المواطنة والوحدة الوطنية

0 246

في حديث جمعني بالأيام الأخيرة، مع قبطية أصيلة، بانتماء عربي حتى النخاع، تطرقت الزميلة العزيزة إلى قرار الحكومة المصرية باعتبار عيد الميلاد “القبطي” يوما قوميا تعطل فيه جميع الدوائر الرسمية، ويحتفل به جميع المصريين على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم. كان وجه الغرابة في القرار بالنسبة للزميلة، وربما لكثير غيرها من شعب مصر أن أحدا من الأقباط لم يتوجه بطلب إلى الحكومة المصرية لكي تجعل من هذا اليوم عطلة رسمية لكل المصريين، وأن ذلك قد جاء بمبادرة من الحكومة ذاتها.

حسنا فعلت الحكومة المصرية، وهذا الموقف يستحق الثناء والتقدير، لأنه استطاع أن يرتقي بمفهوم المواطنة إلى مستوى جديد يتجاوز النسب والحصص، ويتجاوز أيضا المفاهيم التقليدية السائدة . لقد اعتاد معظم المسؤولون العرب، النظر دائما إلى الأقليات القومية والدينية والطائفية ليس باعتبار أفرادها مواطنين كاملي الأهلية في الحقوق وفي المشاركة في بناء الأمة، بل باعتبارهم كما أقل شأنا من غيرهم من المواطنين الآخرين. ولذلك كانوا، في أحسن الأحوال، يضعون لهم نسبا وحصصا تتناسب مع حجم تمثيلهم في عدد السكان. وفي الغالب كان يجري تجاهل هذه الأقليات ويغض الطرف عن استحقاقاتها.

 

وقد شاءت حقائق الجغرافيا والتاريخ أن يضم وطننا العربي، في معظم أقطاره أقليات تأخذ طابعا عرقيا في مكان وإثنيا في مكان آخر، ودينيا في هذا القطر وطائفيا في القطر الآخر. وكان بالإمكان أن يكون ذلك مصدر إثراء وإخصاب للثقافة العربية، وأن يجعل من أمتنا واحة خضراء تزهو بكل الألوان. كما كان من شأن ذلك أن يجعل أمتنا متميزة في عطائها وإبداعاتها. إلا أنه نتيحة للحيف والجور وغياب الحقوق التي عانت منها تلك الأقليات فقد حدث خلل في العلاقة بينها وبين الأوطان التي تنتمي إليها.

 

وفي ظل هذا الخلل الفادح، نمت وتضاعفت صبوات تلك الأقليات للإنعتاق ولتثبيت هوياتها الثقافية والقومية والدينية. وقد وجد بين القوى الخارجية التي تضمر الشر بالأمة العربية، قديما وحديثا، من هو على استعداد لاستثمار وجود تلك الصبوات ونوازع الإنعتاق، فأخذوا في تغذيتها، وقدموا الدعم المالي والسياسي وأحيانا العسكري وشجعوا تلك الأقليات على القيام بمحاولات انفصالية عن الوطن الأم، في بعض الأقطار العربية. وحتى لا يكون الكلام إغراقا في العموميات، نذكر بالمحاولات الجارية في شمال العراق وجنوب السودان، ومحاولات بعث هويات مندثرة كالبربرية والفرعونية والفينيقية..

 

إن التهديدات والإعتداءات الجارية الآن بحق أمتنا، وفي المقدمة منها حرب الإبادة المستمرة التي تجري بحق الشعب الفلسطيني، والعدوان اليومي على العراق، والتقارير التي تصدر من دوائر غربية مشبوهة، في واشنطن ولندن حول مشاريع خبيثة تستهدف إعادة تشكيل الخارطة السياسية للوطن العربي بشكل دراماتيكي وغير مسبوق منذ توقيع اتفاقية سايكس بيكو في نهاية الحرب العالمية الأولى، التي قسم بموجبها المشرق العربي حصصا بين البريطانيين والفرنسيين، ووضعت بلاد الشام تحت الإنتداب البريطاني، مقدمة لتنفيذ المشروع الصهيوني في اغتصاب فلسطين، تجعلنا نطرح موضوع الوحدة الوطنية من جديد بشكل صريح، وبجرأة ترقى إلى حجم التحديات المصيرية التي تواجه منطقتنا، وفي المقدمة منها بلادنا العزيزة. فلم يعد مقبولا أبدا دس الرؤوس في الرمال، والتظاهر بأن الأمور تجري على مايرام. كما لم يعد مقبولا التعويل على علاقات “استراتيجية” ثبت وهنها، بعد حوادث سبتمبر 2001، التي لم يكن لنا فيها ناقة ولا جمل، مع عدو لا تتوانى ماكنة أعلامه وأجهزته العسكرية والإستخباراتية عن التهديد جهارا بحقدها وعدائها ونواياها الشريرة بحق ثقافاتنا وهويتنا ومعتقداتنا وحتى طريقة حياتنا.

 

لا بد في هذه المرحلة العصيبة والحاسمة من تاريخ أمتنا أن يصار إلى تسمية الأشياء بمسمياتها، وأن نكاشف شعوبنا بحقيقة الأخطار المحدقة بأمننا. فأمتنا أمام خطر حقيقي داهم. والشهور، بل ربما الأيام القادمة حبلى بالأعاصير والبراكين. ومن رأفة الخالق عز وجل بنا أن أعداءنا لم يأتونا غدرا، وإن لم يتورعوا عن الطعن من الخلف. بل جاهروا بعدائهم ونواياهم بحقنا. ولم يتركوا لنا عذرا لكي نتلكأ عن التهيؤ لمتطلبات المرحلة القادمة، والتي يأتي في المقدمة منها البحث عن عوامل القوة والوحدة والتماسك والصمود بين أبناء المجتمع الواحد، من أجل تفويت الفرصة على الذين يضمرون الشر لهذا الوطن وأهله. واستنفار روح الإنتماء والهوية واستحضار المحفز من التاريخ ومختلف مقاومات الأمة وحيلها الدفاعية في نفس كل فرد. وصولا إلى الإرتقاء بمفهوم الوحدة الوطنية إلى مستوى الإنصهار والتوحد.

 

وفي كل الأحوال فإنه يجب أن لا يغيب عن الذهن أن تحقيق الوحدة الوطنية ليس تجميعا لكم مهمل وراكد، لا ينتج عنه أي فعل إيجابي، بل هو انصهار حقيقي وتفاعل خلاق ومبدع بين إخوة تجمعهم رابطة الإنتماء إلى بلد ولغة ودين وهوية وقضية وآمال مشتركة، تجعل من وحدتهم سدا منيعا عصيا على الإختراق.

 

ومن المؤكد أن ترسيخ الوحدة الوطنية بين أبناء الوطن الواحد يتطلب أولا التسليم بمفهوم المواطنة، بما يعنيه هذا المفهوم في المجتمعات المدنية المتحضرة، تتحقق فيه المساواة بين البشر، وينال فيه الفرد موقعه الإجتماعي ووظيفته عن طريق كفاءته وقدراته ونزاهته، وليس عن طريق موقعه في السلم المناطقي والعشائري والطائفي. لا بد من تأسيس مفهوم جديد للمواطنة يقوم على أساس استكمال بناء مؤسسات المجتمع المدني، والإعتراف بأهمية دور الفرد، واحترام الرأي والرأي الآخر. وأن يصار إلى ترسيخ قيم التسامح والتكافؤ والتكافل بين الجميع.

 

لسنا بحاجة إلى أن يذكرنا أحد من خارجنا بأهمية النظر في إعادة صياغة مناهجنا وتجديد هياكلنا وطريقة تفكيرنا بما يتناسب مع المرحلة التاريخية التي نعيشها. فذلك قانون حياتي وحتمي، عمل به أجدادنا من قبل، وجسدوه من خلال تجديد مناهجهم الفكرية والسياسية. وتمكنوا به أن يشيدوا واحدة من أعظم الحضارات التي عرفها التاريخي الإنساني. ولم يكن صدفة أن يحتوي الكتاب الخالد، القرآن الكريم على ناسخ ومنسوخ، وأن يسن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه تشريعات جديدة تمس المؤلفة قلوبهم وتجدد التشريعات القائمة فيما يتعلق بإقامة الحدود. وبالقدر الذي تطورت فيه دولة الخلافة واتسعت حدودها وانضمت أقوام جديدة لها بالقدر الذي نشطت وتجددت فيه حركة الفكر والأدب والفلسفة، مؤدية إلى بروز مذاهب فلسفية وفقهية جديدة.. وكان أن نتج عن ذلك تطور من الغنوص إلى العرفان ومن ثم إلى بروز علم الكلام، ودخول الفلسفة إلى السجال الذي قاده العلماء دفاعا عن الإسلام.

 

وقد شمل التجديد شؤون الأدب والفكر، فأصبحت هناك خصوصيات للفكر والأدب في صدر الإسلام وأخرى بالعصر الأموي وثالثة بالعصر العباسي وهكذا.. وشملت حركة التجديد مذاهب الفقه والأدب ومختلف الإنشطة الإجتماعية، مؤدية إلى تطور في حركة العلوم، وتأسيس لعلوم جديدة في الجبر والفيزياء والكيمياء والفلك.

 

وهكذا فإننا حين ندعو إلى حركة تجديد شاملة في مفاهيمنا، تشمل مفهوم المواطنة والوحدة الوطنية فإننا لا نعمل ذلك تحت ضغط من أحد، بل نتجانس مع نواميس الكون وقوانين التطور. مستلهمين ذلك من موروثنا الخالد وسيرة أجدادنا العظام، وجوهر رسالة ديننا الحنيف اقتداء بالقول المأثور “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

 

 

 

 

تاريخ الماده:- 2002-12-25

 

 

 

التعليقات

 

2020-05–0 2-:05

غازي أبو فرحة من جنين – فلسطين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

أرجو الدخول إلى موقعي:

www.abufarha.jeeran.com

فيه أجزاء من كتابي : تعاقب الأجيال (الجيل الباني والجيل المستهلك)،انهيار الأمم والأفراد والجماعات . والذي توقعت فيه انهيار أمريكا عام 2005-+3 حسب النظريات العلمية وتحليل التاريخ ، كما يوجد بالموقع ست مقالات سياسية. تقبلوا تحياتي واحترامي ،

 

2020-05–1 1-:06

راشيد من المغرب

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

1 + 20 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي