النكبة والقمة
حدثان بارزان في هذه الأيام يستحقان الوقوف أمامهما. الأول مرور 56 عاما على اغتصاب الصهاينة لأرض فلسطين وتشريد شعبها، والإعلان عن قيام كيان عدواني وغريب على المنطقة، شكل منذ نشأته وحتى يومنا هذا خنجرا في خاصرة الأمة، يحول دون وحدتها وتقدمها. والثاني هو انعقاد القمة العربية في تونس في 22 و23 من هذا الشهر، بعد أن فشلت محاولة عقدها في الشهر الماضي، نتيجة اختلاف بين وزراء الخارجية العرب حول إدراج موضوع الإصلاح السياسي في البيت العربي بجدول أعمالها. وقيل آنذاك، إن الحكومة التونسية قد فضت اجتماعات وزراء الخارجية العرب وألغت القمة بناء على ضغوط من الخارج، بينما تعللت حكومة تونس بأن القادة العرب لم يأخذوا مواضيع القمة المطروحة بالجدية التي تستحقها، وأنهم قرروا التملص من التمثيل الكامل لدولهم، بإرسال من ينوب عنهم من الوزراء لحضور القمة. وأياً تكن الأسباب، فإن القمة قد أجلت مجسدة عجزا وفشلا، يضافان إلى قائمة العجز والفشل اللذين يعاني منهما النظام العربي الرسمي.
ما العلاقة بين موضوع نكبة فلسطين وقيام دولة “إسرائيل” عام 1948م، وانعقاد القمة العربية القادمة في تونس إذن؟ وهل هناك خيط يربط بين الحدثين؟!. ولعلي أجيب بحسم، ودون شك أو تردد بنعم، فما أوقعنا في الفشل والعجز العربي الرسمي الشامل هي ذات الأسباب التي أوقعتنا في النكبة والهزيمة والنكسة، وهي التي مكنت من احتلال فلسطين عام 1948م، والنكسة التي أضعنا فيها شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان والقدس والضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967م، وهي التي أحالت انتصاراتنا عام 1973م في معركة العبور العظيم إلى أسهم لمضاربات، على طاولة المفاوضات انتهت بتوقيع وثيقة كالحة، في يوم أسود من تاريخ أمتنا، في كامب ديفيد، أعلنا فيها استسلامنا وتنازلنا عن حقنا في الاستقلال والأرض والكرامة والدفاع عن أنفسنا ومقدراتنا… بل وحتى عن هويتنا العربية… وهي أيضا ذات الأسباب التي مكنت مجرم الحرب، مناحيم بيجن من اجتياح لبنان وغزو بيروت، وترحيل المقاومة الفلسطينية، بعيدا عن محيطها وأدواتها وأهدافها. هي ذات الأسباب التي أوقعت باقتصادنا وهدته، وعطلت خطط التنمية في أمتنا، وأحالتنا إلى عشائر وقبائل تتصارع حول مراع وجمال لم تعد من مستحقاتها أو في دائرة ملكيتها. وهي أيضا ذات الأسباب التي مكنت من اجتياح القوات العراقية للكويت عام 1990م، وأدت إلى العدوان الأجنبي على منطقتنا. وقد استمر هذا العدوان يتخذ شكل الدوائر الحلزونية التي تتسع يوما بعد يوم، حتى لم تعد تبقي أخضر أو يابسا في خزائننا ومدخراتنا، بل وقضت على آخر نبض في قلوبنا ووجداننا وضمائرنا، لدرجة أننا لم نعد نفرق كثيرا بين خسائرنا من القتلى في مجازر شارون أو الأهداف التي تسجل على فرقنا في ملاعب كرة القدم. يقال إن أكثر من مئة ألف تظاهروا في عاصمة عربية إثر هزيمة فريقهم في كرة القدم، بينما كان شارون وعصابته من الصهاينة واليمينيين اللبنانيين مشغولين بقتل الفلسطينيين وتنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا!. وهي ذات الأسباب التي أدت إلى توقيع اتفاقية أوسلو ووادي عربة، والاحتلال الأمريكي للعراق واحتواء ليبيا والتهديدات الأمريكية المستمرة بحق سوريا، والعدوان الصهيوني المستمر على القيادات الفلسطينية والتشرذم والضياع العربي.
إنها تتمثل باختصار في ضبابية الأهداف وغياب الاستراتيجية وفقدان الإرادة. فنحن منذ حصلنا على صكوك الاستقلال، ولا نزال نعيش حالة من العجز سببها المراوحة وانعدام الرؤية. لم نفلح حين اتخذنا من المواجهة العسكرية مع العدو خيارا استراتيجيا، وحملنا الشعار أكثر مما ينبغي، ووضعنا عليه تبعات هزائمنا وخسائرنا. ولم يتساءل أحد آنذاك عن الأسباب التي أدت إلى الفشل، وحملت الأهداف المسؤولية في ذلك، وأعفيت الزعامات التي قادت، والأدوات والتكتيكات التي استخدمت من تلك المسؤولية. وانتقلنا إلى استراتيجية “السلام” واعتبرناه خيارنا لاستراتيجي. وأضعنا الموازنة بين الإرادة المسلحة بالقوة وبين الرغبة الصادقة في السلام. ولم نستطع التمييز بين السلام والاستسلام، ذلك أن الأول شرط يحققه تلازمه مع الأمن وضمان الحقوق، والثاني هدر لكليهما. وحين لا يكون هناك أمن ولا حقوق، لا يبقى مستقبل ولا أمل.
والغريب في الأمر أننا عند كل منعطف من حياتنا، وعند كل مفصل تاريخي، يتداعى القادة العرب لعقد اجتماع قمة، ينهونه في العادة بديباجة نارية، يتصور معها الجمهور العربي أننا أصبحنا قاب قوس أو أدنى من بوابة حطين”. وأن آمالا عريضة قد فتحت. فمرة خرجنا بقرار قمة عربي يرفض تقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وفلسطينية، وكان لنا منطقنا في ذلك، وهو منطق مشروع وأخلاقي ومقبول في تلك اللحظة. ولكن النتيجة أن الذي جرى تطبيقه على الأرض لم يكن قرار التقسيم، بل اغتصاب صهيوني لمعظم الأراضي الفلسطينية، وتشريد لمئات الألوف من الفلسطينيين، تم القبول بهما ومنحا شرعية الأمر الواقع فيما بعد من قبل الأسرة الدولية. ومرة أخرى، اجتمع القادة العرب في مصر، بدعوة من الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، بعد قرار إسرائيل تحويل مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب، واتخذنا قرارا بأن نمنع تحويل المياه بالقوة، وأن نؤسس جيشا فلسطينيا، وقيادة عربية موحدة، ومنظمة سياسية لتمثيل الشعب الفلسطيني، فكانت النتيجة أن مياه النهر قد حولت إلى صحراء النقب، وأن الكيان الصهيوني قام بهجوم صاعق على ثلاثة من الأقطار العربية: مصر وسوريا والأردن انتهت باحتلال أجزاء كبيرة من هذه الأقطار، وقضم البقية الباقية من الأراضي الفلسطينية. واجتمع القادة العرب في العاصمة السودانية الخرطوم في ظروف بالغة التعقيد، وأجمعوا على لاءات ثلاث شملت، عدم الصلح وعدم المفاوضات وعدم الاعتراف. وانتهينا بقبول القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، والذي تناول العدوان الأخير فقط، ولم يتناول جوهر القضية الفلسطينية، بل اختزلها في قضية لاجئين، وليست قضية شعب له كامل الحق والأهلية في العودة إلى دياره وتقرير مصيره.
وبعد العبور العظيم، اجتمع القادة العرب في الرباط، وناقشوا قضية تمثيل منظمة التحرير للفلسطينيين، وأبلغوا الشعب الفلسطيني في ذلك المؤتمر أنه شب عن الطوق وبلغ شن الرشد، وأنه آن له أن يتحمل مسؤوليته بنفسه، وألا شأن للقادة العرب منذ الآن به. وهكذا، في زمن السقوط والانهيار، حاول القادة العرب إقناعنا بأن تخليهم عن القضية المركزية للعرب جميعا، هو خطوة إيجابية باتجاه الاعتراف بوحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني.
هكذا ارتبطت النكبة والهزيمة والنكسة بالقمم العربية… أوضاع عربية مزرية، ومظاهر كئيبة موحية بالوحشة والغربة والضياع. لن يتغير الحال حتى يتغير ما في النفس، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). والخطوة الأولى نحو وقف حالة الانهيار هي وضوح الرؤية والأهداف وامتلاك الإرادة الحرة وتوفر الاستراتيجية الصحيحة، سواء كان ذلك باختيار درب المواجهة أو سلوك طريق السلام.. أعني السلام الحقيقي. وجميع هذه الخطوات مرهونة بترشيد القرار، وترشيد القرار يقتضي طي صفحة المصادرة للرأي والإقصاء للآخر وتجسيد مفهوم المشاركة الشعبية في صناعة القرار، وعدم الاستناد على الدخيل والغريب والاستقواء به على الشقيق، وتفعيل المواثيق والمعاهدات العربية التي تراكم عليها غبار النسيان، بما في ذلك معاهدة الدفاع العربي المشترك، والتكامل الاقتصادي، وميثاق جامعة الدول العربية.
إذا كان القادة العرب، جادون هذه المرة في إيقاف حالة الانهيار التي تعاني منها الأمة، فإن عليهم إيقاف مسلسل تقديم التنازلات للعدو الصهيوني والأمريكي، ونصرة أهلهم في فلسطين والعراق، ودعم حركة التحرير والمقاومة في القطرين الشقيقين. وبدلا من الخضوع للضغوط الأمريكية، فإن البديل هو الاتجاه الفوري لإصلاح جامعة الدول العربية، حتى تكون منظمة قادرة بالفعل على الاضطلاع بالمهام المنوطة بها والتحديات الخطيرة التي تواجهها الأمة. وينبغي أن يتم ذلك من خلال مشاركة القوى الشعبية العربية في هذه الجامعة عن طريق برلمان عربي موحد، يصبح أحد الأشكال الدستورية لعمل الجامعة، وأن تتخذ القرارات في التصويت بالأغلبية وليس بالإجماع، منعا للتسيب والانفلات. وأن يصار إلى إصلاح هياكلها التي صدأت بعفل الشيخوخة والتقادم. وبالتوازي مع كل ذلك، ينبغي تحقيق إصلاح سياسي عربي، داخلي في كل قطر، بحيث تنتهي إلى الأبد أحادية اتخاذ القرار، ويصبح التفاعل مشتركا من القمة إلى القاعدة والعكس صحيح، بما يحول دون استمرار نتائج النكبة والهزيمة والنكسة والاحتلال، ويعيد الاعتبار للأمة من خلال التسليم والعمل على تأمين حقها في الحرية والاستقلال والكرامة..
e. mail: editor@arabreneal.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-05-19