طحالب من نوع آخر. طحالب، قدمت من الأطراف، وتماهت مع مشاريع مشبوهة في تفتيت المنطقة، والقضاء على أي دور تاريخي محتمل للأمة.
وقد ووجدت هذه الطحالب ضالتها في احتلال أمريكا لأفغانستان والعراق، واستثمرت ما عرف بالربيع العربي، لتحرق الأخضر واليابس، ولتصادر كيانات وتسقط هويات. وقد تسببت حتى الآن في خروج أربعة أقطار على الأقل من الخارطة السياسية العربية، والقادم أخطر.
ليست الجرائم الإرهابية الأخيرة في المملكة، بجدة والمدينة المنورة والقطيف سوى نتاج فعل هذه الطحالب. ولسوف نظل في حالة مواجهة لا تنتهي إلا أن تتحقق هزيمة فكرها الوافد من غياهب التخلف والضياع. ولن تعود البهجة والفرح، إلا حين نغلب العناصر القادرة على أن تجعل منا ترسا فاعلا في مسيرة الإنسانية الصاعدة إلى أمام.