النهضة العربية: الحرية والعدالة
إحدى المعضلات التي واجهت مشروع النهضة العربية، هي تغليب أحد عناصره، ووضعه في تقابل، مع عناصر المشروع الأخرى. فقد طرح أثناء المواجهة مع العثمانيين، والأوروبيين، بقوة شعار الحرية والاستقلال. وغُيبت مشاريع التنوير والحداثة والعدل الاجتماعي. وكان ذلك رهنا لطبيعة اللحظة التاريخية، لحظة المواجهة مع الاستعمار التقليدي.
انتهت الحرب العالمية الأولى، بمشروعين استهدفا شعاري الاستقلال والحرية: اتفاقية سايكس ــــ بيكو ووعد بلفور. وقد هزت نتائجهما الوجدان العربي، وكان المؤمل أن تفتح الأبواب ليقظة جديدة. لكن طبيعة الصراع، لم تترك فسحة للمراجعة. توالت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقسم المشرق العربي، بمسطرة من خارج المكان. وحدثت النكبة، في ظل توجس وغفلة، ما كان لهما أن يكونا غير ذلك.
لكن المناخات التي أعقبت الحرب الكونية الثانية، ووجود نظامين عالميين، رأسمالي واشتراكي، نقلا التقابل في الصراع، إلى العدل الاجتماعي. أصبح شعار الحرية مسكونا بهواجس الانتماء للمشروع الإمبريالي، وتغلب عنوان العدل على كل العناوين الأخرى. ومن جديد أصبح الصراع داخل مشروع النهضة، وبين عناصرها، وليس بين المشروع وبين عناصر التوتر المستهدفة لوجوده.
وهكذا، تأسس النظام العربي، بعد الحرب العالمية الثانية، على قاعدة الصراع بين العناصر اللازمة للنهضة، بدلا من التفاعل الخلاق بينها. وكان الصراع في الخمسينيات والستينيات، في المجتمع العربي، بين عناوين النهضة: بين الحرية وبين العدل. لماذا حدث ذلك؟ وما السبيل لتجاوز هذه المعضلة؟
الواقع أن انقسام العالم إلى معسكرين، ترك بصماته على مجرى الحراك السياسي والاجتماعي في البلدان العربية. ولأننا لم نكن صناع أفكار أو مشاريع، فقد مثل تلقينا للمشاريع الوافدة من الغرب والشرق، صدى واهنا عاجزا عن الارتقاء إلى صياغة مشروع، يستوعب المحركات الذاتية، وينطلق من التربة الوطنية. لم تكن مشاريع الحرية أو العدل نتاج صيرورة تاريخية، بل كانت نقلا مشوها، غيبت فيه مهام التوطين، وكان التغييب وجها آخر، للعجز عن المبادرة والإبداع، وتعبيرا عن ضحالة الفكر، وهشاشة الهياكل الثقافية والفكرية والاجتماعية السائدة.
انتهت حقبة من التاريخ، بسقوط الاتحاد السوفياتي، وهيمنة اليانكي على العرش الأممي. وكان دورنا من جديد هامشيا. أنسقنا لمهرجان ”نهاية التاريخ”، وبلوغ المجتمع الإنساني، مرحلة ”النظام العقلاني” على الطريقة الفيبرية. وعاد الحديث عن الليبرالية والنظام الغربي، والديمقراطية باعتبارها مثلاً وقيماً جديدة، رغم أنها سادت في الغرب لما يقرب من قرنين ونصف، أعقبت اندلاع الثورة الفرنسية.
مكمن الداء هو وضع عناصر النهضة، في مواجهة بعضها. ووضع المواطن بين خيارين، أحدهما يصادر حرية المواطن، والآخر يصادر الوطن والمواطن، ويفتتت المفتت. يواجه الاستبداد بالتفتيت، ويقع كثير من المثقفين في حبائل التنظير الهادف لإضعاف الأمة. عنصر نهضوي في مواجهة عنصر نهضوي آخر، الحرية في مواجهة التنمية والعدالة.
لن تستقيم المعادلة إلا بإعادة الاعتبار، لعنصري النهضة: الحرية والعدالة. وكلاهما يتطلب نبذا لسياسة الإقصاء، وحقا في تكافؤ الفرص، وإسهام الأمة في صناعة قراراتها، ضمن علاقات تعاقدية، تؤكد على تجاوز التفرد، وتغلب لغة القانون.
فقضية الوحدة العربية، على سبيل المثال، وقد رأى معظم المفكرين العرب، أن علاقتها بنقل المجتمع العربي، من مجتمع تقليدي إلى مجتمع متقدم هي علاقة ترابط وتكامل. إن نجاح أحدهما يتوقف على نجاح الآخر، وأن الفصل بينهما مهمة مستحيلة. في هذه المسألة ركز الفكر القومي على المضمون الاجتماعي للوحدة، باعتبارها إعادة تشكيل سياسي واجتماعي. وأن ذلك يحدث فقط في صيغة تحول حاسم، وليس عبر تطورات تدرجية. الوحدة ضمن هذا المنطق، لن تتم من خلال بُنيات فوقية، حالها في ذلك حال التغيرات الاجتماعية الكبرى في التاريخ الإنساني.
هذه الرؤية تراجعت، بعد نكسة حزيران (يونيو) 1967، التي مثلت تحولا استراتيجيا في الفكر العربي. فلم يكن للتاريخ أيضا أن يعاود خطاه بشكل ميكانيكي، دونما مراجعات نقدية لمرحلة التي أفرزت النكسة. مراجعات نقدية، تنطلق من التسليم بالنسبي في قراءة التاريخ، وأيضا من كون التاريخ صيرورة وحركة في آن معا. صيرورة، بمعنى الخلق والإبداع، وحركة تتفاعل فيها آليتا التفسير والفعل، وتشملهما معا. وذلك هو شأن كل تقييم إيجابي لتجربة إنسانية فوارة.
وفي عملية الخلق هذه، حدثت رؤية جديدة للدولة القطرية، بدلا من وضعها في خط معاد للأمة، كما كان الحال في أدبيات الستينيات، إلى حال جديدة. أصبحت الدولة القطرية، الآن منطلقا وطنيا، نبني عليه، ولا نتجاوزه لتعزيز العمل الوحدوي. ننطلق منه إلى صيغ، تحقق الهدف الأسمى من فكرة الوحدة، خدمة مصالح الناس، ولحاق هذا الجزء من العالم، بقاطرة النمو والنهوض، وليس صيغة الاندماج الكامل، المنفعلة، التي كانت عنوانا لمرحلة الصعود في الفكر القومي.
ولأن التاريخ صيرورة وحركة، إرادة وفعل، لم تعد سياقات الثورات الاجتماعية الكبرى، وحدها دليل للعمل. فمن المنظور البراجماتي لسنا في حاجة إلى كبير عناء لتعريف من هو العربي. فمن ينوء كاهله بالتجزئة، من يطالب بانتقال رؤوس الأموال العربية، من يطالب بفتح سوق العمل للعمالة العربية، من يطالب بإلغاء تأشيرات السفر بين العرب، من ينادي بعملة عربية موحدة، من يطالب بجواز سفر عربي موحد، من يطالب بإقامة سكة حديد تربط الأقطار العربية، من يؤمن بهذه الأهداف فرادى أو مجتمعة هو وحدوي، دون الدخول في متاهات أيديولوجية أو شعارات معقدة. والعربي، هو من يعيش على الأرض الممتدة، من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، ويؤمن بحق أهلها في تقرير مصائرهم وأقدارهم، والنهوض ببلدانهم، وسيادة مفهوم المواطنة المستند على الندية والمساواة والتكافؤ هو عربي. ذلك بالتأكيد، يقتضي مراجعة واعية أعمق، لعناصر اللازمة لتكوين الأمة القومية، لغة وتاريخ وأرض مشتركة.. وإعادة صياغتها حيث تزج بمختلف الطاقات في عملية التنمية والبناء.