النظام العربي الرسمي: الإرهاب وأسئلة الديموقراطية

0 202

بغض النظر عن منطقية أو عدم منطقية الطروحات التي ساقتها الإدارة الأمريكية لإعلان حرب عالمية على ما يدعى بـ”الإرهاب”، فإن الذي لا شك فيه أن هذه الحرب قد أدت إلى فتح ملفات مغلقة ومشاريع مؤجلة. كما طرحت من جديد إعادة صياغة الخارطة السياسية للمنطقة العربية بأسرها، بشكل دراماتيكي، وغير مسبوق، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. وتأتي العودة الجديدة للحديث عن الديموقراطية والإصلاح السياسي في البلدان العربية كأحد أوجه الصياغة الجديدة للخارطة العربية.

 

إلا أن الملاحظ أن استجابة النخب العربية الحاكمة للضغوط الأمريكية باتجاه تحقيق برامج “الإصلاح” لا تزال بطيئة جدا، وغير متجانسة مع حجم الضغوط التي تواجهها على الصعد الداخلية والخارجية.

 

ولعل مرجع حالة التردد والإرتباك وانعدام التوازن التي تسود الواقع العربي الآن، تعود في جزء كبير منها إلى قناعة هذه النخب أن الديموقراطية الكاملة، بالطريقة السائدة في بلاد الغرب، والتي تعني القبول بالتعددية واحترام الرأي الآخر ومشاركة الجمهور في صناعة القرار السياسي وسيادة دولة المؤسسات، ليست في مصلحة الإدارة الأمريكية، كونها تضع تحت المجهر قضايا رئيسية ملحة لا ترغب تلك الإدارة في طرحها، مثل أسعار النفط والكميات التي ينبغي إنتاجها منه بما يتناسب مع متطلبات التنمية الوطنية وحاجة السوق المحلية وليس استراتيجيات الدول الصناعية، واستقلالية القرار الاقتصادي الذي يعني تكافؤا في فرص التعاون والاستثمار مع دول أخرى خارج منظومة التحالفات الأمريكية، والموقف من مشروع الشرق الأوسط الكبير والتطبيع مع الكيان الصهيوني، ومواجهة تسلل هذا الكيان إلى البلدان العربية، وكثير من القضايا الأخرى. ولذلك تسود قناعة عامة، تشارك فيها النخب العربية الحاكمة والجمهور على السواء، بأن الإدارة الأمريكية غير جادة في موضوع الإصلاح، رغم طرحها الحاد له، وأنها لا ترغب فيه. وأن ما يطرح في هذا الصدد ليس إلا واجهة أو وسيلة ضغظ للوصول إلى مآرب أخرى، ربما تتمثل في الإنخراط بمشروع الشرق الأوسط الكبير، أو تحقيق مقايضات على حساب القضية الفلسطينية. وفي هذا الصدد يشار إلى مقايضة مشاريع الإصلاح السياسي بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في بعض الأقطار العربية التي يتواجدون فيها انسجاما مع موقف مجرم الحرب الإسرائيلي، إرييل شارون في رفض حق العودة. ولعل في الصفقات التي عقدتها الإدارة الأمريكية مؤخرا مع بعض الحكومات العربية، والتي جرى فيها تجنب الحديث عن الإصلاح، ما يعزز هذا الإعتقاد.

 

ولهذا فإن النخب الحاكمة العربية لا تأخذ الضغوط الأمريكية باتجاه تحقيق الإصلاح مأخذ الجد، وهي تعلم أيضا أنها تمكنت في الماضي من الوصول إلى مساومات وتسويات مع الإستعمار التقليدي مستغلة بعض الأزمات الإقتصادية التي يعاني منها في المركز الأم، وأنها تمكنت من تحقيق كثير من المنجزات، بما فيها الحصول على صكوك الإستقلال، مقابل معاهدات واتفاقيات ضمنت هيمنة غير مباشرة للمحتل السابق. وتحت رعايته جرى تدشين الكيانات القطرية الصغيرة، في ظل ظروف محلية معقدة ومعروفة، وانتقال في توازن القوة، برز بوضوح بعد الحرب العالمية الثانية. ومن هنا، ساد طيلة الحقبة الماضية سلوك عام يتمثل في التعامل السلبي مع قضايا الوطن والأمة من قبل هذه النخب، والخضوع شبه التام لضغوط الدول الكبرى. ويأتي هذا الموقف ضمن سياق تاريخي وموضوعي صحيح، حتى وإن تعارض مع الطموحات والأماني القومية للشعوب العربية. وهكذا نشأت أزمة شرعية وثقة بين الجمهور والنخب الحاكمة، كون الأخيرة لم تضع في سلم أولوياتها، حتى في الحدود الدنيا، التعامل مع برؤية موضوعية مع مستحقات شرعية الحكم وواجباته.

 

وقد ساعد النخب العربية الحاكمة على موقفها هذا أن حركات التنوير ومشاريع الإصلاح السياسي التي بدأت طلائعها منذ مطلع القرن التاسع عشر، والتي ارتبطت بالتشكل القومي في مرحلته الأولى، لم تستطع أن تشق طريقها بثبات وقوة في الواقع العربي. ولعل ذلك يعود إلى أن نجاح هذه الحركات في تحقيق الإصلاح السياسي مرهون، إلى حد كبير، بوجود قوى اجتماعية فاعلة وقادرة على التأثير في محيطها، بما يحقق خللا في توازن القوة بين عناصر الإستبداد ومشاريع التنوير، لصالح الأخير طبعا. ولا شك أن عملية النمو السياسي والإجتماعي والإقتصادي قد جرى تعطيلها بفعل ظروف موضوعية، أهمها هجمة الإقتصاد الكولونيالي التفي على المحاولات الجنينية للتنمية العربية، وتحقيق اندماج غير متكافئ وتبعية مريعة للإقتصاد الأوروبي. وقد أدى ذلك إلى ضعف الهياكل الإجتماعية العربية. ولذلك فإن النخب العربية الحاكمة أخذت تتصرف بصلف وغطرسة تجاه قوى الإصلاح والتنوير، مدركة إمكانية احتواء هذه القوى، أو التصادم معها، تعويلا على أن نتائج المواجهة ستحسم حتما لصالحها، في ذات الوقت الذي كانت تخضع فيه سلوكياتها وممارساتها، خضوعا يكاد يكون كاملا وشاملا للضغوط الخارجية. وتنقل تحالفاتها، من قطب دولي إلى آخر، بناء على قدرة هذا القطب أو ذاك، وفاعليته في منحها الرعاية والحماية.

 

ولذلك يبدو أن هامش المناورة الآن هزيلا ومحدودا جدا بالنسبة للنخب العربية الحاكمة، أمام الضغوط الأمريكية، ويكاد يكون معدوما.

 

إن المشهد السياسي العربي كما يبدو الآن هو أشبه بمثلت تشكل الضغوط الأمريكية أحد أضلاعه، وقد بدأت الهجمة الأمريكية تأخذ أشكالا غير معهودة تمثلت في غزو أفعانستان واحتلال العراق، واحتواء ليبيا، والقادئمة لا تزال طويلة. ويشكل النظام العربي الرسمي ضلعه الآخر، ويبدو أن صورة رد الفعل تجاه الضغوط الأمريكية لا تزال باهتة ومبهمة، ولم يصل القادة العرب بعد إلى موقف جماعي، سواء في ما يتعلق بمواجهة هذه الضغوط أو الإنفتاح على شعوبهم. أما الضلع الثالث فيمثل في قوى التطرف والغلو التي تمارس القتل والتدمير في عدد من العواصم والمدن العربية. وفي مواجهة، رغم حجم الخسائر من القتلى من الأبرياء والمدنيين، تبدو خاسرة، وسوف تنتهي بالهزيمة في نهاية المطاف، كونها مواجهة مع العصر وضد التيار ومنافية لحركة التاريخ. وفي القلب من هذا المثلث يحضر الوطن وحقوق الناس في الحياة الحرة الكريمة.

 

إن النخب العربية الحاكمة، تراهن في رفضها لمشاريع الإصلاح على واحد أو أكثر من ثلاثة احتمالات: الأول، أن يستمر تصاعد المقاومة العراقية، بما يجبر الإدارة الأمريكية على إعادة النظر في مشاريعها واستراتيجياتها في المنطقة، ومن ضمنها مشروع الشرق الأوسط الكبير. وثاني هذه المراهنات أن تؤدي المشاكل الاقتصادية التي تتعرض لها الولايات المتحدة الأمريكية في الداخل، وتصاعد الخسائر المادية والبشرية الأمريكية في العراق إلى فشل الرئيس الأمريكي، جورج بوش في الإنتخابات الرئاسية المقبلة، وتسلم الديموقراطيين سدة الرئاسة، بما يعني تغير كبيرا ورئيسيا في التكتيكات وربما الإستراتيجيات التي صاغها الجمهوريون فيما يخص المنطقة العربية. وثالث المراهنات، أن تتوصل النخب الحاكمة في الوطن العربي إلى عقد صفقات معقولة مع الإدارة الأمريكية، بما يحقق التراجع عن تحقيق الديموقراطية وبرامج الإصلاح السياسي ومشروع الشرق الأوسط الكبير.

 

وفي هذا الإطار يعمل النظام العربي الرسمي على تحقيق نوع من التضامن الجماعي بين الحكام العرب لمواجهة الضغوط الأمريكية. وفي اعتقادنا أن هذا التضامن لن يكتب له النجاح، بسبب هشاشة العلاقة بين الحكومات وضعف مقاوماتها، وغياب الحد الأدني من التنسيق في المواقف بين قياداتها. ويأتي فشل عقد القمة العربية في تونس والصراعات الدائرة الآن بين القيادات العربية في السر والعلن كدليل غياب إمكانية اتخاذ أي موقف تضامني جماعي لمواجهة التحديات والتهديدات التي يتعرض لها النظام العربي. ولعلنا لا نأتي بجديد حين نقول إن الأنطمة العربية لا تحترم قراراتها، حتى تلك التي تتخذها على مستوى القمة، ولا تثق في بعضها البعض. وأن تجارب الماضي قد أثبتت أن إمكانية الاستفراد بها كل على حدة عملية سهلة. ولذلك لن يكون مستغربا أن ينهار التضامن المعلن بين هذه الأنظمة حول رفض “مشاريع الإصلاح” الأمريكية، والمرفوع الآن من قبل النظام العربي الرسمي تحت ذريعة الدفاع عن السيادة والإستقلال وعدم السماح للقوى الخارجية في التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية أحيانا، واختلاف التقاليد والثقافات والرؤى بين البلدان العربية ودول الغرب في أحيان أخر، وهي مبررت لا زالت تثير كثيرا من التساؤلات في أوساط القاعدة العريضة من الجمهور، على أية حال.

 

يبدو أن لا مناص من العودة إلى قلب المثلث، بدلا من التركيز على أضلاعه. فمواجهة الضغوط الأمريكية والقضاء على بذور التطرف والإرهاب، تقتضي قيام مصالحة كبرى بين النخب والقيادات العربية الحاكمة من جهة وشعوبها من جهة أخرى، حماية للوطن، واعتمادا على وحدة ومتانة الجبهة الداخلية في مواجهة الإبتزار الخارجي، وخشية من أن تؤدي الصفقات المحتملة إلى زرع قنابل موقوتة أخرى في البنيان العربي. كما تقتضي تفعيل الحوار، وفتح النوافذ مشرعة لدخول الهواء النقي والطلق، من أجل محاصرة أحادية التفكير ونهج التكفير، وصولا إلى قيام مجتمع سليم، يعترف فيه بدور المواطن، من خلال علاقة تعاقدية بين الحاكم والمحكوم، تحدد الواجبات والمستحقات التي ينبغي أن يضطلع بهبا كل فرد في الوطن بدءا من أعلى فرد في قمة الهرم إلى أصغر فرد في الخلية الإجتماعية. عسى أن يبرز من بين ركام الدمار والخراب والحرائق بصيص ضوء يعيد لنا الأمل والبهجة والكرامة.

 

›œš›œš›œš

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2004-04-28

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

أربعة × أربعة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي