المنطقة إلى أين؟
يميز في العلوم السياسية بين الهدف والاستراتيجية والتكتيك. فالهدف هو الغائية التي ينشد بلوغها الفعل السياسي، أما الاستراتيجية فهي البرنامج الموصل لتحقيق الهدف باستخدام ذكي لمختلف الأدوات والوسائل، بما في ذلك الترغيب والترهيب. ولأن الاستراتيجيات الكبرى في السياسة الدولية بطبيعتها، لا تتعامل مع واقع ظرفي قصير الأمد، وبالتالي لا تنجز دفعة واحدة، بل تأتي في شكل حلقات متصلة، تتسع مدياتها بالتدرج، لكن على طريقة عمل الأواني المستطرقة، فإن لكل حلقة من حلقات السلسلة هوية وبصمة خاصة. هذا التعامل الخاص مع كل حلقة من حلقات السلسلة الزمنية، يقتضي عملا خاصا، هو ما يطلق عليه مجازا، في العلوم السياسية، بالتكتيك.
إن مراحل الاسترخاء، في الحروب لا تكون عادة مرتبطة بالتغيير الروتيني في طواقم العمل السياسي، وإن كان لذلك دون شك تأثيراته وانعكاساته. كما أن الاستراتيجيات الكبرى، هي بدورها لها صفة الثبات النسبي، بمعنى أنها هي الأخرى لا تتغير بين يوم وليلة.
وكما في الاستراتيجيات العسكرية، أثناء الحروب، هناك وقفات تعبوية، يجري خلالها تقييم تجربة الأداء العسكري، خلال فترة معينة، وتستخلص منها الدروس والعبر، قبل العودة إلى ميادين القتال، فكذلك بالعمل السياسي، هناك وقفات لا بد منها، لإعادة تقييم حالات التقدم والانكفاء، وقراءة الاخفاقات التي تعرضت لها استراتيجية العمل السياسي في الفترة السابقة على عملية التقييم والمراجعة.
إن التغييرات الرئيسة في سياسة الدول الكبرى تحدث نتيجة تحقق انتقال رئيس وكبير في السياسة والخارطة الدوليتين، كبروز نظام دولي جديد، أو تغير في ميزان القوة الدولي. ويكون ذلك نتيجة لتحولات تاريخية دراماتيكية، كما هو الحال مع نتائج الحربين العالميتين، الأولى والثانية، أو سقوط الاتحاد السوفييتي، وتفرد الولايات المتحدة على عرش الهيمنة الدولية… وربما نضع في هذا السياق أيضا، ولكن بتحفظ إعصار الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.
هذه المقدمة تقودنا إلى الحديث الذي بدأناه في الأسبوع الماضي تحت عنوان: ماذا يجري بالمنطقة الآن محاولة للفهم، والذي وعدنا باستكماله هذا الأسبوع.
خلاصة حديثنا السابق هي أن التطورات المتلاحقة في المنطقة تشي بأن مشهدا سياسيا جديدا، مختلفا عن الذي عهدناه، في السنوات الماضية في طريقه لأن يأخذ مكانه، وأن أبرز معالم هذا المشهد هو تهدئة بعض الصراعات المحتدمة، وتحويلها إلى خلافات جزئية، يمكن أن تكون طاولات المفاوضات أماكن مثالية لإيجاد حلول مناسبة لها. وكان الحديث محملا بكثير من الأسئلة تحلقت حول مصير النظام الإقليمي الذي اقترحته الإدارة الأمريكية، المعروف بالشرق الأوسط الجديد، وأيضا مصير تحديد الخارطة النهائية للكيان الصهيوني، التي وعد بها رئيس الوزراء العبري، أولمرت، وكذلك مصير الاحتلال الأمريكي لبلاد الرافدين.
وكان الأهم ضمن تلك الأسئلة، هو التساؤل عن الأسباب التي دفعت بإدارة الرئيس بوش، لاختيار هذه اللحظة لطرح تكتيك التسكين والتفاوض، في الوقت الذي تلعب فيه هذه الإدارة بالوقت الضائع، وتشارف على الرحيل. ولماذا اختارت الحكومة الإسرائيلية أن تبدأ مفاوضات سرية مع سوريا، برعاية تركية حول الانسحاب من هضبة الجولان، في وقت يتوقع فيه أن يجري خلع رئيس الوزراء، أولمرت من الحكم، أو يجبر على تقديم استقالته.
لماذا الآن؟!
علامة الاستفهام الكبيرة، هذه تحمل معنى متضمنا، يكمن فيه سر الجواب على جملة الأسئلة التي تناولنا طرحها في الحديث السابق. ذلك أن الجواب كما يشاع بالأقوال الشعبية، يقرأ من عنوانه. وجدية أي برنامج يقترح العمل به، هي في قدرة من يطرحه على تنفيذه. والقدرة ترتبط بضمان سيروة الفعل وتواصله. ونحن هنا إزاء إدارتين مشرفتين على الرحيل، وكلاهما يعيش واقعا مأزوما وكارثيا.
والقراءة الموضوعية لكل التطورات التي حدثت في الأسابيع الماضية، لا تنبئ بأن ثمة رغبة جادة في تحقيق تغيير جوهري في السياسة الأمريكية أو الصهيونية بالمنطقة. والتغيرات التي تناولنا الإشارة إليها في الحديث الماضي، لا تشير إلى أن ثمة تغييراً في الأهداف أو الاستراتيجيات الرئيسة. ففي لبنان، أكدنا في أكثر من حديث أن ما جرى من تطورات حتى الآن، مع التسليم بإيجابياتها، لم تتعد ما أطلقنا عليه مجازا باستراحة المحارب.
وبالنسبة للصراع الفلسطيني – الفلسطيني، والحديث عن التهدئة بين فتح وحماس، فإن الأمور لا تزال تراوح مكانها، والضغوط مستمرة على الرئيس الفلسطيني، “أبو مازن” للتراجع عن وعده بفتح آفاق الحوار. وقد جاءت وعوده لوزيرة الخارجية الأمريكية، كونداليزا رايس بأنه سوف يستمر بالتمسك بشروطه السابقة لفتح الحوار مع حماس، وفي مقدمة تلك الشروط اعتذار حماس عن انقلابها، والعودة دون قيد أو شرط للمرحلة التي كانت سائدة قبل الإنقلاب، وبضمنها التزام حماس بقرار السلطة بحل حكومتها، وتثبيت حكومة التكنوقراط التي يقودها فياض… نقول جاءت منسجمة مع قراءتنا هذه، ومخيبة لآمال الكثير ممن ساورهم الوهم بأن ثمة مرحلة استرخاء جديدة سيشهدها مسرح الصراع بين السلطة في رام الله وحكومة حماس في القطاع.
وفي العراق، كشف الإفصاح عن بنود الاتفاقية الأمنية بين الإدارة الأمريكية، وحكومة المالكي، والتي تواجه بردود فعل غاضبة من قبل مختلف القوى الوطنية العراقية، الهادفة إلى إبقاء العراق رهينة بيد الاحتلال لعقود قادمة، عن زيف الإدعاء الأمريكي بتحقيق المصالحة الوطنية، وأن ما يجري بالفعل حاليا، هو هروب إلى الأمام، بالأزمة المستعصية التي يواجهها الأمريكيون، بالمستنقع العراقي، بسبب الركلات الماحقة للمقاومة العراقية.
وفي المفاوضات السرية التي تجري، بين الحكومة السورية والكيان الصهيوني في أنقرة، والتي جرى الإعلان عنها، وعن شروط الكيان الصهيوني لتحقيق تقدم فيها، فإن المطلوب من السوريين هو تسليم كافة أوراق الضغط التي يمتلكونها للصهاينة، قبل الحصول على أي شيء، مقابل وعود فارغة، مجردة من أية ضمانات. ولعل شعور القيادة السورية بحراجة وضع تلك المفاوضات، هو الذي دفع بالرئيس بشار الأسد لزيارة دول الخليج العربي، سعيا وراء تحقيق تضامن مع الموقف السوري، ومحاولة لإعادة اللحمة للعلاقات مع السعودية ودول الخليج التي شابها شيء من سوء الفهم، في السنوات القليلة الماضية، حول عدد من الملفات، وفي المقدمة منها الملف اللبناني.
وعود إلى المقدمة النظرية التي بدأنا بها هذا الحديث، عن الأهداف والاستراتيجيات والتكتيكات، فإن ما جرى من تطورات بدون مقدمات، بدت وكأنها مشهد جديد منسلخ عن ما يجري فوق خشبة المسرح، يتجه بالمنطقة نحو الاستقرار، ليس هناك ما يؤكد جديته. فالهدف لا زال هو الهيمنة، والاستراتيجية هي إبدال النظام الإقليمي العربي، الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، بآخر شرق أوسطي، والتكتيك تبقى دائما مهمته، سواء بالجزرة أو العصا، بالترغيب أو الترهيب، هو تعضيد الموقف الاستراتيجي، وصيانته. ولعل المبادرة الأخيرة للرئيس الفرنسي ساركوزي، التي عنوانها اتحاد شرق المتوسط، والهادفة إلى إضعاف الأنظمة الإقليمية السائدة، ودمج البلدان العربية، بوسيلة جديدة، بالكيان الصهيوني، والإتحاد الأوروبي، دليل أخر على استنتاجنا هذا.
وإذا، فنحن لسنا أمام تحول في الأهداف الأمريكية أو الصهيونية. كما أننا لسنا في مجال الحديث عن تغير استراتيجي رئيسي، لأن مثل هذا التحول، كما أشرنا، هو رهن لتغيرات كبرى في السياسة الدولية، لا يبدو في الأفق المنظور أنه سوف يأخذ مكانه قريبا. أما التكتيكات، وما قلنا عنه إنه وقفة سياسية تعبوية، فليس هناك ما يؤكده، خاصة أننا على أبواب تغيير في طواقم القيادات السياسية في أمريكا والكيان الصهيوني، وكلتا الحكومتين تلعبان في الوقت الضائع. والأهم من ذلك بكثير، هو أنه لا يوجد ما يؤكد ن الحزبين الحاكمين في أمريكا والكيان العبري سيبقيان بالحكم، فهناك انتخابات على عتبة الأبواب، واحتمالات فوز الديموقراطيين في أمريكا لا تبدو بعيدة. وكذا الحال، مع حزب كاديما الذي لا يوجد ما يؤكد بقاءه في الحكم.
والخلاصة، أننا إزاء محاولات للعب في الوقت الضائع، من قبل إدارة الرئيس بوش الأمريكية، ومحاولة من قبل أولمرت لتقوية مركزه، أمام الأزمة الحادة التي يواجهها في الداخل، من خلال التشدد تجاه الاستحقاقات العربية… ونحن في النتيجة لا نزال بعيدين عن موسم الأمن والاستقرار… فذلك في النهاية رهن بما نملك من أوراق ضغط، وقدرة على الفعل… وتلك جميعها مرتبطة بالوعي والإرادة.
cdabcd
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة ماجد الخالدي)
بسم الله الرحمن الرحيم
في البداية لا بد من تسجيل كلمة شكر للدكتور يوسف حفظه الله على حرصه من خلال بذل وعصف الفكر ليتحفنا بقراءة معمقة وشاملة لقضايانا القومية العادلة .. يؤلمني جداً الوضع العربي والخيارات الوهمية التي تتطلع إليها القيادات العربية .. إن القيادة السورية والله أعلم بحسب القراءة الظاهرة لتحالفها مع طهران هي مما يقلق المراقب العادي مثلي لكن في المقابل ما هي البدائل أما دمشق غير الرمي بكل الأوراق التي أشرت إليها في سبيل الحصول على وهم آخر .. إن حالنا مع التحالف الأجنبي ينطبق عليه القول ويلي منه وويلي عليه .. لا شك أن سورية في حال دولي وإقليمي لا يسر الصديق وأرى أنه لا بديل أمامها من الحرص على استثمار آخر قطرة من التحالف مع إيران لكنه يبقى سلاح ذو حدين وعليه في ظل هذا المأزق الإقليمي المدفوع بالإستراتيجيات الدولية المهددة للأمة فسوف يبقى الخيار الأخير للأمة كلها إضافة لسورية- كان الله في عونها في التصدي للعدو الصهيوني ووقاها مفجئات السياسة من الحليف ومن غيره-هو اللجوء إلى الخيار الأخير وهو ما تفضلت به دكتور يوسف الوعي والإرادة فلن يأتي هدف دون ثمن، وثمن فرض واقع الوجود تجسده الأمة حتماً غال غال غال والله المستعان.